(34) الخاتمة
عندما أفقتُ من نوْمي
رأيْتُ صديقنا "بلالاً" جالساً، وكان يتخلَّل لحيته بأصابعه وهو مُستغرِقٌ
في التأمُّل والتفكير، وتدافعت ذكرى الأهوال التي لاقيْناها إلى رأسي فانتفضت ثم
تأوَّهت، وحانت مني التفاتةٌ إلى "ليو" وهو يغط في نوْمه على مقربة،
فتملَّكني الأسى لما أصاب ذلك الشاب مـن صدماتٍ أحالته رجلاً غير الرجل.
أغمضتُ عيْني ثانيةً
وزفرتُ زفرةً حارّةً من قلبٍ مكلوم، فنظر إليَّ الشيخ "بلال" وقال:
- لقد نِمتَ وقتاً طويلاً أيُّها
البابون.
فقلت:
- كم ساعةً نمتُ يا أبي؟
- دوْرةً من الشمس ودوْرةً من القمر ..
أي يوْماً وليلة .. انظر إلى الأسد .. إنه لا يزال نائماً.
- إن النوْم نعمةٌ يا أبي لأنه يُنسي الإنسان
الذكريات المؤلمة.
- حدِّثني بما أصابكم .. وما هذه القصة
الغريبة عن موْت "هي" التي لا تعرف الموت؟! .. ثِق يا بُنيَّ أنه إذا
كانت هذه القِصّة حقيقيّة فإن الخطر المُحدِق بكما هائلٌ جدّاً .. فإن أمّة "حجر"
تبغضكما بُغضاً شديداً لأنكما غریبان أوّلاً ولأنكما كنتما السبب في قتل بعض رجال
عشيرتهم .. ولو علموا بأن "هي" - التي يجب أن تُطاع - قد ماتت ولم يعد
لها عليهم سلطانٌ لقتلوكما بوضع القِدر المحماة فوق رأسيْكما .. ولكن قُص عليَّ قصّتك
أوّلاً أيها البابون المسكين.
فأخذتُ أقص عليه
القصّة ولكني لم أُكاشِفه بكل شيء وإنما صارحته بما رأيته مُلائِماً لموْقفنا،
وقلت أن "هي" سقطت في جوْف البركان واحترقت إذ كنت أعلم أنه لن يُؤمِن
بحقيقة ما حدث لو ذكرته له، وأطلعته على طرفٍ من الأهوال التي لاقيْناها والمخاطر
التي تعرَّضنا لها، فبدا على وجهه أنه تأثَّر لآلامنا ولكنني أيقنتُ أنه لم يعتقد
بصِحّة ما ذكرتُه عن مصرع "عائشة" إذ كان واثقاً بأنها خدعتنا لرغبتها
في الاحتجاب مُدَّةً من الوقت، وقد عزَّز قوْله هذا بأن "هي" اختفت مرَّةً
في عهد أبيه اثنتيْ عشرة سنة وأنه حدث أيضاً منذ أجيالٍ عديدةٍ أنها اختفت قرناً
كاملاً ثم عادت فظهرت فجأةً وقضت على امرأةٍ جعلت من نفسها ملكةً مكانها.
ولم أشَأ مُعارضة "بلالٍ"
فيما قال، وهززتُ رأسي حُزناً إذ كنتُ واثِقاً من أن "هي" لن تعود ثانيةً
أو على الأقل لن يراها "بلال" مرَّةً أُخرى أو ومن المُحتَمَل أن نجدها
في مكانٍ آخر، بل أني أشعُر شعوراً قویّاً بأننا سنجدها ولكن في غير هذا المكان، وأخيراً
سألني "بلال":
- وماذا ستفعل الآن أيّها البابون؟
فأجبته:
- لستُ أدري یا أبي .. ألا نستطيع
النجـاة ممّا ينتظرنا في هذه البلاد؟
فهزَّ الرجل رأسه
نفياً وأجاب:
- هذا من الصعوبة بمكان .. إنكما لا تستطيعان
اجتياز "خور" والخروج منها دون أن يروكما .. وأذا رأوكما فلن تستطيع قوّةٌ
أن .....
