الجزء العاشر
بعد مرور قُرابة
الشهر على وصول القافلة إلى واحة "الفيّوم" دعا رئيس القافلة جميع المسافرين
معه وقال لهم:
- نحن لا نعرف متى ستنتهي الحرب
وبالتالي فلن نستطيع أن نستأنف رحلتنا .. ولا شك أن القتال سيستمر وقتاً طويلاً ..
ربما يبلغ سنواتٍ طويلة .. فهناك في كل من الجانبيْن مـحـاربون يتحلّون بالشجاعة
والإقدام .. فتلك ليست حرباً بين الأخيار والأشرار بل هي حربٌ بين قوتيْن تتنازعان
لإحراز السُلطة نفسها .. وعندما تنشب معركةٌ من هذا النوْع فإنها تدوم طويلاً لأن
السماء في هذه الحالة لا تكون مع طرفٍ ضد الآخر.
تفرَّق الجَـمْع، وفي
ذلك المساء رأى الشاب "فاطمة" وروى لها ما قيل في الاجتماع، فقالت
الفتاة:
- في لقائنا الثاني حدَّثتني عن حُبِّك
ثم علَّمتني بعدها أشياءً جميلة .. مثل لُغة العالَم وروح العالَم .. وكل ذلك جعلني
أُصبِح شيئاً فشيئاً جزءاً منك أنت.
كان الشاب يُصغي إلى
صوْتها، وكان وقعه لديه أجمل من وشوشة الريح بين سعف النخيل، وما لبث أن استأنفت
الفتاة حديثها معه:
- مضى وقتٌ طويلٌ وأنا أنتظرك في هذه
الواحة .. ولا أستطيع الآن أن أتذكَّر ماضيَّ ولا تقاليدنا ولا الطريقة التي يتوقَّع
بها الرجـال من نساء الصـحـراء أن يتـصـرَّفن .. منذ كنت طفلةً وأنا أحلم بأن
الصحـراء سـتـحـمـل لي ذات يوْمٍ أجـمـل هديّةٍ في حياتي .. وها هي الهديّة بين
يديَّ أخيراً .. إنها أنت.
أراد الفتى أن يُمسِك
بيدها، ولكن الفتاة تشبَّثت بمقبض جَرّتها، وأكملت:
- لقد حدَّثتني عن أحلامك وعن الملِك
العجوز وعن الكنز .. وحدَّثتني عن العلامات .. ولهذا فأنا لم أعُد أخشى شيئاً ..
لأن تلك العلامات هي التي جاءت بك إليَّ .. فـأنـا جـزءٌ من حُلمك ومن أسطورتك
الذاتيّة كـمـا اعـتـدتَ أن تقول لي .. ولهذا السبب نفسه فأنا أُريد أن تُتابِع
طريقك نحو ما جئت تبحث عنه .. إن كان ينبغي أن تنتظر حتى نهاية الحرب فهذا حسنٌ جِدّاً
.. أمّا إن تحتَّم أن ترحل قبل ذلك فارحل نحو أُسطورتك .. إن كثبان الرمال تتغيَّر
بفعل الرياح ولكن الصحراء تظل دائماً هي الصحراء .. وهكذا سيكون حبنا خالداً لن
يتغيَّر.
وتنهَّدت للحظة ثم
قالت:
- كل شيءٍ مكتوب .. إن كنتُ جُزءاً من أُسطورتك
فسوف ترجع لي.
شعر بالحُزن عندما
غادرها، وفكَّر في كثيرٍ من الناس الذين عرفهم، فكَّر في الرعاة الذين تزوَّجوا
ووجـدوا صعوبةً في إقناع زوْجـاتـهـم بـحـاجـتـهـم إلى التجوُّل في المراعي فالحب
يقتضي الوجود إلى جوار المحبوب.
وفي اليوْم التالي
تحدَّث "سنتياجو" عن هذه الأشياء مع "فاطمة"، فقالت:
- إن الصحراء تأخذ مِنّا رجالنا ولا تُعيدهم
أحياناً .. ويجب أن نقبل ذلك .. بوسعنا أن نراهم بعدها في السحاب الذي يمر دون أن
يُمطِر وفي الحيوانات التي تختبىء وسط الصـخـور وفي الماء السخي الذي ينبع من
الأرض .. فهُم يُصبِحون منذ ذلك الحين جُزءاً من الكُل .. أي من روح العالَم ..
