الجزء الحادي عشر
اقتيدت مدام
"دانجلر" خلال ممرٍّ خاص نحو مكتب مسيو "دي فيلفور" فوجدته
جالساً في مقعده يكتب وظهره إلى الباب، ولم يتحرّك حين سمع الباب يُفتَح والحاجب
يقول للزائرة:
- تفضَّلي بالدخول يا سيّدتي.
ثم أٌغلِق الباب من
جديد، ولكن خطوات الحاجب لم تكّد تبتعد حتى نهض قاضي التحقيق فأغلق خشب النوافذ
والستائر وفحص كل ركنٍ في الغرفة، ثم قال:
- مضى زمنٌ طويلٌ منذ كانت لى مُتعة التحدُّث
إليكِ على حِدا يا سيّدتي .. وأنه ليحزنني أننا لم نلتقِ اليوْم إلّا لنتبادل
حديثاً مؤلماً .. فاستجمعي كل شجاعتكِ يا سيّدتي .. فإنكِ لم تعرفي بعد غير طرفٍ
من الموضوع.
وكانت البارونة تعرف
مبلغ هـدوء "دي فيلفور" الطبيعي في الأحوال العاديّة، فأفزعها ما بدا من
انفعاله بحيث فتحت فاها لتصيح، لكن الصيْحة اختنقت في حلقها، بينما استطرد هو فقال:
- أرأيْتِ کيف بُعِثَ ماضينا الرهيب من
مرقده في أعماق ضمائرنا حيث دُفِن كي يمثُل أمامنا الآن مثل الشبح فيجلِّل وجوهنا
بالعار ويكسوها شحوب الأموات؟
فقالت له "هرمين":
- إنها المصادفة ولا شك.
- المصادفة؟! .. كلّا يا سيّدتي !. لا يوجد
شيءٌ اسمه المصادفة.
- بل يوجد .. أليست المصادفة التي كشفت كل
ذلك؟ .. أليست هي التي جعلت الكونت "دي مونت كريستو" يبتاع هذا البيت
بالذات ويحفر أرض الحديقة في ذلك الموْضع بالذات فيعثر على الطفـل التَعِس مدفوناً
تحت الشجرة؟ .. ذلك المخلوق البريء المسكين الذي وُلِدَ مني ولم أستطِع حتى أن أقبِّله
مرّةً واحدة .. والذي طالما بكيْته بدموعي الحارة.
فأجابها "دي
فيلفور" في صوْتٍ أجوف:
- کلّا یا سیدتي .. وهذا هو النبأ الرهيب
الذي أصارحك به اليوْم .. لم يوجد شيءٌ مدفونٌ تحت الشجرة .. لم توجد جُثّة طفل ..
إنكِ لا ينبغي أن تبكي بل يجب أن ترتجفي هلعاً.
- إذن فأنت لم تدفن طفلي المسكين هناك؟ ..
لماذا إذن خدعتني؟ .. أین وضعته؟ قل لي أين؟
-
هناك .. ولكن إصغي إليَّ .. ولسوف
تَرْثين لحال شخصٍ حمل العِبء الثقيل وحده طيلة عشرين عاماً .. ذلك العِبء المُفجِع
الذي يوشك أن يبوح لك بسرّه الآن - دون أن يُلقي أبسط جزءٍ منه على عاتقكِ .. فمنذ
عُدتُ إلى وعيي - بعد أن شُفيت من طعنة ذلك الكورسيكي اللعين - جعلت همّي أن أبحث
عن جُثّة الطفل .. فعمدت إلى الاستفسار فوراً عن مصير البيت الذي كنا نلتقى فيه ..
وحين علمت أن أحداً لم يقطنه منذ تركناه هُرِعت إليه من فوري .. فلم أدع موْضِعاً
من الحديقة لم أضربه بفأسي آمِلاً أن تصطدم الفأس بسطح الصندوق الحديدي .. ولكن
دون جدوى .. لم أعثر على شيء .. فجعلت أسائل نفسي: "ما الذي يجعل ذلك الرجل
يأخذ جثة الطفل؟، إن الأجسام الميّتة لا تُقتَنى بل تُعرَض على قاضي التحقيق كي
يستقي منها الأدَلّة التي يريدها ثم تُدفَن، لكن شيئاً من هذا لم يحدث؟!".