وابتسم ابتسامةً ذات
مغزى ورفع رأسه في حركةٍ عنيفةٍ ثم استطرد:
- لكن هناك طريقاً آخر فوق الأكَمة التي
ذكرتُها لك في سياق حديثنا عند مجيئنا إلى "خور" عندما قلت لك أنهم
يسوقون منها الأغنام إلى المراعي .. فوراء تلك المراعي توجد مستنقعاتٌ يجتازها الإنسان
في ثلاثة أيّام .. ولكني لا أعرف ما وراءها .. ولو أنني سمعتُ أنه يوجد نهرٌ عظيمٌ
يصُب في الماء الأسود (يقصد البحر المحيط) بعد مسيرة سبعة أيّامٍ من هذه
المستنقعات .. فاذا استطعتما بلوغ شاطئيْه فمن المُحتَمَل أن تتمكَّنا من الإفلات
بحياتكما .. لكن كيف تستطيعان الوصول إلى هذا النهر؟ .. تلك هی مشكلة المشاكِل.
فقلت:
- أنت تعلم أنني أنقذتُ حياتك ذات يوْم
.. فعليك الآن أن توفّي ما عليك من دَيْن يا أبي .. فتُساعِدنا على الخروج من
بلادك آمنين .. وتذكَّر يا أبي الجزاء العظيم الذي ستناله من "هي" إذا
ما عادت إلى الظهور مرَّةً أُخرى - كما تقول - وعرفتْت بحُسن صنيعك معنا.
فأطرق الرجل هُنيْهةً
كان وجهه خلالها مَسرحاً لشتّى الانفعالات، وأخيرا قال:
- حسناً يا ولدي .. لا تظن أنني رجلٌ
جاحدٌ للجَميل .. فأنا ما زِلتُ أذكُر جيّداً كيف أنقذتَ حياتي عندما كان هؤلاء
الكلاب ينظرون إليَّ ولا يُحرِّكون ساكِناً .. سيكون جزائي لك يا بُنيَّ من جِنس
عملك .. وسأحاول جهد طاقتي أن أُنقِذكما .. اصغِ إليَّ الآن: تأهَّبا عند فجر الغد
.. فستأتي الهوادج إلى هُنا لتجتازَ بكما الجبال والمستنقعات .. وسأُدخِل في روْع
هؤلاء الوحوش أن تلك هي أوامر "هي" - التي يجب أن تُطاع - وأن من يعصى
الأمر فسيكون جزاؤه أن يُلقى لحمه طعاماً للوحوش .. وإذا ما اجتزتما المستنقعات
فعليكما المسير وحدكما لعلَّكما تستطيعان الوصول إلى الماء الأسود .. آه .. ها هو
الأسد قد استيْقظ .. هيّا تناولا الطعام الذي أعددتُه لكما.
استيْقظ "ليو"
وكانت حالته أحسن كثيراً ممّا كان یوحي به مظهره الخارجي، وقد تناولنا طعامنا بشهيّةٍ
ثم انطلقنا إلى غديرٍ قریبٍ فاغتسلنا، ثم قضيْنا بقية النهار نائميْن إلى أن استيْقظنا
عند مُنتصِف الليْل على أصوات عددٍ كبيرٍ من الرجال كانوا يُعدِّون مُعِدّات
الرحيل.
وعند الفجر جاءنا
الشيْخ "بلال"، وقرَّر لنا أنه تمكَّن من الحصول على الرجال اللازمين مُستعيناً
باسم "عائشة" المخيف ثم بدأنا رحلتنا الشاقة.
وقد أبى الشيْخ "بلال"
إلّا أن يرافقنا بنفسه، ولعله خشى أن يُفرِّط في المحافظة على سلامتنا فتحاسبه "هي"
على ذلك حساباً عسيراً وهو الذي كان يعتقد بأنها حيّة لم تمُت.
أخذنا نرتقي الأكَمة
ولكن تبيَّن أن الرجال عاجزون عن التقدَّم وهم يحملوننا فوق مناكبهم فاضطررنا إلى
الهبوط والسيْر على أقدامنا.