وبعض الرجال يرجعون وعندئذ تغمر السعادة كل النساء .. لأن في ذلك احتمالٌ كبير أن
يرجع ذات يوْمٍ أولئك الرجال الذين ينتظرنهم هن أيضاً .. وكنتُ - من قبل - أُراقب
هاتيك النساء وأحـسـدهن على سعادتهن .. أمّا الآن فسيكون لي أنا أيضاً رجلٌ أنتظر
عوْدته بكل اشتياق .. أنا امرأةٌ صحراويّةٌ وأنا فـخـورةٌ بذلك .. أُريد لرجُلي
أيضاً أن يمضي طليقاً مثل الرياح التي تُحرِّك الكُثبان .. أُريده أن يتراءى لي في
السحاب وفي الحيوانات وفي المياه.
ذهب الشـاب لكي يبحثَ
عن الإنجليزي، أراد أن يُحدِّثه عن "فـاطمـة"، وأصابه شيءٌ من الدهشة
عندما وجد أن الإنجليزي قد صنع موْقِدا صغيراً إلى جوار خيْمته، وكان مـوْقِـداً
غريباً وضع فوْقه قارورةً شـفّـافـة، وكان الإنجليزي يُغذّي النار بالخشب ويتأمَّل
الصحراء، وبدت عيْناه أكثر التماعاً ممّا كانتا أثناء استغراقه في الكُتُب، وقال
الإنجليزي للفتى:
- هذه هي المرحلة الأولى من العمل ..
يجب أن أعـزل الكبريت النقي .. وللوصول إلى ذلك فيجب ألّا أخشى من الفشل .. فخوْفي
من الفشل هو الذي أقعدني حتى الآن عن محاولة إنجاز "العمل الكبير" ..
وها أنا الآن أبدأ ما كان يُمكِنني أن أبدأه منذ عشر سنواتٍ على الأقل .. ولكني
سعيدٌ لأنني لم أنتظر عشرين سنةٍ أُخرى.
واسـتـمـر يُغذّي
النار وهـو يتأمَّل الصحراء، وظل الشاب بُرهةً إلى أن اصطبغت الصحراء باللوْن
الوردي في ضوء الغروب، وشعر لحظتها برغبةٍ جارفةٍ في أن ينطلق إلى الصحراء لكي يرى
ما إذا كان يُمكِن للصمت أن يُجيبَ على تساؤلاته.
سار "سنتياجو"
على غير هدىً لبعض الوقت بدون أن يغيبَ عن بصره نخيل الواحة، استمع إلى الرياح
وشعر بالحصى تحت قدميْه، وكان يعثر في بعض الأحيان على قوْقعةٍ فيعرف أن هذه
الصحراء كانت في عصرٍ بعيدٍ بحراً مترامي الأطراف، وجلس فوق حجرٍ كبيرٍ واستسلم لإغواء
الأُفُق الذي يواجهه، لم يكن يستطيع من قبل أن يتصوَّر الحُب دون أن يمزجه
بالامتلاك ولكن "فاطمة" امرأةٌ صحراويّة، ولو كان ثَـمّة شيءٍ يُمكِن أن
يساعده على الفهم فهي الصحراء دون ريْب.
ظل على وضعـه ذاك
دون أن يُفكِّر في شيءٍ إلى أن جاءت لحظةٌ راوده فيها شعورٌ بأن ثَـمّة شيئاً يتحرَّك
فوْق رأسه، وحين رفع عيْنيْه إلى السماء رأى صـقـريـْن يُحـلِّـقـان على ارتفاعٍ
شـاهـق، راقب الطيْريْن الجـارحـيْن والتشكيل الذي يرسمانه أثناء طيرانهما، كان في
الظاهر خطوطاً مُتعرِّجة ولكنها كانت تعني شيئاً، غير أنه لم يستطِع ببساطةٍ أن
يكشف عن مغزاها، ومن ثَمَّ فقد قرَّر أن يُتابِع ببصره حركة هذيْن الطائريْن لعلّه
يتمكَّن من قراءة رسالةٍ ما، ربما تستطيع الصحراء أن تشرح له الحُب دون امتلاك،
شعر بسنةٍ من النعاس، لكن قلبه طلب إليه ألّا ينام بل أن يسترخي، وقـال لنفسه:
- ها أنا أتسرَّب إلى أعماق لُغـة العالَم
التي يتحدَّث بها الكوْن .. ولكل شيءٍ في تلك الأعماق معنى .. حتى تحليق صقريْن في
السماء.
