مصر على كف عفريت (9)
إعادة هيكلة الفول
كنا نتحلّق أمام عربة فول في إحدى ميادين
العاصمة، و كان أحدنا ينتظر دوره، و يقرأ علينا عناوین إحدى الجرائد الحكومية، و
بجواره شحاذ يعده بالجنة إذا استجاب له؛ فتشاغل عنه المثقف بقراءة العناوين:
- "سيتم ربط الأجور بالأسعار كما يربط
الونش بالعربة المخالفة".
قال البائع:
- "أنا بادفع كل يوم عشرة جنيه علشان
أقف هنا، لا الونش يتعرض لي و لا حتى زوارق إيران".
قال المثقف:
- "سيتم زيادة مربوط خريج الجامعة، و
سيتم ربط المواطنين على البطاقة"
. فصرخ شاب في وجهه:
- "جرى إيه؟! إنت مفيش عندك غير الربط؟
هيه دي صحفة الظبط و الربط"؟
التصق الشحّاذ بالمثقف الذي راح يقرأ عليه
أسعار الذهب في الأسواق العالمية، فنبهه الشاب أن الرجل يطلب "معونة"
فقال المثقف:
- "أنا مش كونجرس، دي عربية فول يتجمع
حولها الفقراء في وقفة احتجاجية".
فتركه الشحاذ و اقترب مني، و عندما شاهد
ملابسي ابتسم و انصرف إلى شخص آخر. و قال البائع:
- " اسمعوني كويس، إذا وصلت الإزالة أو
شرطة المرافق، كل واحد يجري بالطبق بتاعه و نتقابل في شارع الحلفاوي".
فقال الشاب:
- فين في شارع الحلفاوي؟ يا ريت تكون حتة
ضل".
فاعترض المثقف و طلب أن نتقابل أمام
"الأتيليه".
ثم استمر في القراءة:
- " أعلنت لجنة السياسات أن هناك إعادة
هيكلة لإحداث التوازن".
ثم سألني:
- إيه رأيك؟
فقلت:
- " الملح كتير شويّة، لكن الطرشي مش
بطال".
فقال:
- "أنا أسألكم عن إعادة
الهيكلة".
فقال الشاب:
- "ماشوفتهاش، لكن شوفت إعادة الملك
فاروق".
اقترب الشحاذ من البائع فسأله البائع:
- "تفطر"؟
قال الشحاذ:
- "أفطر بس مش فول زيهم".
فسأله البائع: - "مش عايز تاكل فول
ليه"؟
قال الشحاذ:
- "أصل ما أعرفش فين شارع
الحلفاوي".
كانت الإزالة تقترب و نحن نرمح بالأطباق في
اتجاه شارع الحلفاوي و الأمن المركزي وراءنا بالعصي، بينما كان المثقف يقرأ تصريح
للسيد الرئيس يتحدث فيه عن كرامة المصريين.
مجتمع بلا سقف
أهون ما ينهار في مصر الآن هو أسقف العمارات.
فمعظم أسقف المجتمع تنهار، و إذا كانت الحكومة تشكو من انفلات الشارع و الطوائف و
الصحف و الفضائيات، فإن النظام السياسي هو الذي بدأ بهدم الأسقف الخاصة به كضوابط
في الدستور و القانون سواء في التساهل مع المستثمرين أو التنكيل بالمعارضة. في
العام الجديد (۲۰۰۸) سوف
نحتفل بمرور تسعين عاما على ميلاد الرئيس جمال عبد الناصر، و مرور ثمانين عاما على
ميلاد الرئيس حسني مبارك؛ أي انه منذ منتصف القرن العشرين حتى الربع الأول من
القرن الواحد و العشرين لم يتحرك عمر الجالس على مقعد الرئاسة إلا عشر سنوات بسبب
هدم سقف فترة الرئاسة و ترکها مفتوحة. إن جلالة الملك فاروق الأول، و فخامة الرئيس
مبارك عليهما من مواليد العشرينيات من القرن الماضي؛ أي أن الأجيال من الثلاثينيات
حتى الستينيات، و هي أجيال حية عاصرت الحروب و الثورات و الانتصارات و الانكسارات،
لم تجد فيهم مصر من يصلح حتى كنائب رئيس، و تمت التضحية هذه الأجيال لعدم وجود سقف
لمدة الرئاسة. إن الرئيس الأمريكي جورج بوش سوف يغادر البيت الأبيض في تمام الساعة
الثانية عشرة من ظهر يوم الثلاثاء، عشرين يناير القادم في سيارة سوداء بدون سائق
توصله إلى مطار واشنطن، و يتركها هناك ليستقل طائرة عادية إلى تكساس؛ و هو الرئيس
الوحيد الذي نعرف متى و كيف يغادر باليوم و الساعة، و سوف يصطحب معه معاونيه، لكنه
بالطبع لن يصطحب معه أصدقاءه.
