كنوز الملك سليمان ( 6 والأخير)
وسمعنا صوت "جاجول" وهي تقول:
والآن .. أدخلوا أيها الرجال البيض الذين جاءوا من النجوم .. ولكن عليكم أولاً أن
تسمعوا كلمات "جاجول" العجوز .. إن أحداً لا يعرف من هم الذين أحضروا
تلك الأحجار البراقة وحفظوها في تلك الغرفة .. ومنذ أن قام هؤلاء بإغلاق الغرفة
ورحلوا، لم تفتح هذه الغرفة سوى مرة واحدة فقط .. حين جاء أحد الرجال البيض من
وراء الجبال منذ سنين طويلة .. وكانت هناك امرأة عجوز أرشدته إلى سر الباب الخفي
.. وقد دخل ذلك الرجل الأبيض إلى غرفة الكنوز .. ووجد أحجاراً لامعة براقة، فملأ
حقيبة مصنوعة من جلد الماعز بتلك الأحجار .. وعندما همّ بالخروج، التقط بيده قطعة
كبيرة من تلك الأحجار اللامعة .. ولكن لسبب ما أصيب الرجل الأبيض بالرعب، فألقى بالحقيبة
المملوءة بالأحجار اللامعة على الأرض، واحتفظ بقطعة الحجر الوحيدة التي كان يمسكها
في يده وفر هارباً! .. وعندما خرج أخذها من الملك الذي كان يحكم
"كوكوانا" في ذلك الزمن ومنذ ذلك الحين، كان يأخذها كل ملوك
"كوكوانا" واحداً بعد الآخر .. انها نفس قطعة الحجر اللامع التي كانت
تزين جبهة الملك "توالا" .. والتي تزين الآن جبهة الملك
"أجنوسي" .. وتقول لكم "جاجول" العجوز .. أن من يجرؤ على
الدخول إلى هذه الغرفة فإنه سيموت خلال شهر قمري واحد ..
كانت "فولاتا" تسمع تلك الكلمات
وهي ترتعد، وكل جزء من جسمها كان يرتعش ويرتجف من شدة ما كانت تعانيه من خوف وهلع
.. كانت حالتها مؤسية تثير الشفقة .. وطلبت منا أن نتركها لكي تستريح بجوار الجدار
وأن ندخل نحن إلى غرفة الكنوز .. وبالفعل تركناها، ووضعنا بجوارها سلة الطعام التي
كانت تحملها .. ودخلنا .. تتقدمنا "جاجول" وهي تحمل المصباح.
وجدنا خلف مدخل الغرفة مباشرة حقيبة مصنوعة
من جلد الماعز ملقاة على الأرض .. وكانت مملوءة عن آخرها بأحجار الماس .. ووجدنا
نحو اثني عشر صندوقاً خشبياً مدهونين كلهم باللون الأحمر .. وكانت هذه الصناديق
تحتوي على قطع من العملات الذهبية نقشت عليها حروف غريبة .. كما وجدنا ثلاث خزائن
مصنوعة من الحجر .. وعندما قرّبنا المصباح لنرى ما فيها، لم نستطع في البداية أن
نرى شيئاً .. فقد كاد بريق الماس أن يخف أبصارنا .. كانت الخزائن مملوءة كلها
بأحجار من الماس الخام .. ومعظم هذه الأحجار كانت كبيرة الحجم ..
وعندئذ قالت "جاجول" بصوتها
الكريه: ها هي الأحجار اللامعة البراقة التي تحبونها .. إرفعوها بين أصابعكم
لتتمتعوا بمرآها .. كلوها .. إشربوها .. ها .. ها !
وقفنا صامتين .. وبريق الماس يتلألأ حولنا
كلما سقط عليه نور المصباح .. ولم يعد أمامنا الآن سوى أن نحملها ونرحل ..
وجلسنا على الأرض لنفكر في كيفية نقل كل تلك
الكنوز إلى الخارج .. ونحلم بما سوف نعمله بتلك الثروات الطائلة التي ستجعلنا من
أغنى أغنياء العالم .. ولكن أحداً منا لم يتنبه إلى تلك النظرات المخيفة المملوءة
بالحقد والشر، التي وجهتها إلينا الساحرة "جاجول" وهي تتسلل زاحفة في صمت،
وخرجت من الغرفة، واتجهت صوب الباب الصخري الكبير الذي دخلنا منه.
