خبر
أخبار ملهلبة

هي (أو "عائشة") | هنري رايدر هاجارد | (1) کیف بدأت هذه الرواية


ليو فينسي وهوللي عندما رآهما هنري رايدر هاجارد في كمبريدج أول مرة

(1) کیف بدأت هذه الرواية

 

 

ليس ثَمَّة شَكٍّ في أن هذه القِصّة من أغرب القصص التي تفتَّق عنها ذهنٌ بشري، وهأنذا أعرضها على الملأ كاملةً غير منقوصةٍ بمغامراتها المُثيرة وأحداثها الخطيرة ودون أن أٌهمِل أبسط تفاصيلها، على أنني أرى أوّلاً أن أُقرِّر أننى لست فيها مجرَّد راوٍ أو مُحدِّث فحسب، ولذا يتعيَّن عليَّ أن أذكر الطريقة التي حصلت بها على وقائعها.

كان ذلك منذ بضعة أعوام، فقد اتُفِقَ أن كنت واقفاً مع صديقٍ لي أمام إحدى الجامعات - ولنفرض أنها جامعة "كمبردج" (في "إنجلترا") - وقد استرعى انتباهي رجلان كانا سائریْن جنباً إلى جنب، أحدهما أجمل شابٍّ وقـع عليه بصري: من قوامٍ فارع إلى منكبيْن عريضيْن تشف تقاطيع وجهه عن قوّة البأس وشِدَّة المراس وله شعرٌ ناعمٌ ذهبيٌ جمیل، فسألت صدیقي:  

-       أترى ذلك الشاب .. إنه يُذكِّرني بتمثال "أبوللو" وقد بُعِثَ إلى الحياة من جديد .. ما أجمله من شاب!

فأجابني:

-       نعم .. إنه أجمل شابٍّ في الجامعة .. وهم يُطلِقون عليه "الإله اليوناني" .. وأمّا رفيقـه فهو الوصي عليه.

أطلت النظر إلى ذلك الرفيق فألفيْتـه يسترعي الاهتمام كصاحبه الشاب، إذ كان في الأربعين من عُمره، دميم الوجه على عكس صاحبه، قصير القامة مُقوَّس الساقيْن، عريض الصـدر، طـويل الذراعيْن إلى درجةٍ غير مألوفة، أسود الشَعر، صغير العيْنيْن، يكاد شعر رأسه يُغطّي جبهته ويصل إلى حاجبيْه، وشارباه يملآن صفحة وجهه، وعلى الرغم من ذلك فإن عيْنيْه كانتا تفيضان بالبَشاشة والدَعة.

وهنالك قلت لصديقي أنني أتوق إلى التعرِّف بالشاب، فأجاب:

-       هذا سهلٌ ميْسور .. فأنا أعرف "ليو فنسي" (وهو اسم الشاب) .. وسأُقدِّمك إليه.

وما هي إلّا لحظاتٌ حتى كُنّا جميعاً نتحدَّث عن قبائل "الزولو" الأفريقيّة، ولا عجب إذا تطرَّق بنا الحديث فجأة إلى هذه الناحية فإني كنت يومئذٍ حديث العوْدة من مدينة "كيب" (بدوْلة "جنوب أفريقيا")، بيْد أنه ما كانت تمضي فترةٌ وجيزةٌ حتى مرَّت بنا سيّدةٌ بدينة الجسم وبرفقتها فتاةٌ حسناء، فحيّاهما الشاب وانصرف معهما، أمّا رفيقه - واسمه "هولي" - فقد بدا عليه الاضطراب عندما أبصر بالمرأة، وكَفَّ عن التحدُّث، وحدج صديقه بنظرة عِتاب، ولم يلبث أن حیّاني وانصرف لشأنه، وقد بلغني فيما بعد أن هذا الرجل كان يخشى النساء کما يخشى المرء كلباً عقوراً (كلباً كثير العض والافتراس).

وقلَّت معرفتي بهذيْن الرجليْن عند هذا الحد فلم أرَهما بعد ذلك، ولا يُحتَمَل أن أراهما مرّةً أخرى، بیْد أنني تلقَّيْت منذ شهرٍ رسالةً وحزمتيْن من الأوراق إحداهما مكتوبةٌ بخط اليد، فلمّا فضضت غلاف الرسالة ألفيْتها مذيّلةً باسم "هوريس هولي"، وهذا نصّها:

[[[جامعة "کمبردج" في أول مايو.