زلزال أونطة
في الأسبوع الماضي أعلنوا عن وقوع زلزال قوته
أكثر من (6) على مقياس ريختر، و قد لاحظت و بعض ما ألاحظه إثم - أنه بعد كل افيار
كبير لعمارة تصبح حديث الناس يتم الإعلان عن زلزال "أونطة" يؤكد للناس
على طريقة الأمن أن العمارات الواقعة حالات فردية، و ليست ظاهرة و أن القاعدة
سليمة و يجلس عليها البوابون باطمئنان في مدخل العمارات، بدليل أن الزلزال لم يؤثر
فيها، و قد حدث ذلك من قبل مع عمارة مصر الجديدة على سبيل المثال. في كل الدنيا
تقوم الزلازل ثم تنهار العمارات. و ننفرد نحن بأن تنهار العمارات أولا ثم تقوم
الزلازل؛ فالزلازل أنواع، و كل نوع له معني، فهناك "زلزال حقيقي" يحدث
بسبب انهيار الكتل في باطن الأرض، و "زلزال أونطة" يحدث بسبب انهيار
العمارات فوق سطح الأرض. و الأونطة في الزلزال أنه يكون قد حدث في أوروبا أو
إندونيسيا أو أستراليا، ثم يقال إن مصر تأثرت به، على أساس أن لنا أقارب يعيشون
هناك، فعبقرية العمارات في مصر أنها تتحمل زلزالا بقوة (6) ولا تتحمل (6) أشخاص
يقفون فوق السطوح. و كمثال للزلزال الحقيقي و الزلزال الأونطة؛ فقد اهتزت مصر من
قبل مرتين، مرة حقيقي و مرة أونطة، مرة عند القبض على سعد زغلول و مرة عند القبض
على تامر حسني.
حذار من الشفقة
يعلم الله أنني أكتب و أنا مصاب بخلع في
كتفي، و قطع في أوتار أصابعي. فمنذ يومين شاهدت نعشاً يحمله أربعة رجال و لا يسير
وراءه إلا صبي يبكي و امرأة عجوز فدفعتني إنسانيتي أن أقول لأحد العاملين "
أجرني" أي اسمح لي أن أحمل النعش بدلا منك لأنال الأجر، فوضع الرجل يد النعش
مسرورا على كتفي و قد عرفت فيما بعد سبب سروره- و قال لي " أجارك الله".
و فعلا أجارك الله ، إذ هرب الرجل و اختفى، و مشيت أكثر من خمس محطات أتوبيس دون
أن أجد من يقول لي "أجرني". كان يبدو لي من الثقل أنني أحمل مقبرة
جماعية، ثم صادفنا "مطلع" في أحد الشوارع أصعب من مطلع أغنية "أيها
الراقدون تحت التراب". تذكرت و أنا أصعده رواية "ستيفان زفايج" (حذار
من الشفقة) و التي تخيّل فيها من خلال قصة حب أن رجلاً أشفق على مريض ملقى في
الشارع فحمله على كتفه، ثم اتضح أن المريض عفریت ظل على كتف الرجل إلى
الأبد.
كنت ألهث عندما لاح الفرج و اقتربنا من
المقابر، لكن المرأة العجوز صرخت فينا:
- "أبدا ابني مايدخلش لازم نعشه يفوت
الأول ع القهوة اللي كان بيقعد فيها في سيدي بشر و يشوفه أصحابه".