وفجأة .. سمعنا "فولاتا" تصرخ
بأعلى صوتها: النجدة .. النجدة .. احذروا .. إن الباب الحجري سيغلق .. إلحقوني ..
إلحقوني .. لقد قتلتني .. !
تركنا كل شيء وجرينا صوب الصراخ ورأينا الباب
الحجري وهو يهبط ببطء ليسد فتحة الجدار التي دخلنا منها .. ورأينا الفتاة المسكينة
"فولاتا" غارقة في دمائها وهي تتصارع مع الساحرة العجوز وتحاول الإمساك
بها .. ولكن العجوز الشريرة أفلتت وواصلت زحفها نحو فتحة الصخرة الهابطة .. ولكن
الصخرة أطبقت عليها، وبالرغم من صراخها اليائس من شدة الألم، سمعنا طقطقة عظامها
وهي تسحق تحت الصخرة الثقيلة.
حدث كل هذا في لحظات قصيرة .. واستدرنا إلى
"فولاتا" .. فوجدنا سكيناً كبيرة كانت مغروسة في صدرها .. وكانت الدماء
تتدفق من جرحها بشكل أحسست معه بأن الفتاة لن تعيش سوى لحظات معدودة .. وتقدم إليها
"الكابتن جود" وأمسك بذراعيها وحاول أن يضمها إلى صدره، وهو يبكي حزناً
وألماً .. وطلبت مني "فولاتا" أن أترجم كلماتها الأخيرة التي تريد أن
تقولها "لكابتن جود" قبل أن ترحل .. وقالت بصوت ضعيف واهن: إن الكابتن
لا يعرف لغتي .. فقل له يا سيدي إني أحبه .. قل له إني مسرورة وسعيدة بموتي ..
لأني أعرف أن الحياة لا يمكن أن تجمعني معه في هذا العالم .. قل له أني منذ رأيته
لأول مرة وأنا أحس كأن قلبي طير يرفرف بجناحيه في صدري ويغني أغنيات كلها عذوبة
وحلاوة .. قل له أني إذا عدت إلى الحياة بعد موتي .. فسوف ألقاه في العالم الآخر
.. في نجوم السماء العالية .. وسوف أفتش عنه في كل تلك النجوم نجماً نجماً.
وكانت هذه آخر كلمة استطاعت أن تنطقها قبل أن
يميل رأسها على صدر الكابتن وترحل .. وانفجر الكابتن في بكاء حزين .. وعلّق
"سير هنري" على هذا الحزن بقوله: إن الأمر لا يحتاج لكل هذا الحزن الآن
يا صديقي .. فبعد قليل ستلحق بها .. ألا ترى أن الباب الحجري قد أغلق علينا ..
وأننا الآن نعيش في قبرنا ..؟!
وأخذ ضوء المصباح يخفت رويداً بعد أن أوشك
زيته على النفاد .. وتوهجت آخر شعلة قبل تذوى .. وعلى ضوئها رأينا آخر مشهد:
صناديق مملوءة بالذهب .. وجثة الفتاة الجميلة "فولاتا" .. والحقيبة
الجلدية المملوءة بقطع الماس .. وبريق الماس الآخر الذي كان موضوعاً في الخزائن
الحجرية .. ووجوهنا نحن الثلاثة الجالسين على الأرض في انتظار الموت كمصير محتوم
.. وانطفأت شعلة المصباح .. وحل ظلام دامس !
عز علينا النوم، ولم يغمض لنا جفن بسبب الصمت
المطبق الذي كان يلفنا ويلف كل شيء حولنا .. كنّا مسجونين في قلب جبل عالٍ تغطي
قمته الثلوج .. وكانت معنا في هذا القبر كنوز تغني أمة بأكملها .. وكنا مستعدين
لاعطاء هذه الكنوز كلها لأي شخص يعطينا ولو مجرد أمل ضعيف في النجاة والخلاص .. بل
وكنا مستعدين للتنازل عنها في سبيل قليل من الطعام وكوب من الماء .. بل وحتى في
سبيل أن يأتينا الموت بسرعة بدلاً من هذا الموت البطيء الذي بدأنا نحس خطاه لحظة
بعد أخرى.