وشعر بامتنانٍ عظيمٍ
لذلك الحُب الذي يكنّه لامرأة، فعندما نُحب يكون للأشياء معنىً أكبر.
وبغتةً انقض أحد
الصقريْن ليهاجم الآخر، وفي تلك اللحظة بالضبط باغتت الشاب رؤيا مُفاجِئةً وقصيرة:
حشدٌ مُسلَّحٌ يغزو الواحة مُشرِعا سيوفه، وسرعان ما انمحت الرؤيا لكن بعد أن
انطبعت في ذهنه بقوّة، كان قد سمع عن السراب ورآه بعض المرّات، فهو رغباتٌ تتجسَّد
على رمال الصـحـراء، ولكنه بالقطع لم يكن يرغب في أن يرى جيشاً يستولى على الواحة،
أراد أن ينسى ذلك كلّه وأن يـعـود إلى تأمُّله، حاول أن يُركِّـز مـن جـديدٍ على
الصحراء المُصطبغة باللوْن الوردي وعلى الحجارة، لكن هاتفاً في قلبه لم يشَـأ أن
يتـركـه في سلام، ألم يقُل له الملِك العجوز: "اتبع العلامات والإشارات
باستمرار"؟!، فكَّر بـ"فاطمة" وتذكَّر ذلك الحُلم الذي كان يراه
كثيراً، وجاءه حدسٌ أكيد بأن تلك الرؤيا المُفاجِئة توشِك أن تُصبِح حقيقة، واستطاع
بصعوبةٍ أن يتغلَّب على ما شعر به من القلق فنهض وسار في اتجاه النخيل، وأدرك مرّةً
أُخرى ذلك التعدُّد في معاني الأشياء، فالآن أصبحت الصحراء هي الأمن بينما أضحت
الواحة خطراً.
كان حادى الجِمال
يجلس إلى جذع نخلةٍ ويرقُب بدوْره غروب الشمس، ورأى الشاب يُقبِل من وراء أحد
الكثبان، وقال "سنتياجو" للحادي بمجرَّد أن اقترب منه:
- هناك جيْشٌ يقترب .. أبصرته في رؤيا.
- إن الصحراء تملأ قلوب الرجال بالرؤى.
ولكن الشاب
"سنتياجو" حدَّثه عن الصقريْن الذيْن تابع تحليقهما وكيف أنه نفذ فجأةً
إلى روح العالَم، لم يُجِب الحادي بشيء، وإن أدرك ما قاله مُحدِّثه، كان يعرف أن
أي شيءٍ على سطح الأرض يستطيع أن يروي حكاية كل الأشياء، فعندما يفتح إنسانٌ كتاباً
على أيّة صفحةٍ عشوائيّاً كيفما اتُفِق أو يقرأ كف إنسانٍ آخر أو يرى تحليق
الطيـور أو أوراق اللعب؛ فهو يستطيع أن يكتشف عـلاقـةً مـا بما هو في طريقة إلى أن
يحدُث، والحقيقة هي أن هذه الأشياء لا تكشف شيئاً بذاتها، ولكن البشر هم الذين
يكتشفون - حين يراقبون الأشياء - طريقةً ينفذون بها إلى روح الكوْن، والصحراء
مليئةٌ بأُناسٍ يكسبون عيْشهم لأنهم يستطيعون النفاذ بسهولةٍ إلى روح العالم وهم
معروفون بلقب العرّافين، ويخشاهم الشيوخ والنساء ولايستشيرهم المحاربون إلّا فيما
ندر، لأنه لا مجال للذهاب إلى قتالٍ لو عرف المحارب في أيّة لحظةٍ سيموت، إذ يُفضِّل
المحاربون دائماً استقبال المعركة ومواجهة المجهول، أمّا المستقبل فقد خطّه الله
سبحانه، وأيّاً كان ما قدَّره فهو لخير البشر، لهذا فإن المقاتلين لا يعيشون سوى
الحاضر وحده، لأن الحاضر مليءٌ بالمُفاجـأت، وعليهم ان يتأهَّبوا دائماً لكثيرٍ من
الأمور: كأين يكمن سيف الخصم وأين يوجد حصانه وما هي الضربة التي ينبغي لهم أن يوجِّهوها
لكي يتفادوا الموت.