قال الرجل الذي يحمل خلفي:
- "حاضر يا خالتي".
ثم صرخ فيَّ:
- "ارجع يا جدع تاني لف".
و بدأت ألف و تلف بي الدنيا حتى سقطت فتركوني
و اتجهوا إلى المقهى في سيدي بشر و اتضح لي من تجربتي أننا نفتقد العمل الجماعي و
التعاوني حتى في أصعب الأوقات، و إذا كان خلع الحجاب يؤدي إلى المحكمة فإن خلع
الكتف يؤدي إلى المستشفى، و أن كتف الحكومة قد انخلع من الدعم، و أنها سوف تمر به
من أمام المقهى ليراه أصحابه و بعد ذلك سوف تدفنه. ربنا يستر .
فوق و تحت الركبة
رغم أن عضو البرلمان المحترم هارب و مختف، و
لا يحضر جلسات المجلس الموقر منذ حوالي عام، لكن هذه الأيام و حفظا لماء الوجه سوف
تجتمع اللجنة التشريعية في مجلس الشعب لإصدار توصية إلى المجلس الموقر تمهيدا لرفع
الحصانة عنه، بحجة الإخلال بواجبات العضوية، علما بأن هذا النائب حكمت المحكمة
بإحالة أوراقه إلى فضيلة المفتي تمهيدا للحكم بإعدامه في نهاية هذا الشهر بتهمة
القتل العمد. و من لا يفهم في القانون قد يتعجب كيف يرفع المجلس الموقر الحصانة عن
نائب ليس من الحزب الوطني - تحكم المحكمة بإفلاسه و لا يرفع الحصانة عن نائب من
الحزب الوطني - تحكم المحكمة بإعدامه و الرد على هؤلاء تحدده حكمة القانون التي
توصي برفع الحصانة بعد ساعة واحدة من إعلان الإفلاس، و بعد أربعين يوما من إعلان
الإعدام؛ و لذلك حكمة فقد ترد الروح إلى النائب بعد إعدامه فيقع المجلس في مشكلة
قانونية بسبب التسرع، فالروح قد تعود لكن المال لا يعود، خاصة و أن المجلس الموقر
قد قرأ بالتأكيد "عودة الروح" لتوفيق الحكيم؛ فإذا كانت الروح قد عادت
لتوفيق الحكيم فمن الممكن أن تعود للحاج " الحمزاوي" إذا أعدم فيقع
المجلس في إشكال، و هناك سابقة في مجلس الشيوخ الروماني "السناتو" الذي
كان يرفع الحصانة فورا في مخالفات المرور، و فور عبور النائب للإشارة الحمراء،
لكنه كان يتمهل ولا يتسرع برفع الحصانة عن العضو الذي تحكم المحكمة بقطع رأسه و
حتى لو قطعوا رأسه؛ بل كانوا برفع الحصانة إلى فوق الركبة فقط - حتى لا يقع
"السناتو" في خطأ دستوري، بدليل أنهم لم يرفعوا الحصانة عن النائب
المحترم "بروتس" الذي قتل القيصر داخل البرلمان. لذلك كان يقال أيام
أباطرة الرومان و الحديد و الأسمنت: إن الفساد للركب لكن الفساد نوعان، نوع فوق
الركبة لمخالفات المرور، و نوع تحت الركبة لقتل البني آدمين.