فتساءلت "هرمين"
وهي ترتعد في عنف:
- إذن ما الذي حدث؟
- شيْءٌ أفظع وأقسى عاقبة .. قد يكون
القاتل وجد الطفل حيّاً فأنقذه.
وهنا أطلقت البارونة "دانجلر"
صيْحـةً ثاقبةً وأمسكت يد "دي فيلفور" هاتفةً:
- إبنى كان حيّاً؟ .. هل دفنته حيّاً؟ .. دفنته
دون أن تستوْثق من موْته؟ .. ربّاه.
- لست أدري .. وإنما أنا أفترض ذلك .. كما أفترض
أي فرضٍ آخر.
وزاغت عيْنا الرجل، ودَلَّت
نظرته على أن عقله الثاقب قد بلغ حافّة اليأس والجنون، وراح يغمغم:
- إذا كان الأمر كذلك وصح هذا الفرض فإننا
نكون قد هلكنا .. يكون الطفل ما يزال على قيْد الحياة .. ويكون هناك شخصٌ يعرف سِرَّنا
.. وما دام الكونت "دي مونت كريستو" قد تحدَّث أمامنا عن طفلٍ وُجِدَ في
الحديقة - في حين أن ذلك الطفـل لا يمكن أن يكون قد وُجِدَ أصلاً - إذن فهو الذي
يقف على سِرَّنا.
وبعد بضعة أيّامٍ كان "دي
فيلفور" جالساً في بيته مكتئباً حين سمع صوْت عجلاتٍ تدنو من الباب، ثم تلاه
وَقْع خطواتٍ تصعد السلم، وفُتِحَ الباب بعد ذلك فدخلت منه عجوزٌ تحمل معطفها على
ذراعها وقُبَّعتها في يدها، وكان منظرها مؤلماً بشعرها الأبيض وجبينها الأصفر وعيْنيْها
اللتيْن غضنتهما الشيخوخة وكادتا تختفيان وراء أجفانهـا التي قرحها البكاء، وهتفت
المرأة في لوْعة:
- أوّاه یا سیّدي .. أيّة كارثةٍ حلَّت بي
.. إننی سأموت حُزناً بلا شك.
فنهض "دي فيلفور"
وخَفَّ لاستقبال حماته - الأولى - متسائلاً:
- ماذا حدث؟ .. ما الذي أزعجكِ؟ .. هل مسيو
"دي سانت ميران" معكِ؟
فأجابت الماركيزة
العجوز دون مُقدِّماتٍ ودون أي تعبيرٍ على وجهها من فرط ذهولها:
- إن مسيو "دي سانت ميران" قد
مات.
فتراجع "دي فيلفور"
وهو يضم يديْه صائحاً:
- مات؟ .. هكذا فجأة؟
فقالت الماركيزة:
- منذ أسبوعٍ خرجنا معاً في العربة بعد
الغداء .. وكان زوْجي متوعِّك الصحّة منذ أيّام .. لكن فكرة رؤية عزيزتنا "فالنتين"
مرّةً أخرى أمدَّته بالشجاعة .. فأغفل أمر مرضه وعلى بُعد سِتّة فراسخٍ من "مرسيليا"
- بعد تناول الأقراص التي أَلِفَ تناوُلها - نام نوْماً عميقاً إلى درجةٍ شعرت
معها أنه نومٌ غير طبيعي .. لكني تردَّدت مع ذلك في إيقاظه رغم أني لاحظت احتقاناً
في وجهه وعُنفاً غير عادي في نبضات عروق صدغه .. ولم ألبث أن غفيْت أنا بدوْري ..
ثم صحوْت بعد حين على حشرجةٍ كالتي تصدر من شخصٍ يتألَّم من كابوس .. و فجأة ألقى
رأسه إلى الخلف بشدَّة .. فاستعملت الأملاح التي تُزيل الإغماء .. لكن كل شيءٍ كان
قد انتهى .. ولم نصل إلى "إیکس" حتى كان جُثّةً هامدة.
وكان "دي فيلفور"
يُصغي إلى القصة وقد فغر فاه من فرط ذهوله ولم ينطق بحرف.
