خبر
أخبار ملهلبة

هل يقتنع الرئيس بتأجيل مرحلة الكعبلة لتوفير مياه نقية ومجاري صحية أولاً؟





هل يقتنع الرئيس بتأجيل مرحلة الكعبلة لتوفير مياه نقية ومجاري صحية أولاً

 


حقيقةً لا أستطيع أن أصدّق ما أراه في تلك الفيديوهات (منها القديم والحديث) .. هل هؤلاء المصريون يعيشون في "مصر" أم الدنيا؟ ومتى؟ في القرن الواحد والعشرين؟ .. أمازال يعيش بيننا مَن يشرب من ماء الترع والمصارف وفي نفس الوقت يستحم ويغسل ويصرف مخلّفاته فيها؟ .. هل ما يأكله أولادنا من خضرواتٍ وفاكهةٍ وحبوبٍ وبقولٍ وأرزٍ وغيرها من المحاصيل يتم ريّها بمياه الصرف الصحي دون وازعٍ من ضميرٍ أو رقابة؟ .. أيحدث هذا وسط الإنجازات التي تتغنّى بها الحكومة وإعلامها من تشييد المباني والطرق في العاصمة الإداريّة الجديدة وباقي المدن الخاوية على عروشها تنعى مَن بناها وسط الصحراء وأطراف المحافظات؟ .. كيف يظهر علينا الرئيس يبشّرنا ببناء الآلاف من الوحدات السكنيّة للدرجة التي تجعلنا نتعثّر بها (نتكعبل فيها بالعاميّة المصريّة) إشارةً لعددها المهول في الوقت الذي يعاني فيه ملايين المواطنين من معضلة مياه الشُرب النظيفة ومهزلة الصرف الصحّي؟ .. كيف يتجاهل (فهو بالطبع لا يجهل) الرئيس وحكوماته المتعاقبة أوْلويّات هذا الشعب الذي  لم يجد مَن يحنو عليه (ولا يسأل ف أُمّه)؟ .. هل من العقل إنفاق الملايير والملايين على التباهي أمام الأمم بأننا نملك أكبر قصر رئاسي وأوسع مسجد وأفخم كنيسة وأعلى برج وأفخر فندق وأجمل نهر أخضر وأطول مائدة رمضانية وأسرع مونوريل في الوقت الذي نعاني فيه من احتلال المراكز الأخيرة بين هذه الأمم في الصحة والتعليم وتوفير المياه النظيفة للجميع وعمل شبكات الصرف الصحي والبحث العِلمي وباقي مناحي التنمية الضروريّة لإقامة حياة آدميّة للمواطنين .. لقد اعترف الرئيس المصري بعَظْمَة لسانه في مؤتمره مع "ماكرون" رئيس الوزراء الفرنسي وأمام العالم أجمع بأننا لا نملك تعليماً جيّداً ولا علاجاً جيّداً ولا فرصَ عملٍ متاحة ولا إسكاناً جيّداً ولا وعياً حقيقيّاً .. وقد جاءت هذه الاعترافات (النهاريّة في عِز الضُهْر) وسط دهشة "ماكرون" (وقد ظهر ذلك على تعبيرات وجهه) في سياق الحديث عن أن حقوق الإنسان في "مصر" لا تقتصر على الحريّة فقط بل تمتد أيضاً لجميع ما ذكر .. إذن فالرئيس يعي جيّداً حجم الكوارث التي تمر بها "مصر" فلماذا لا يوجّه تركيزه وجهود مرؤوسيه وأموال الدوْلة (اللي هيَّ بالمناسبة أموال هذا الشعب الذي لا يحظى بأي خدمة جيّدة في جميع المجالات التي ذكرها سيادته) نحو العلاج الحقيقي (وليس الاكتفاء بالمسكّنات المؤقّتة) لهذه الكوارث؟ .. لماذا تتجه كل اهتمامات الحكومة وإنجازاتها نحو إنشاء المزيد والمزيد ثم المزيد من المدن ورصف الطرق وإقامة الكباري وبناء المساكن وتكديس الأسلحة؟ .. إلى متى يتمادى جميع المسؤولين في المغالاة في بناء "الحَـجَـر" ويتناسون تنمية "البَشَر"؟ .. هل تتساوى "الكعبلة" في الشقق السكنيّة مع تقديم الحد الأدنى للمواطن ليعيش بكرامته عيشةً آدميّة؟ .. لقد سمعت كثيراً من السيّد الرئيس عبارات من نوع: "إحنا ما ناكلش بس نعيش بشكل آدمي" أو "إحنا ناكل من جوعنا ونشرب من عطشنا ونفضل صابرين حتى يعجز الصبر عن صبرنا" أو "إحنا ما ناكلش وح نبني بلدنا" أو "مش ح ناكل؟ ما ناكلش .. ح نجوع يعني؟ طب ما نجوع .. إيه المشكلة يعنى" .. وللأسف هذه العبارات لا تخرج أبداً من مواطن مصري جائع يشعر بالضعف والعجز وقِلّة الحيلة بل والهوان أيّضاً أمام مطالب أسرته وأطفاله المحتاجين للطعام والمياه النظيفة والعلاج والدِفء والسَتر تحت سقفٍ آمن ولا يفكّرون بنفس طريقة الرئيس العميقة والتي تصدر من شخصٍ قادر وبصوتٍ عالٍ ولسانٍ فصيح وعقلٍ مُتَيقِّظ وجسدٍ قوي وبطنٍ ممتلئة وهو على العكس تماماً من طريقة التفكير السطحيّة للفقير أو المحتاج والتي تصدر من شخصٍ عاجز وبصوتٍ خفيض ولسانٍ متلعثم وعقلٍ مُنهَك وجسدٍ واهن وبطنٍ خاوية.