حديثٌ ذو سجون
معظمنا ولد في عهد السيد الرئيس و تربی و
تعلم و تزوج و أنجب و سوف يموت أيضا في عهد سيادته. و الموت في عهد الرئيس ميزة لا
يشعر بها إلا من مات في عهد آخر. و أول هذه الميزات أنه سوف يرتاح من برنامج
(البيت بيتك). و السؤال لماذا نهتم في مصر بالسجون أكثر من اهتمامنا بالمدارس؟ و
الإجابة واضحة أن المدارس بالنسبة لنا هي ماض لن يعود، لكن السجون هي مستقبلنا
جميعا؛ لذلك سعدت بالاهتمام المفاجى للفضائيات و الصحف الحكومية بأحوال السجون
المصرية بمناسبة زيارة أعضاء الكونجرس الأمريكي، ثم الرئيس الأمريكي
"كولومبوش" لمصر و كأننا نحتفل "بيوم السجين" أو " العيد
القومي للزنازين". و هو فاصل كوميدي استضافوا فيه بعض المساجين السابقين
ليؤكدوا توافر الماء النظيف و الكهرباء و التليفونات في السجون. و هو ما يدفعنا
للمطالبة بإدخال مئات القرى المصرية المحرومة من هذه الخدمات إلى داخل کر دون
السجون. و يؤكد الأستاذ "مرتضى منصور" في اتصال هاتفي ببرنامج "
البيت بيتك" أنه رأى مسجونا مريضا فجاء الضابط و حمله بنفسه إلى مستشفى السجن
المجهز على أحدث طراز، و هي فكرة مركبة يمكننا الاستفادة منها، فيمكن أن نعالج
المصريين المحرومين من العلاج في (الأحدث طراز) بدلا من توجههم للخارج (خارج
المستشفى). و يمكن توفير تكلفة عربات الإسعاف بوضع ضباط أحمال في داخل أقسام
الشرطة لحمل المرضى إلى (الأحدث طراز). و إذا كنا نتحمل ما قاله السيد "مرتضي
منصور" على أساس أنه رجل نزيه و لم يدخل السجن في قضية فساد. فكيف نتحمل ما
قال "ماهر الجندي" الذي تحول إلى مستشار في أحوال السجون؟ نسي هؤلاء أن
يقولوا إن الحكومة تبني سورة حول المساجين لحمايتهم من نزلات البرد. ألم أقل من
البداية، اللي بيموت اليومين دول يا بخته.
الهروب الحزين
بعد عقد كامل من مسلسل "هروب
الأغنياء" بدأنا نعيش في عقد مسلسل "هروب الفقراء" كليهما يدفعه
نظام سياسي و اقتصادي فاشل إلى الهرب. منذ أيام تعلق الشاب "أحمد"
بعجلات طائرة ليهرب إلى فرنسا بالضبط كما فعل "رامي لكح". أحمد تسلل إلى
المطار و رامي دخل من صالة كبار الزوار. الغريب أنهما نفس طائرة الخطوط الجوية
الفرنسية و أقلعت من نفس المطار (القاهرة) و هبطت في نفس المطار (شارل ديجول في
باريس). كلاهما هارب، و الفارق أن "رامي لكح" اشترى بيتا في باريس،
بينما سقط "أحمد" على بيت آخر بالقرب منه جثة هامدة. ولد أحمد عام ۱۹۹۰، و عندما كانت وزارة الصحة تستخرج له شهادة ميلاد كانت
في نفس الوقت تستخرج شهادة تقدير لرامي لكح و هي تتسلم منه أول مستشفى بناه بنظام
"تسليم المفتاح" و هو النظام الذي قاده لمفاتيح السلطة و منها البنوك.
تخطى "أحمد" إلى السنة الأولى في المعهد الأزهري في قريته، بينما كان
"رامي لكح" يتخطى المليار الأول. و في العاشرة من عمره كان يستمع من
والده إلى قصة سفر الوالد إلى "باريس" بينما "باريس" في ذلك
الوقت بالتحديد كانت تشهد زيارة للرئيس مبارك أجرى خلالها مرافقوه و معهم السفير
المصري هناك مفاوضات مع رامي لكح لمحاولة إعادته إلى مصر و تسوية أوضاعه، التف
حوله مرافقو الرئيس و السفير المصري حتى أقنعوه. و قد عاد فعلا و أصبح عضوا في
مجلس الشعب و منحته وزارة الإسكان قطعة أرض في مصر الجديدة لينشئ ضاحية سكنية، و
استضاف حفيد البارون "إمبان" مؤسس مصر الجديدة في بيته كنوع من الدعاية،
و منحته البنوك قروضا لينشئ سلسلة مطاعم باسم (بلدي) قبل أن يهرب مرة أخرى من
بلده. في الأسبوع الماضي كان "رامي لكح" قد اشتری طائرة خاصة و أجر مهبط
هذه الطائرة، بينما كان "أحمد" قد تعلقت آماله و انحصرت في عجلة طائرة.