سيّدي العزيز:

لا ريْب أنك ستُدهَش حين تصلك رسالتي هذه، سيّما وأن صلتنا لا تعدو مُجرَّد المعرفة، على أنني أرى أوّلاً أن أبدأ بتذكيرك بلقائنا الأوّل والوحيد منذ سنوات حين تعرَّفت بي وبمستر  "ليو فنسي" الذي أكفله وأشمله بوصایتي، وكان ذلك في أحـد شوارع "كمبردج"، والآن دعني أُفصِح عن الغاية من رسالتي إليك فأقول أنني طالعت باهتمامٍ شدید كتاباً وضعته أنت عن رحلةٍ محفوفةٍ بالمكاره والأخطار في أواسط "أفريقيا"، وأُقرِّر أن بعض ما ذكرته في كتابك هذا صحيح والبعض الآخر من عندياتك، والواقع أن وحياً أهاب بي أن أكشف لك عن سِرٍّ لا يعلم به اثنان، وقد رأيْت أخيراً أن أُصغي إليـه، ذلك أنني لاقيْت - مع ربيبي مستر "ليو" أهوالاً شداداً تفوق تلك التي ذكرتها أنت في مؤلَّفك، وستعرف ذلك من الأوراق المُرسَلة طيّه.

ولَعَمري .. كم أشعر بالرهبة والإحجام من عرضها عليك مخافة تكذیبي، وسوف تُدرِك عند قراءة هذه الأوراق أنني وربيبي كُنّا قد حزمنا أمرنا على كتمان هذا السِر إلى يوم نموت، ولكن ثَـمَّة حادثاتٍ قد وقعت أخيراً زعزعت هذا العزم، فإنها ستُرغِمنا على السفر إلى "آسيا" مهد الحكمة.

ولمّا كنا سنُطيل المقام هناك بحيث لا تُرجى لنا عوْدة فقد رأينا أنه لا شيء يحول دوننا ودون إذاعة قصّةٍ هي من الغرابة بمكان، قصّةٌ سوف تثير دهشة العالم ولا ريْب، ولم نجد مَن نعهد بها خيراً منك لتنشرها على الملأ إذا شئت، ولكن بشرط أن تحذف أسمانا الحقيقيّة وكل ما يشـير إلى شخصيّاتنا على ألّا تمس جوْهر القصة.

لم يعُد لديَّ ما أقوله، وستجد كل شيءٍ مُدوَّناً في الأوراق كما وقع تماماً، أمّا عن "هي" فليس ثّـمَّـة ما أذكره إذ لا أعلم مَن تكون؟، وكيف جاءت لأوَّل مرّةٍ إلى كهوف "خور"؟، وأي دینٍ تعتنق؟، وهذه مع الأسف أسئلةٌ لا جواب لها عندی.

هل لكم أن تُتـِمّوا هذا العمل فتقدِّموا للعالم أجمع أعظم قصـةٍ أُخرجِت للناس؟!

صديقك المُخلِص "هوريس هولي".]]]

أثارت هذه الرسالة في نفسي أشد الحيرة بيْد أنني حين قرأت الأوراق الخطيّة - وكان ذلك بعـد أسبوعٍ لكثرة شواغلي - اشتدَّت دهشتي وحزمت أمري على الاهتمام بالموضوع، فكتبت إلى "هولي" فوْراً لأُنبِئه بذلك، ولكن رسالتي أُعيدَت إليَّ في اليوم التالي، وأرسل لي محامي مستر "هولي" يقول أن عميله قد رحل مع مستر "ليو" إلى بلاد "التِبِت" دون أن يتركا عنوانهما.

والآن هأنذا أعمل برأي صاحب الرسالة فأُقدِّم القصّة بحذافيرها بعد إجراء تغييراتٍ طفيفةٍ لإخفاء شخصیّات أبطالها، على أنني اعتزمت ألّا أُبدي رأياً فيها ولو أنني شعرت بادئ ذي بِدء بميْلٍ إلى الاعتقاد بأن هذه الأقصوصة - التي كُتِبَت عن امرأةٍ ارتدت ثوْباً من المهابة والجلال وأحاطت بها رموزٌ يعجز إدراکي عن فهمها - ما هي إلّا إحدى الخُرافات، ولكنني حين أوْغلت في قراءتهـا لم ألبث أن تحوَّلت عن هذا الرأي، فقد تبيَّنت الحقيقة في ثناياها.

هذه كلمةٌ لم أجد مناصّاً من كتابها لتهـيئة القـارئ لمطالعة ما تضمَّنته الصفحات التالية من أحداثٍ وغرائبٍ يقصّها مستر "هوريس هولي".

المؤلِّف: سير "هنري رايدر هاجارد". 

 

(يتبع)

google-playkhamsatmostaqltradent