ولكي يستوْعب القارئ كلامي بصورةٍ عمليّة فسأقوم بتشبيه ما أقول بالطبيب الذي يريد أن يعالج مصاباً في حادث فينهمك في إعطاء هذا المصاب مسكناً قويّاً ليخفّف آلامه منشغلاً بذلك عن القيام بإيقاف النزيف أو توفير الأكسجين اللازم لإنقاذ حياته .. أو بالمعلّم الذي يقوم بتحفيظ تلاميذه المسلمين أبياتاً من الشِعر قبل تحفيظهم الفاتحة وقِصار السور أو ذاك الذي يسرد للطلّاب المسيحيين قصة حياة البابا "شنودة" دون أن يقص عليهم سيرة السيّد "المسيح" أوّلاً .. أو بالأب الذي يحرص على شراء الحلويّات لأولاده ولا يهتم بتناولهم للخضر واللحوم والألبان والفاكهة .. والأمثلة كثيرة.    

لدينا مصطلح إسلامي قديم نعرفه جميعاً اسمه "فِقه الأوْلويّات" أو "فِقه مراتب الأعمال" وهو فرعٌ من الفِقه الخاص (وفروعه الأخرى عديدة: كفقه المآلات وفقه المقاصد وفقه الواقع وفقه الموازنات .. إلخ) يُقصَد به ترتيب الأمور (من الناحية الشرعيّة) من حيث الأهميّة والحاجة فتأتي الأمور الأكثر أهميّة أولاً ثم الأقل فالأقل بحيث يتم تقديم الأهم على المهم ولا يتم تصغير ما هو كبير أو العكس .. امتثالاً لقوْله تعالى: "أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمين" وقد صدق الله العظيم حين رفض المساواة بين مَن يسقي حجّاج بيته الحرام وبين مَن يؤمن به ويجاهد في سبيله .. فبالتأكيد يأتي الإيمان والجهاد في مرتبةٍ أعلى وأوْلويّةٍ أهم من سقاية الحجيج.

حتى العامّة والدهماء يعرفون المثل الشائع (وهو مثلٌ يحتاج إلى تصحيح): "اللي يعوزه البيت يحرَم ع الجامع" .. بالتأكيد فإن الضرورات التي تحتاجها الأسرة مثل المأكل والمشرب والعلاج مُقَدَّمةٌ على سواها بناءً على قوْل الرسول: "كفى بالمرء إثماً أن يضيّع مَن يعول" .. ولكن من الخطأ الشديد أن ننفق على احتياجات البيْت الأخرى التي لا تنتهي ونحرم الجامع ممّا يحتاجه من نفقاتٍ لمصلحة المسلمين العامّة بناءً على قوْل الحق: "ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خَصَاصة ومن يوقَ شُح نفسه فأولئك هم المفلحون" وقوْله أيْضاً: "ويُطعِمون الطعام على حبّه مسكيناً ويتيماً وأسيرا".