تعلق "أحمد" في عجلة طائرة و من ارتفاع ثلاثين ألف قدم سقط
"أحمد" و تناثرت أشلاؤه على بيوت باريس، و تناثرت دماؤه في شوارعها كما
تناثرت أموالنا. و حول جثة "أحمد" تجمع الفرنسيون و قد أصيبوا بالصدمة.
و وسط هذا الجمع الملتف حول "أحمد" لم يكن هناك السفير المصري ولا أحد
من مرافقي السيد الرئيس.
تحت المظلّة
كانت الحارة هادئة يكسوها الحزن و يظللها
الهدوء، و تغطيها مظلة التأمين الصحي؛ سمعنا بعد نصف الليل صراخ عم "
فرغلي". تجمع الجيران و قال " الحمصاني" و هو رجل حكيم "مش
معقولة يكون البوليس بيعذبه دلوقتي في بيته" و قالت تفيدة: "ده نور
الشقة منور يبقى عنده حرامي" قال " الحماني": "معقول الحرامي
ح يسيب الحزب دلوقتي و يجي يسرق شقة عم فرغلي" استمر الصراخ فقال فتيحة:
"أنا متأكد إنه بيصرخ علشان جعان أنا.. عندي قطة بتعمل كده!". صعدنا إلى
شقة عم "فرغلي" في الدور المخالف فوجدناه يعاني من مغص فتحولنا جميعا
إلى أطباء. خذ سبازموسبلايجين أقماع. خذ بلاسيد ثلاث مرات. خذ ينسون و دفي نفسك.
ارتاح عم "فرغلى" لكننا صممنا على اصطحابه إلى المستشفى للاطمئنان. في
المستشفى العام كان كل شيء جاهزة. بلاطى الأطباء و أردية الممرضات و بيجامات
المرضى إلا العلاج. فحصه الطبيب و سأله و هو يفحصه "عندك أجهزة
كهربائية؟" فقالت "تفيدة": "أنت دكتور ولا مأمور مرك"
فنهرها الطبيب قائلا: "ما تيجي تكشفي عليه بدالي" و قال
"الحمصاني": "هوه أدرى بشغله یا تفيدة". عاود الطبيب سؤاله
فرد عم "فرغلي": "أيوه عندي سخان شاي واخده من بنتي". قال
الطبيب: "كمان واخده من بنتك و طول عمرنا بنحذر الناس من انتقال
العدوى". سألته "تفيدة": "هوه عنده إيه؟" فرد الطبيب
بحدة: " إنتي مش سامعاه، عنده أولاد" ثم انتحى الطبيب جانبأ بالحاج
" الحمصاني" و طلب منه أن نسرع بأخذ المريض عم "فرغلي" و
ننصرف لأنه سيموت و من الأفضل أن يموت في بيته. في الممر الخارجي للعنبر كان عم
"فرغلي" يسير في الأمام و نحن وراءه و كأنها "بروفة" لجنازته.
في غاية الممر المظلم كانت "ممرضة" تجلس على الكونتر عرفتها تفيدة و
سلمت عليها و سألتها: "مين اللي ح يموت فيكم"؟ فأشرنا على عم "فرغلي".
فقالت الممرضة التي تعرف "تفيدة" : "ماتخافوش مش ح يموت دي تعليمات
جاية لنا" سألتها "تفيدة": "إزاي مش فاهمة؟" قالت
الممرضة: "أصل إحنا ماعندناش لا سر ایر و لا أدوية، و جت تعليمات للأطباء
يقولوا لأهل أي مريض إنه ح يموت علشان ياخدوه و يمشوا". غضبت "تفيدة"
و أرادت أن تعود للطبيب و تخنقه و تأخذ منه الساعة و النظارة؛ لكن الممرضة منعتها
و قال لها الحمصاني: "هوه ذنبه إيه دي تعليمات علیه یا تفيدة. و بعدين بصراحة
ماكانش يصح إن عم فرغلي ياخد من بنته سخان الشاي، ما هو الغلط عندنا برضه"،
عندما عدنا إلى الحارة كانت الحارة هادئة و يكسوها الحزن و تغطيها مظلة التأمين
الصحي من كل الاتجاهات.