ولم يكن الحادي مُحارِباً،
وقد سبق له أن استشار العرّافين، وكثيراً ما قال له بعضهم أشياءً حقيقيّةً وقال
آخرون أكاذيب، إلى أن جاء يوْمٌ سأله فيه أحدهم - وكان أكبرهم سِنّاً وأكثرهم
مهابةً - عن السبب الذي يهتم من أجله بمعرفة المُستقبل إلى هذا الحد، فأجابه
الحادي:
- لكي أتمكَّن من أن أفعل بعض الأشياء ..
ولكي أتجنَّب من ناحيةٍ أُخرى ما لا أُريد أن يحدث.
فردَّ عليه العرّاف:
- في هذه الحالة فلن يكون هذا هو مُستقبَلك.
- ولكن ربما كنت أود أن أعرف المُسـتـقـبَل
لكي أتأهَّب لما هـو مُـقـدَّرٌ لي أن يحدث.
- إن تكن هي أشياءً حسنةً فستجيء
كمفاجأةٍ طيّبة .. وإن تكن أشياءً سيّئةً فستُقاسي كثيراً من قبل أن تقع في حينها.
- أنا أُريد أن أعرف المُستقبل لأني
إنسان .. ولأن الناس يعيـشـون رهناً بمُستقبَلهم.
ظل العرّاف صامتاً
للحظة، كان مهنتهه هـي اللعب بالعيدان السحريّة التي كان يرمى بها على الارض
ويتنبّأ بالمستقبل بحسب طريقة وقوعها وترتيبها بعد سقوطها، ولكنه في ذلك اليوْم لم
يستخدم عيدانه بل لفّها في قطعة قماش ووضعها في جيْبه، وقال:
- أنا أكسب عيْشي من التكهُّن بمُستقبل
الناس .. ولدي خبرةٌ كبيرة في فن العيدان وكيفيّة استخدامها للنفاذ إلى معرفة الغيْب
.. وأستطيع أن أقرأ فيها الماضي وأن أكتشف الأمور المنسيّة وأن أفهم علامات الحاضر
.. وعندمـا يسـتـشـيـرني الناس فإني لا أقرأ المستقبل بل أتكهَّن به .. لأن
المستقبل بيد الله وحده ولا يكشف سِرّه إلّا هو في ظروفٍ استثنائيّة .. فكيف إذن أتكهَّن
بالمُستقبل؟ .. ذلك بفضل علامات الحاضر .. ففي الحاضر يكمُن السِر .. وإذا انتبهتَ
إلى الحاضر فيمكنك أن تجعله أفضل .. وإن حسَّنتَ الحاضر فسيكون مـا يتلوه أفضل أيضاً
.. إنسَ المُستقبل وعِش كل يوْمٍ من حياتك حسبما تُمليه شريعة الله واثقاً من
رحمته تجاه خلقه .. فكل يوْمٍ يحمل في طيّاته الأبديّة بعيْنها.
وأراد الحادي أن
يعرف ما هي الظروف الاستثنائيّة التي يسمح فيها الله برؤية المستقبل، فردَّ عليه
العرّاف:
- عندما يكشف هو – سبحانه – عنه .. وهو
لا يكشف عنه إلّا فيما ندر .. ولسببٍ وحيد: أن يكون ذلك المُستقبل قد كُتِب لكي يتغيَّر.
وفكَّر حادى الجِمال
أن الله قد كشف للشاب عن مُستقبله لأن مشيئته قضت بأن يكون الشاب أداته، فقال:
- اذهب وقابل رؤساء القبائل وحدِّثهم عن
المحاربين القادمين.
- سیسخرون مني.
- هم رجالٌ صحراويّون .. ورجال الصحراء
يألفون العلامات والإشارات.
- إذن فلا بُد وأنهم قد عرفوا ذلك
مُسبقاً.
- ذلك ليس شأنهم .. هم يؤمنون بأنهم إن
كان يجب أن يعلمـوا شيئاً - قضت مشيئة الله أن يعلموه - فسيأتي مَن يُخبرهم .. حدث
ذلك من قبل مِراراً .. أمّا اليوم فأنت الرسول حامل البلاغ الذي سيبلغهم.
فكَّر الشاب في "فاطمة"،
وقرَّر أن يذهب لمُقابلة رؤساء القبائل.