ومرت الدقائق كأنها ساعات .. ومرت الساعات
كأنها أيام .. ومرت الأيام كأنها سنوات طوال .. وكان "سير هنري" يحاول
دائماً أن يشد من أزرنا ويشجعنا على التفاؤل بالقول بأننا ما دمنا على قيد الحياة،
فلا بد أن يكون هناك أمل.
وفجأة .. سنحت في ذهني فكرة طارئة فقلت
فرحاً: ألا تلاحظون أنه بالرغم من مرور كل هذا الوقت، فإن الهواء لم يفسد ولم
نختنق .. معنى ذلك أن الهواء يتجدد، ولا بد أن هناك منفساً يدخل منه الهواء
ويخرج .. !
وعاد إلينا الأمل .. وأخذنا نزحف على أيدينا
وركبنا، ونتحسس كل جزء في المكان، لعلنا نعثر على ثقب صغير يتخلله تيار الهواء
مهما كان ضعيفاً .. وأخيراً .. عثرنا على شرخ في الأرضية الصخرية .. وعلى حلقة
صخرية تكاد أن تكون ملتصقة تماماً بأرضية الغرفة.
ولم نضيع الوقت وبذلنا كل ما كان في جهدنا
لكي نحرك الصخرة التي كانت ملتصقة بالحلقة .. وأحسسنا كأن هناك درجات سلم ..
فنزلنا واحداً بعد الآخر .. ولكني طلبت من الرفاق قبل أن نغادر غرفة الكنوز أن
نأخذ معنا ما نستطيع حمله .. فلم يوافقني "السير هنري" وقال: اللعنة على
كل الماس الدنيا ! .. أما "الكابتن جود" فقد كان منهمكاً في اللحظات
الأخيرة في وداع مناسب لتلك الفتاة المسكينة التي أحبته بكل صدق .. أما أنا فقد
ملأت جيوبي بقطع من الماس من الصندوق الأول، وأخذت أيضاً بعض القطع ذات الحجم
الكبير من الصندوق الثالث ..
ونزلنا درجات السلم بحذر .. وكنا نتحسس
الجدران بأيدينا قبل أن نخطو كل خطوة .. وأدت بنا الدرجات إلى ممر .. وأدى بنا
الممر إلى ممر آخر .. وقضينا ساعات طويلة في ممرات كانت تبدو بلا أول ولا آخر ..
وأخيراً رأينا بقعة من الضوء الخافت تبدو وكأنها في مكان بعيداً جداً، ولكنها كانت
كافية لبعث الأمل .. فنسينا تعبنا ويأسنا، وبدأنا نتلمس طريقنا تجاه الضوء بأسرع
ما نستطيع.
وفي نهاية الطريق وجدنا صخرة كبيرة تسد
المنفذ الذي يتسلل من الضوء فأزحناها .. وخرجنا واحداً تلو الآخر.
كانت الشمس قد غربت وبدأت السماء تمتلئ
بالنجوم المتلألئة .. وموجات النسيج تتدفق بالهواء النقي .. وقضينا الليل سعداء
بنجاتنا .. وعندما هل نور الصباح، رأينا دخاناً يتصاعد من نار موقدة أمام بعض
الأكواخ .. كما رأينا بعض الرجال الذين لم ينتبهوا إلينا في البداية .. فاتجهنا
إليهم .. ورآنا أحدهم فارتمى على الأرض وأخذ يصيح من شدة الخوف، فعرفناه وناديناه:
إنفادوس .. لا تخف .. نحن اصدقاؤك .. ألا تعرفنا ..؟!
فنهض "إنفادوس" وتقدم إلينا وهو لا
يصدق عينيه، وقال لنا بكل دهشة: كيف عدتم من الموت..؟!