وأظن – وليس كل الظن إثم – أن المياه النظيفة والصرف الصحّي ضرورتان هامّتان جداً لمنع الأمراض (كالبلهارسيا والكوليرا والتيفود والالتهاب الكبدي وحصوات المسالك والفشل الكلوي والسرطان أيضاً) وأيضاً لمنع الخسائر الهائلة التي تنتج من عدم قدرة المرضى بهذه الأمراض على العمل ومن تحمُّل خزينة الدوْلة لتكلفة علاجهم في مستشفياتها .. وعلى هذا الأساس فإنهما مُقَدَّمتان على الشقق المريحة والأبراج الشاهقة والطرق الواسعة الحريريّة (ده إذا كانت حريريّة أصلاً) والكباري الثُعبانيّة والمدن الجديدة العصريّة .. تماماً مثلما نقدّم الطعام والعلاج والتعليم على الكساء (إلّا فيما يستر ويحمي) والأثاث وباقي وسائل الراحة الأخرى.

ولهذا فأنا أقترح على القيادة السياسيّة (اللي هيَّ نفسها برضه تبقى القيادة الاقتصاديّة والتنمويّة والعسكريّة والأمنيّة والرياضيّة والفنيّة والكل ف الكل) أن تسير على أساس "سياسة الأوْلويّات" أو "اللي تعوزه القرى والنجوع (المحرومة من الماء والصرف) يحرم على جامع الفتّاح العليم أو مسجد مصر" .. وأنصحها – والله من وراء القّصْد – بأن تؤجّل كعبلة المواطنين ف الشقق من أجل توجيه جهودها وأموالها لتوفير الأهم .. ربنا يجعله في ميزان حَسَناتها ويقعّدهولها ف عينها وعافيتها وما يرقّد لها جِتّة قادر يا كريم .. وهنيّا لك يا فاعل الخير والثواب وحَسَنة قليلة تمنع بلاوي كتيرة.  

لقد ذكّرني هذا الأمر بما نَظَمَه "بيرم التونسي" وسمعته من الفنّان الراحل "سعيد صالح" في مسرحيّته الشهيرة "كعبلون" (شوف يا أخي الصُدف: برضه الاسم فيه كَعْبَلة) عندما غنّى  مخاطباً بلده (أو بمعنى أصح مخاطباً القائم على حُكم بلده والذي بيده الأمر كلّه):

يا ام الكرانِك والدِلتا

ح تِعْمِلي طَرْشَة لإمتى

يا "مصر" هَجرِك يكفاني

يا عاملة قُمْع وناسياني

وكان "بيرم" يشير بذلك إلى تجاهل "مصر" (اللي همَّ حكّامها ومسؤوليها) لشعبها وإهمالها لمواطنيها رغم اهتمامها بمظهرها الخارجي أمام العالم .. يعني ما يصحِّش أبداً نمشي نتكعبل ف الشُقَق واحنا أصلاً مش بنقدر نِمشي من المرض والجوع .. ما ينفعش خالص أسكن ف شَقّة شِرْحَة وبِرْحَة وفيها أغلب وسائل الراحة وانا أساساً مش باعيش ف الشقّة دي لإن إقامتي معظم أوقات السنة بتكون في المستشفى نايم على سرير (ده إذا لقيت سراير متوافرة في المستشفيات الحكوميّة من أصله) علشان باعمل غسيل كَلوي (الأصح كُلوي بضم الكاف) أو باتعالج من أمراض الكبد والمسالك أو باخد جلسات كيماوي على أمل إني أخِف من الأورام اللي جات لي من الميّه الملوّثة والزرع المسرطِن .. وأغلب الظن لمّا أطلع من المستشفى مش ح اطلع ع الشقّة اللي اتكعبلت فيها دي إنما ح اروح طوّالي واسكن على طول في حُفرة متر ف مترين في مقابر الصَدَقة أو مدافن قرية "العريان" زي بقية اخواتي في هذا الوطن المنكوب.

google-playkhamsatmostaqltradent