وقد بلغنا قِـمّة
ذلك السور الصخري العظيم عنـد الظُهر، وأخذت عيوننا منظراً جميلاً رائعاً فقـد ظهرت
سهول "خور" وخرائبها يتوسَّطها معبد "الحقيقة"، وكان عرض
السور نحو ميل ونصف ميل فاجتزناه، ثم شرعنا في الهبوط بحذر فقـد كانت الأرض مغطّاة
بطبقةٍ من الطين تخلَّفت عن الأمطار التي هطلت في الليْلة المُنصَرِمة، وقد وصلنا إلى
سفح الأكَمة عند غروب الشمس، فاستقر رأينا على قضاء الليْل فيها.
وحوالي الساعة
الحادية عشرة من صباح اليوْم التالي استأنفنا رحلتنا الشاقّة وسط المستنقعات المُروِّعة
التي سبق ذكرها.
وبعد مسيرة ثلاثة أيّام
استطعنا أن نجتاز هذه المنطقة الخطرة، وبلغنا أرضاً يابسة لا نبات فيها فتوقَّف الركب
عن المسير، وجاءنا الشيْخ "بلال" مُوَدِّعاً فأُفعِم قلبانا أسىً وألماً
فقد وقف الرجل يتخلَّل لحيته البيْضاء بأصابعه، ثم بارکنا وقال:
- رافقتكما السلامة يا ولديَّ .. لم يعُـد
الآن في وسعي أن أساعدكما بشيء .. لكن إذا قُدِّر لكما أن تعودا إلى وطنكما سالميْن
فحذارِ أن تُجازِفا مرّةً أُخرى بارتياد بقاعٍ مجهولةٍ منكما وإلّا أوْردتما نفسيْكما
موارد التهلُكة.
وأطرق الرجل برأسه
تأثُّراً وإشفاقاً، وساد الصمت هُنيْهةً ثم استطرد الشيْخ:
- الوداع يا ولديَّ .. لن أنساكما مدى
الحياة .. وأنت أيضاً لن تنساني أيّها البابون فإنك - رغم قُبحك - رجلٌ أمينٌ صادق.
ثم تحوَّل وذهب،
وذهب معه الحـمّالون وكان هذا آخر عهدنا بأُمّة "حجر".
وقفنا نرقبهم وهم
عائدون بهوادجهم الفارغة كالمشيّعين يحملون جُثث القتلى من ساحة القتال، إلى أن
عقد الضباب المُخيّم فوق المستنقعات حولهم ستاراً حجبهم عن أنظارنا.
كنا وحيديْن في فراغٍ
لا نهائي، فرُحنا نُقلِّب الطرف في هذه الفلاة (الأرض الواسعة المُقفِرة) الموحِشة
وفي قلوبنا رهبةٌ وفي عيوننا دمعة.
ونظر كِلانا إلى
صاحبه وأطرقنا برأسيْنا، فقد أدرك كلٌّ مِنّا ما يجيش صدر الآخر، فمنذ ثلاثة
أسابيع جئنا أربعة أشخاصٍ إلى خرائب "خور" فمات مِنّا اثنان (يقصد
"محمد" و"جوب") ولاقيْنا نحن اللذان بقيْنا على قيْد الحياة أهوالاً
تفوق أهوال الموْت، ثلاثة أسابيع!! .. نعم .. ثلاثة أسابيعٍ فقط ولكنها كانت أقسى
وأشد هوْلاً من ثلاثة قرون.
قلت لـ"ليو":
- ينبغي أن نولّي وجوهنا شطر نهر "الزمبيزي"
يا "ليو" .. ولو أنه تُخامِرني الريْبة في إمكان وصولنا إلى هناك.
فأطرق الشاب برأسه
وكان كثير الصمت في الفترة الأخيرة، وكنتُ أنا من ناحيتي لا أُثقِل عليه کیلا أزيد
في أحزانه وشجونه، ثم انطلقنا في طريقنا ولا شيء معنا غير ثيابنا تستُر اجسامنا
وبوصلةٍ بحريّةٍ ومسدساتنا وبنادقنا ونحو مائتيْ طلقٍ ناري، انطلقنا يحـدونا الأمل
ببلوغ نهـر "الزمبیزي" تتنازعنا عوامل اليأس لجهلنا الطريق، انطلقنا من
خرائب "خور" التي جئناها بقلوبٍ عامرةٍ بالأمل البسام وغادرناها بقلوبٍ
داميةٍ مُفعَمـةٍ باليأس القاتل.
