الفصل الثاني (2)
وانقطعت "بسمة" للصلاة والدعاء
خلال هذيْن اليوميْن بعد أن تركت ولديْها عند جارةٍ لها وتفرّغت للإقامة في
المستشفى بجوار زوجها الذي ظلّ فاقداً للوعي طوال هذه المدّة مُعلّقةً روحه بين
الموْت والحياة، وما إن تنفرد "بسمة" بنفسها حتى تنكب على سجّادة الصلاة
تبتهل إلى الله وهي تبكي أن يمن على زوجها بالنجاة فلن تقوى على الحياة بدونه فهو
حبيبها وزوجها وأبوها وأخوها وابنها أيْضاً، وكانت ترجو منه تعالى أن يعافي
محبوبها من آلامه وأن يشفيه تماماً من كل سقمٍ أو عِلّة أو إعاقة وإن لم يستجِب
فلن تعترض على ما قدّره له الموْلى من شللِ أو مرض فيكفيها أن تشعر بأنفاسه تتردّد
وأن تسمع صوْته يجلجل وأن ترى ابتسامته على وجهه الجميل، فقط كانت تتمنّى ألّا
يغيّبه الموْت بعيداً عنها فما برحت ذكرياتها معه تتراءى في مخيّلتها وكأنها حدثت
بالأمس فقط كشريطٍ سينمائي : لحظة أن تلاقيا أوّل مرّة في الجامعة - وقت أن تصارحا
بحبهما وتعاهدا على قضاء العمر معاً بحلوه ومرّه - يوم زفافهما وقضاء أوّل ليلةً
في عشهما الصغير - ساعة أن افتتحا عيادته ووقفت توزّع الحلوى بنفسها على المهنّئين
- حين شاركها في تأثيث عيادتها وقام بمساعدة العمّال في تعليق لافتة اسمها فوق
الشرفة - عندما حضر معها في حجرة الولادة عند إنجابها لابنهما ثم ابنتهما وكان
يقاسمها آلامها ويهوّن عليها أوجاعها - لمّا ذهبا معاً إلى الـ.......، وقطع عليها
حبل ذكرياتها الطويل قدوم ممرّضة العناية المركّزة وهي تهرول تستدعيها لتتفقّد
زوجها على سريره لأمرٍ هام، وكادت "بسمة" أن يغشى عليها خوفاً من أن
تكون سكرة الموت قد حضرت "كريم" وهو يحتضر في النزع الأخير فقامت وهي
تتعثّر في الركض حتى دخلت على زوجها فألفته ينظر ناحيتها وقد بدأ يفتح عيْنيْه
قليلاً في تراخٍ وهو واهن وقد فغر فاه عن ابتسامةٍ خفيفةٍ مرتخية لا تخلو من ضعفٍ
وإعياء، فلم تتمالك "بسمة" أعصابها فطفقت تجهش بالبكاء وتتهنّف وهي
منكبّةٌ فوق يده المبتلّة بدمعها السخين وأخذت تلثمها في شوْقٍ ونهم وقد جرت على
لسانها عبارات الشكر لربّها أن أفاء عليها بإنقاذ زوجها من براثن الموت وغياهبه.
ومرّ أكثر من شهرٍ عندما خرج
"كريم" من محبسه بالمستشفى وعاد إلى بيْته ولكن هذه المرّة وهو جالسٌ
على كرسيٍ متحرّك حيث صدق توقّع طبيبه وأصيب بشللٍ أعجز نصفه السفلي، ولكي لا
تُشعِره "بسمة" بضعفه أو عاهته وحتى لاتحمّله أعباءً نفسيّة فوق كاهله
فقد كانت تلبّي كل أوامره في لمح البصر حتى قبل أن يطلبها أو يذكّرها بها، ولم يكن
ذلك سهلاً على الزوجة التي أصبحت تقوم بكل شيءٍ حباً وكرامة وليس كُرهاً أو قسراً،
فهي تصحو منذ الفجر لتصلّيه أوّلاً وتتضرّع إلى الله ليستجيب زوجها للعلاج فيُشفَى
من شلله ويعود واقفاً وماشياً على قدميْه من جديد، ثم تبدأ في إعداد طعام هذا
اليوم وما إن تنتهي منه حتى توقِظ ولديْها فتُلبِسهما وتُفطِرهما وتوصِلهما إلى حضانتهما
بنفسها كي توفّر نفقات حافلتهما، ثم تعود لتوقِظ "كريم" وتقوم بعمل
حقنته الشرجيّة اليوميّة لأنه أصيب بإمساكٍ مزمن بسبب عدم الحركة ثم تزيل له
حفاضته المتّسخة نظراً لعدم تمكّنه من الشعور أو التحكّم بعمليتيْ الإخراج، ثم
تقوم بتحميمه وتنظيفه وإلباسه ملابس نظيفة وحفاضةً جديدة، ثمّ تقوم له بعمل علاجه
الطبيعي بنفسها بعد أن تعلّمت طريقته جيّداً، ثمّ تعد طعام الإفطار ليأكلا معاً ثم
تعطيه دواءه وتودعه فراشه وتذهب لعملها الإداري بالمستشفى الذي بدّلته مع عملها
كطبيبة حتى يتناسب مع ظروفها التى استجدت مع مرض زوجها دون أن تطيل عليه غيابها
فتستطيع الاستمرار في وظيفتها التي تحتاج راتبها لتنفق على مرض زوجها الذي تضاءل
راتبه بعد عجزه، ثم تنصرف من عملها لتمر على ولديْها فتصطحبهما للمنزل ويجلسون
سويّاً على مائدة الغداء، ثم تشرف على دراسة الابن والابنة وعندما تنتهي تودعهما عند
جارتها حتّى تعود ليلاً من عيادتها التي لا تقدر على الاستغناء عن إيرادها للوفاء
باحتياجات أسرتها التي أصبحت مسؤولةً عنها، ثمّ تعود فتسترد ولديْها وتطعمهما
العشاء وتضعهما في فراشهما، ثمّ تقوم بعناية الزوج وتلبية متطلّباته وتُلقِمه
علاجه وتنام أخيراً وهي في قمّة الإجهاد، وهكذا دواليك دون راحةٍ أو هدوء؛ ناهيك
عن الكثير من المرّات التي تصحو فيها لتقليب "كريم" حتى لا يصاب بأي
جلطات أو بتقرّحات الفراش والعديد من المرّات التي تقوم فيها بتغيير حفّاضاته
وتنظيفه كالطفل الصغير ومعظم الأوقات التي اضطرت لأخذ أجازةٍ من عملها لتحمل زوجها
وتذهب به إلى جلسات الأشعة أو تتردّد به على أطبائه المعالجين.