دع مائة مطواه تتفتّح
بمناسبة معرض الكتاب، هذا العرس الثقافي
الرائع الذي لم ينقطع منذ الستينيات؛ بل يزداد تألقا و بريقا تذكرت أني خضت غمار
ثلاث حروب و دخلت قسم الشرطة أربعة مرات، و نجاني الله، و حضرت ندوة ثقافية واحدة
أصبت فيها بجروح بالغة. كانت الندوة تحت عنوان "حق الاختلاف في الرؤى" و
كان المحاضر يؤكد أن العرب هم أول من اكتشف الديمقراطية و الحريات و حقوق الإنسان
و الثلاجة أم بابين. و أن أوروبا ربطت العرب بالجمل، ثم ربطت الجمل في وتد الخيمة
فتوقفنا عن المسير. فقلت له بأدب: "لو أذنت لي". فرد بجفاء: "مفيش
حمامات أثناء الندوة". فقلت: "لا يا أفندم، أنا لي تعليق". فقال
لي: "مفيش تعليقات إنت تيجي هنا تسمع زي الباشا و تروح عشان ما
أبهدلکش". فذكرته أن الندوة عن حق الاختلاف، فقال لي: "حق الاختلاف ده
عندكم في البيت مش هنا. إنت يا واد بعتك الدكش علشان تبوظ لي الندوة" فنفيت
أنني أعرف "الدكش" أصلا. فصمت قليلا و راح يتأملني ثم قال لي: "إنت
شكلك كدة كافر، صح"؟ فنفيت ذلك أيضا و نطقت بالشهادتين فصرخ: "إنت كمان
بتكذبني، دع مائة مطواه تتفتح". فهجم عليَّ أتباعه و حملوني إلى غرفة جانبية
و أوسعوني ضربا، ثم سألني أحدهم: "إنتم عندكم كنبة في البيت" قلت: "نعم".
فقال: "ح ترجع الندوة و تقعد زي الكنبة، فاهم". رجعت إلى الندوة، فتأمل
المحاضر وجهي ثم سألني: "من الذي اخترع الديمقراطية و الحريات و حقوق الإنسان
و الثلاجة أم بابين"؟ فقلت بأدب شديد: "العرب يا أفندم".
قوة قتل ثلاثية
على الحدود الشرقية لمصر، يدخل الأسرائيليون من الجنوب دون استئذان "سائحين". و على الحدود الشرقية يدخل الفلسطينيون من الشمال دون استئذان "نازحين". و من بين هؤلاء و هؤلاء يدخل المجرمون من الوسط دون استئذان "مهربين". و أصبحت الحدود الشرقية بسبب اتفاقية ظالمة – مثل حدود محافظة الشرقية ترحب بالقادمين و تودّع المغادرين دون أن يسألهم شرطي أو يستوقفهم كمين. و أصبحنا أمام خيار صعب، إما أن نلغي الاتفاقية أو نلغي الحدود. إذ يتعرض الوطن الآن إلى اعتداء ثلاثي جديد له قوة قتل ثلاثية من "الصهيونية و الوهابية و الحرامية" جعل معنى الوطن يختفي خلف الملثمين القابعين في الداخل و الملثمين القادمين من الخارج. فالصهيونية لم تعترف حتى الآن بحدود. و الوهابية يهمها " إقامة الحدود" وليس "ضبط الحدود" و الحرامية يؤمنون أن المال لا وطن له، فحدودهم ليست حدود الوطن؛ بل حدود البورصة و حدود الأراضي التي نهبوها. و ليس صحيحاً أن ضرب الحبيب مثل أكل الزبيب؛ فالذين اعتدت عليهم "حماس" هم أعز أبناء مصر. و على الجميع الصهيونية و الوهابية و الحرامية أن يعرفوا أن الدول لها حدود يجب أن تحترم، و أن الصبر أيضا له حدود " آمنة"، لكن يبدو أن "آمنة" ماتت مع أختها "هنادي" في الوباء.