لستُ بحاجةٍ إلى ذِكر
المخاطر والأهوال التي لاقيْناها طوال الرحلة الشاقّة بعد ذلك، فما لهذا كتبتُ قِصَّتي،
وإنما كتبتُها ليطَّلع الملأ على تفاصيل حادثٍ لم يسبق له مثيلٌ في التاريخ.
قلتُ أننا لاقيْنا أهوالاً
شداداً إبّان رحلتنا، ولكننا استطعنا في النهاية أن نصل إلى نهر "الزمبيزي"،
ولكن حدث أن وقعنا أسيريْن في يد قبيلةٍ من القبائل المتوَحِشّة، ومكثنا في الأسر
سِتّة أشهر، بيْد أننا استطعنا أن نتسلَّل هاربيْن بعد أن كُنّا في يأسٍ شديد من
النجاة.
واجتزنا النهر، وتجوَّلنا
جنوباً إلى ان قيَّض (قدَّر وهيّأ) الله لنا صيّاداً بُرتغاليّاً أكرم مثوانا وهيّأ
لنا سبيل الوصول إلی ميناء "دار السلام" بعد ثمانية عشر شهراً انقضت على
مغادرتنا لمستنقعات "خور".
وفى اليوْم التالي
ركبنا إحدى البواخر التُجـاريّة المُسافِرة إلى "إنجلترا"، وقد وصلنا إلى
ميناء "ساوث هامبتون" بعد انقضاء عاميْن كامليْن على اليوْم الذي بدأنا
فيه رحلتنا الشاقّة المًضنية.
وهأنذا اليوْم أسطر
هذه القِصّة و"ليو" بجانبي في غُرفتي القديمة بجامعة "كمبردج"،
وهي ذات الغُرفة التي جاء لزيارتي فيها صديقي المرحوم "فنسي" منذ اثنتيْن
وعشرين وهو يحمل صندوقه الحديدي.
هنا تنتهي القِصّة
من حيث صلتها بالعالم الخارجي، وأمّا نهايتها فيما يتعلَّق بي وبـ"ليو"
فلا أستطيع التكهُّن بها، ولكننا نشعر بأنها لم تنتهِ بعد، فمن المُحتَمَل أن تمتد
القِصّة التي بدأت منذ أكثر من ألفيْ عام إلى أجيالٍ عِدّةٍ في طريق المُستَقبَل
البعيد المُظلِم.
وهُنا تُثار تساؤلاتٌ
عديدة:
هل صحيح أن "ليو"
هو "كاليكراتس" القـديم الذي نُقِشَت قِصَّته على قِطعة الخزف القديمة؟،
وهل حقّاً عاد إلى الحياة من جديد؟، وهل لـ"أوستين" علاقةٌ بـ"أمنارتس"
المصريّة؟
للقارىء أن يُجيب
على هذه الأسئلة بما يستخلصه من وقائع هذه القِصّة، وأمّا أنا فأرى أن "عائشة"
لم تُخطىء فيما يتعلَّق بـ"ليو".
كم قضيْتُ الليالي
ساهراً وأنا أحاول أن أستشف أحداث المُستقبَل من خلال قناع الزمن السميك!، وكم حاولتُ
أن أتكهَّن بالنتائج التي ستتطوَّر إليها هـذه القِصّة والمسرح الذي ستجري فوْقه
حوادث الفصل الثاني منها!
ثم إذا حدث هذا
التطوَّر الأخير - وهو ما لا تساورني الريبة فيه إذ لابد أن يقع وسيقع طوْعاً لقوَّةٍ
لا تتزعزع ولغايةٍ لا تتغيَّر - فما هو دور "أمنارتس" المصريّة الجميلة
التي تنتمي إلى بيْت فرعـوْن؟، والتي لأجل حبسها تنكَّر الكاهن "كاليكراتس"
لعهود الإلهة "إيزيس" وفَرَّ منها، والإلهة الغيور تُطارِده حتى سقط
صريعاً في "خـور".....