وذهبنا لتوديع الملك "أجنوسي" وكان
وداعاً مؤثراً .. تخللته دموع الفراق .. وأرسل معنا عمه "إنفادوس"
ليرشدنا إلى طريق جديد عبر الجبال .. وهو طريق مختصر وأكثر راحة من الطريق الطويل
الشاق الذي جئنا منه .. وودعنا "إنفادوس" عندما وصلنا إلى منطقة واسعة
تغطيها الخضرة وتملأها الأشجار الغنية بالثمار.
وبعد مسيرة ثلاثة أيام .. حدثت أغرب مفاجأة
منذ أن بدأت مغامرتنا المثيرة .. فقد رأينا كوخاً صغيراً جميل الشكل وسط الأشجار
.. وفجأة، فتح باب الكوخ وخرج منه رجل أبيض يرتدي ثياباً من جلود الحيوان .. كان
يعرج في سيره .. وتبدو رجله اليمنى وكأنها مكسورة .. وكانت لحيته السوداء كثيفة
جداً ..
وما أن اقترب منا هذا الرجل الغريب، حتى
فوجئت "بالسير هنري" يصيح بأعلى صوته: أخي جورج .. أخي جورج !!
وتعانق الأخوان عناقاً حاراً ..
ثم فوجئنا بظهور رجل آخر من خلف الكوخ وكان
يحمل بندقية .. وعندما رآنى اندفع نحوي وأخذ يصيح: ألا تذكرني يا سيدي؟ .. أنا
"جيم" الصياد الذي صاحبت "مستر نيفيل" في رحلته .. لقد عشنا
هنا سنتين متتاليتين ..
وشرح لنا "مستر نيفيل" كيف حاول
عبور جبال سليمان منذ حوالي سنتين .. ولكن صخرة سقطت على رجله اليمنى فكسرتها ..
وبسبب ذلك لم يستطع أن يواصل رحلته إلى كنوز سليمان .. ولم يستطع أيضاً أن يعود
إلى مدينة "دربان".
***********
لقد مضت الآن ستة شهور على هذه الأحداث ..
وأنا أجلس الآن في بيتي الصغير بمدينة "دربان" وأكتب لكم آخر أحداث تلك
الرحلة المثيرة .. وقد وصلني اليوم خطاب من "السير هنري كيرتيس" .. هاكم
نصه بالكامل:
برايلي هول، يوركشير
الأول من أكتوبر 1884
عزيزي "كوترمين"
لقد أرسلت إليك خطاباً منذ ثلاثة أسابيع
أخبرك فيه بأننا وصلنا، أنا وأخي "جورج" و "الكابتن جود"
بسلام إلى انجلترا .. وذهبنا إلى لندن سوياً ..
وأرجو أن تعلم أننا ذهبنا إلى بعض الجواهرجية
لنعرف القيمة الحقيقية للماس الخاص بك .. وأخشى أن أخبرك بالمبلغ الذي قدروه، فهو
مبلغ كبير جداً جداً .. ونصحونا أن نبيع قليلاً من الماس على فترات متباعدة، ولا
نبيع كل الماس في صفقة واحدة، وذلك حتى نحصل على أعلى سعر ممكن في كل مرة .. وعرضوا
دفع مائة وثمانين ألفاً من الجنيهات مقابل كمية صغيرة من هذا الماس.
وأريد منك يا صديقي العزيز أن تفكر جدياً في
العودة إلى انجلترا .. وأن تشتري بيتاً مناسباً في موقع قريب منا .. لقد اشتغلت
كثيراً وبما فيه الكفاية، وأصبحت الآن غنياً تملك أموالاً طائلة .. وهناك منزل
جميل بالقرب منا سيروقك تماماً، وهو معروض للبيع ويمكنك أن تشتريه.
وأنا على يقين بأنك ستحضر فوراً، لأن ذلك
سيسر صديقك المخلص.
"هنري كيرتيس"
ونحن الآن في يوم الثلاثاء
وهناك سفينة ستبحر إلى انجلترا يوم الجمعة
وأنا أفكر جدياً في أن أفعل كل ما قاله صديقي
العزيز "هنري كيرتيس"!!