قال للحارس القائم
على باب الخيْمة البيْضاء الكبيرة المنصوبة وسط الواحة:
- أنا أحمل رسالةً من الصحراء وأود أن
أتحدَّث إلى الرؤساء.
لم يرد الحارس بشيءٍ
واختفى داخل الخيْمة، وظل هناك فترةً طويلةً ثم خرج وبصحبته شابٌّ عربيٌّ يرتدي ثوْباً
أبيض مُذهَّباً، وحكى له الشاب ما رآه، فطلب منه أن ينتظر لحظة، ثم دخل من جديد
الى الخيْمة تاركاً "سنتياجو" مُنتظِراً.
هبط الليْل، وكان
هناك أعرابٌ وتُجّارٌ يدخلون ويخرجون بأعدادٍ كبيرة، وشيئاً فشيئاً أخذت الخيام تُطفِئ
أنوارها، وباتت الواحة بعد قليلٍ ساكنةً سكون الصحراء، وفي خلال ذلك الوقت كله لم
يكُف الشاب عن التفكير في "فاطمة"، ولم يكن قد فهم جيّداً - حتى ذلك
الحين - ذلك الحوار الذي دار بينهما بعد ظهر اليوْم، وأخيراً وبعد عِدّة ساعاتٍ من
الانتظار سمح له الحارس بدخـول خيْمة رؤساء القبائل، وأصـابـه مـا رآه بالذهول،
فـمـا كـان له أن يتـخـيَّـل قط أن توجد في قلب الصحراء مثل هذه الخيْمة، فقد كانت
الأرض مُغطّاةً بأجمل سجاجيدٍ خطا فوقها في حياته، وكانت تتدلّى من أعلى ثريّاتٌ مُذهَّبةٌ
ومُرصَّعةٌ بالجواهر تحمل الشموع الموقَدة، وكان رؤساء القبائل يجلسون في عُمق
الخيْمة في نصف دائرةٍ وهم يتَّكِئون بمرافـقـهـم ويمـدّون أرجلهم على حـشـايا من
الحرير المُطرَّز تطريزاً بديعاً، وكان هُناك خدمٌ يروحون ويجيئون ويحملون بأيديهم
صـوانٍ مُـحَمَّـلةً بأشهى المأكولات وهـم يُقـدِّمـون الشاي، في حين انهـمك آخرون
في المُحافظة على اشـتـعـال جـمـر النارجيلات، وعبَّق الجوْ عِطر تبغٍ زكي
الرائحة.
كان يجلس في الخيْمة
زعماءٌ ثـمـانيـة يتجاورون على شكل نصف دائرة، ولكنه أدرك على الفوْر أيّهم هو
الأرفع مقاماً: كان شيْخاً عربيّاً يرتدي ثوْباً أبيض مُذهَّباً ويجلس في قلب
الحلقة وإلى جواره الشاب الذي تحدَّث إليه قبل قليل، وسأله أحد الرؤساء وهو يتطلَّع
إليه:
- أأنت الغريب الذي تحمل رسالةً من الصحراء؟
فرد "سنتياجو":
- هو أنا.
ثم حكي ما رآه، فقال
رئيس قبيلةٍ أُخرى:
- ولماذا إذن تبوح الصحراء بهذه الأشياء
إلى أجنبيٍ آتٍ من بعيد وتتجاهلنا نحن الذين نعيش فيها منذ عِدّة أجيال؟!
- لأن عيْنيَّ لم تألفا الصحراء بعد .. فهي
تستطيع أن ترى أشياءً لم تعُد الأعيُن الأليفة قادرةً على أن تراها.
وخطر على باله سببٌ
آخر لم يُفصِح للجمع عنه لكنه ردَّده في قرارة نفسه:
- ولأنني أيضـاً أعـرف مـا هي روح
العـالـَم.
ولم يقُل لهم تلك العبارة
الأخيرة لأنه يعرف أن الأعراب لا يؤمنون بهذه الأشياء، وقال زعيمٌ ثالث:
- إن الواحة أرضٌ محايدة .. لا أحد يُهاجِم
الواحات.
فردَّ عليه
"سنتياجو" بلهجةٍ قاطعة:
- أنا لا أروي سوى ما رأيت .. إن أردتم
ألّا تصدقوني فانسوا الأمر.
