(31) "عائشة" في النار
أعقب ذلك سكونٌ طال
لبِضع دقائقٍ كانت "عائشةٌ" خلالها تستجمع قواها لتتحمَّل هذه التَجرُبة
القاسية، بيْنا تعلَّق كلٌ منا بالآخر وانتظرنا وكأن على رؤوسنا الطيْر.
وأخيراً صَكَّ
مسامعنا صوْتٌ ضئيلُ آتٍ من بعيد، وأخذ هذا الصوْت يزداد قوّةً إلى أن استحال دويّاً
وزئيراً فأسرعتْ "عائشة" وخلعت إزارها ثم فكَّتْ الحيّة الذهبيّة و هزَّتْ
شعرها الجميل فانسدل حوْل جسـدها كالرداء السابغ، وعندئذٍ ألقت عنها رداءها الأبيض
وتمنطقت بالحيّة الذهبيّة ثانيةً حوْل شعرها المُرسل.
أخذ صوْت النار
يقترب رويْداً رويْداً، وبيْنا كان يدوّي أخرجت "عائشة" ذراعها العاجيّة
من تحت شعرها الأسود وأحاطت به عُنُق "ليو"، وتمتمت:
- آهٍ أيّها الحبيب .. ليْتك تعرف مبلغ
حُبّي لك وتعلُّقي بك.
ثم قبَّلته فوْق
جبينه وتقدَّمتْ ووقفتْ في طريق "نار الحيـاة"، واقتربت أصوات الزئير
والدوي، ثم ظهر البريق الذي يتقدَّم عامود اللهب الدائر، وأخذ يتطاير كالسهام وسـط
الجـوْ الوردي، ثم لم تمضِ هُنيْهةً حتى برز العامود نفسه.
وتحوَّلتْ "عائشة"
نحو اللهب، وبسطتْ ذراعيْها لتحيّته وهو يتقدَّم نحوها ببطءٍ إلى أن التف حوْلهـا،
وقد أبصرتُها وهي ترفع النار بكِلتا يديْها كالماء وتُلقيها فوْق رأسها، ثم فتحتْ
فمها ودفعتْها إلى رئتيْها فكان المنظر غريباً مُروِعاً.
لزمتْ "عائشة"
السكون بعد ذلك ثم بسطت ذراعيْها ووقفتْ ساكنةً وقد ارتسمت على فمها ابتسامةٌ
ساحرة، ولكن وا أسفاه؛ فسرعان ما تبدَّلت ملامحها تبديلاً فُجائيّاً يستحيل عليَّ
وصفه أو تحليله، فقد تلاشت تلك الابتسامة العذبة الرقيقة، واستحالت إلى نظرةٍ جافّةٍ
جامدة، وخُيِّل إليَّ أن الوجه الجميــل قد تقلَّص وارتسمت عليه أمارات القلق
الشديد، وفقدت العيْنان الساحرتان بهاءهما كمـا فقد قوامها الممشوق اعتداله.
مررتُ بیدي فوْق عيْني
زعماً مني أنني تأثَّرتُ بعاملٍ مجهول أو أن شِدَّة الضوْء المتألِّق بهرت عیْنی، وبينما
أنا غارقٌ في دهشتي إذ التفَّ عامود اللهب وأخذ يدوي ويتحرَّك نحو بطن الأرض، وخلَّف
"عائشة" واقفةً في مكانها، وتقدَّمت "عائشة" من "ليو"
ومدَّت يدها لتضعها فوق منكبه، ونظرتُ إلى ذراعها ويا لهوْل ما رأيْت، لقد فقدتْ
تلك الذراع العاجيّة الملفوفة روْنقها وجمالها، واستحالت ذراعاً رفيعةً مُقوَّسة، أمّا
وجهها فقد تجسَّمتْ فوْقه علامات الشيْخوخة الرهيبة، وحتى "ليو" قد لاحظ
ذلك فتراجع إلى الوراء مُترنِّحاً، وقالت "عائشة" بصوْتٍ مُضطَّرب:
- ماذا دهاني يا "كاليكراتس"؟!
.. ماذا دهاني؟! .. إني أشعر بدوارٍ في رأسي وتكاد عيْناي لا تُبصِران .. إن ماهيّة
النار لم تتغيَّر بلا مِراء .. هل يُمكِن أن يتغيَّر مبدأ الحيـاة؟ .. أخبرنی یا "کالیكراتس":
هل ذهب بصري؟
ثم وضعتْ يدها فوْق
رأسها ولامستْ شـعرها فسقط كُلّه إلى الأرض دفعةً واحدة، وصرخ "جوب"
بصـوْتٍ رهيب:
- انظُرا .. انظرا .. انظرا .. إن جسمها
يتضاءل!! .. إنها تتحوَّل إلى قرد.
ثم سقط على الأرض
فاقد الرُشد، وقد أصاب "جوب" بالفعل إذ أخذ جسمها ينكمش ويتجمَّد، فأنزلقت
الحيّة الذهبيّة إلى الأرض وظلَّ جسمها يضمر ويضمر، ويتغيَّر لوْن بشرتها حتى
استحال أصفر داكِناً فكان أشبه شيءٍ برَّقٍ (جلدٍ رقيق) جافٍّ من الجلد.
ورفعتْ "عائشة"
يدها إلى رأسها فرأيْتُ أن تلك اليد البَضّة الرقيقة قد تحوَّلتْ إلى مخلبٍ يُشبِه
يد مومياءٍ مِصريّـة، ويبدو أنها أدركت ما أصابها فصرخت صرخةً داوية وأخذتْ تتمرَّغ
فوْق الأرض، ومازالت تنكمش حتى صارت في حجم القِرد حقّاً وتجعَّدت بشرتها، وارتسمت
على وجهها خطوط الشيْخوخة الرهيبة.
وأخيراً هَوَتْ "عائشة"
على الأرض ساكنة، "عائشة" - التي كانت منذ بُرهةٍ وجيزةٍ أجمل امرأةٍ
على ظهر الأرض - هَوَتْ أمامنا بقُرب كوْمة شعرها الأسود، وأخذتْ تُـعـانى سكرات
الموْت، ثم رفعتْ جسمها على يديْها بصعوبةٍ وارتعاش وراحت تدور بعيْنيْها فيما
حولها دون أن ترى شيئاً، وأخذت تُقلِّب رأسها ببطءٍ من ناحيةٍ إلى أُخرى وغمغمت في
صـوْتٍ مُضطرب:
- "كاليكراتس" .. لا تنسَني یا
"کاليكراتس" .. إرثَ لعاري .. إنني لن أموت .. سأعود مرّةً أُخرى إلى
الحياة .. سأرتدي ثوْب الجمال من جديد .. أُقسِم على ذلك .. إنني لا أكذب .. آه ..
آه .. آه.
ثم انكفأتْ على
وجهها وأسلمت الروح.
وهكذا سقطتْ "عائشة"
وماتت في ذات البُقعة التي قتلت فيها "كاليكراتس" الكاهن المصرى منذ
أكثر من ألفيْ عام.
أمّا نحن فلم نحتمل
شهود هذا المنظر المُخيف فسقطنا فوق الأرض مُغمى علينا.