أطبق على الخـيْـمـة
صـمـتٌ شـامل، تلاه تشـاورٌ مُـتـوتِّرٌ بين رؤسـاء القبائل، كانوا يتكلَّمون
العربيّة بلهجةٍ محليّةٍ لم يفهمها الشاب، ولكنه عندما هَمَّ بأن يستدير استعداداً
للخروج طلب منه الحارس أن يبقى، وبدأ يشعر بنوْعٍ من الخوْف، وقالت له العلامات إن
هناك شيئاً ما يجري على ما لا يُرام، وندم على أنه تكلَّم عن ذلك الأمر مع حادي
الجِمال، وفجأة ابتسم الرجل العجوز الجالس في الوسط ابتسامةً لا تكاد تُلحَظ فعاوده
الاطمئنان، لم يشترك العجوز في المناقشة ولم يكَد ينطِق بكلمةٍ حتى تلك اللحظة،
ولكن الشاب كان قد أَلِف الآن لُغة العالَم واستطاع أن يشعر بموْجةٍ من السلام تعبُر
الخيْمة من أولها إلى آخرها، وقال له حـدسـه إنه أحسن صُنعاً بمجيئه.
انتهى النقاش وسكت
الجميع ليصغوا إلى ما يقوله الشيْخ، الذي التفتَ نحو الشاب وقد اصبحت قسمات وجهه
لحظتها باردةً وجافّة، قال الشيخ:
- قبل ألفيْ عامٍ وفي بلدٍ بعيد أُلقي بفتىً
في بئرٍ عميق .. كان الفتى يُؤمِن بالأحلام وقد تم أسره وبيْعه بيْع الرقيق فاشتراه
تُجّارٌ من عندنا وجاءوا به إلى "مصر" .. ونحن نعرف أن كل من يُؤمِن
بالأحلام يعرف أيضاً تفسيرها .....
ردَّد الشاب في
قرارة نفسه وهو يتذكَّر الغجريّة العجوز:
- وإن كان لا يستطيع دائماً تحقيقها.
وتابع الزعيم
حكايته:
- ..... واستطاع ذلك الفتى - بعد أن صار
شابّاً - أن يُخلِّص "مصر" من المجاعة بفضل حُلم فرعوْن عن البقرات
السمان والعجاف .. كان اسمه "يوسُف" وكان مثلك أجنبيّاً غريباً في أرضٍ
غريبة .. والأرجح أنه كان في مثل سِنّك.
طال الصمت وظلّت
النظرة في عيْن الشيْخ باردةً، ثم أكمل:
- نحن نتَّبع التقاليد دائماً .. فالتقاليد
قد أنقذت "مصر" من المجاعة في زمنٍ مضى وجعلت شعبها من أغنى شعوب الأرض ..
وتعلِّمنا التقاليد كيف ينبغي على الرجال أن يعبروا الصحراء وكيف ينبغي أن يزوِّجوا
بناتهم .. وتقول التقاليد إن الواحة أرضٌ حرام .. لأن لكلٍ من المُعسكَريْن واحاتٍ
مُعرَّضةً للخطر أيضاً.
ولم ينبس أحدٌ بحرفٍ
بينما أكمل العجوز كلامه:
- ولكن التقاليد تقول لنا أيضاً أن نُصدِّق
رسائل الصحراء .. فكل ما نعلمه علَّمتنا الصحراء إيّاه.
وأشار الشيْخ بيده
فهبَّ الجميع واقفين، وانتهى الاجتماع وأُطفئِت النارجيلات، واعتدل الحُرّاس في
وقفتهم، وبينما تأهَّب الشاب للانصراف استأنف الشيْخ حديثه:
- غداً سنلغي الاتفاق الذي يقضي بألّا
يحمل أحدٌ داخل الواحة سلاحاً .. وسنُعيد لكل رجلٍ سلاحه .. وسننتظر العدو أثناء النهـار
.. وعندمـا تميل الشمس للمغيب سيُعيد الرجـال إلىَّ أسلحتهم .. ومقابل قتل كل عشرةٍ
من الأعداء ستُمنَح قطعةٌ من الذهب .. غير أن الأسلحة لا يُمكِن أن تخرج إلّا لخوْض
المعركة .. لأن للأسلحة نزواتها وإغراءاتها .. تماماً مثل الصحراء .. وإذا ما
أخرجناها عبثاً فقد تحرن فلا تُطلِق منها النار .. وما لم يُستخدم أيٌ منها غداً فربما
يُستخدَم أحدها ضدّك أنت.