وفي مساء اليوم التالي
غادر "دي فيلفور" المنزل ومعه الطبيب، وقال القاضي لمرافقه:
- أوّاه یا عزیزي .. لقد أعلنت السماء
الحرب على بيتي .. يا لها من ميْتةٍ فظيعـة .. أيّة كارثة .. لا تحاول مواساتي فما
من شيءٍ يستطيع أن يُخفِّف من فداحة حزني .. إن الجرح عميقٌ وحديث.
فأجابه الطبيب:
- یا عزیزی "دي فيلفور" .. ما صَحِبْتُـكَ
إلى هنـا کي أواسيك .. بل على العكس .. فإن وراء الخَطْب الذي أصابك خَطْباً آخر أمر
وأدهی .. لقد ماتت الماركيزة "دي سانت ميران" من جرعةٍ قويّةٍ من "بروسين
الستريكنين" لعلَّها قد أُعطيَت لها عن طريق الخطأ.
فتناول "دي فيلفور"
يد الطبيب وقال:
- هذا مستحيل .. لا بُد أني أحلم.
- هل للماركيزة "دي سانت میران"
اعداء؟
- لست أعلم أن لها أي أعداء.
- ألَا يُحتَمَل أن يكون الخادم "باروا"
قد أخطأ فأعطاها جرعةً كانت مُعَدَّةً لسيّده؟
- لا أدري .. ولكن كيف يكون دواء مسيو "نوارتييه"
سامّاً للماركيزة؟
- هذا أمرٌ غايةٌ في البساطة .. فهناك سمومٌ
تغدو أدويةً للعلاج في بعض الحالات .. ومنها حالة الشلل .. وقد وصفتُ لمسيو "نوارتييه"
في آخر زيارةٍ سِتَّ حبّاتٍ من البروسين .. وهي جرعة يحتملها هو لأنه أخذ من هذه المـادَّة
جرعاتٍ سابقةً صغيرة .. لكنها لو أُعطيَت لأوّل مرّةٍ لأي إنسانٍ لقتلته فوْراً.
- ولكن ليس هناك يا عزيزي أی اتصالٍ بين
جناح مسيو "نوارتييه" وجناح الماركيزة "دي سانت ميران" .. ولم
يدخل "باروا" مخدع حماتي قط.
- یا عزیزی "دي فیلفور" لو كان
في طاقة الطب أن يُنقِـذ الماركيزة "دي سانت ميران" لأنقذتها .. لكنها
قد ماتت .. وواجبي الآن ينحصر في حماية الأحياء .. فلندفن هـذا السر الرهيب في
أعمق أعماق قلوبنـا .. وأنا على استعدادٍ - فيما لو ارتاب أحدٌ في الأمر - أن أعزو
سكوتي عن التبليغ إلى جهلي .. وفي أثناء ذلك عليك أن تُشدِّد رقابتك .. فلعل الشر
لا يقف عند هذا الحد .. وحين تكتشف المجرم – إذا عثرت عليه - سأقول لك: "أنت قاضي
تحقیقٍ وأعرَف الناس بواجبك".
سر مصرع الجنرال
على أثر الجنازة
المزدوجة للماركيز والماركيزة "دي سانت ميران" عاد "دي فيلفور"
بصُحبـة "فرانز دي بيناي" إلی حي "سانت أونوريه"، فمضی القاضي
إلى مكتبه مباشرةً دون أن يعرج على حجرة زوجته أو ابنته، وهناك قدَّم الرجل للشاب
مقعداً وهو يقول له:
- مسیو "دي بیناي" .. اسمح لي أن
أُذكِّرك في هذه اللحظة بأن الفقيدة قد أعربت - وهي على فراش الموت - عن رغبتها في
ألّا يتأخَّر زفاف "فالنتين" عن موْعده .. وليس في هذا الأمر ما يجافي
الذوْق كما قد يبدو لأوّل وَهلة .. فإن تنفيذ رغبات الموْتى أوّل ما يجب لهم على
الأحياء.
فقال الشاب:
- كما تشاء يا سیّدي.
وواصل "دي فيلفور"
كلامه فقال:
- إذن أرجو أن تتكرَّم بالانتظار نصف ساعة
ريثمـا تهبط "فالنتين" من غرفتها .. وسأُرسل في استدعاء المُسجِّل مسيو "دیشان"
کي نقرأ عقد الزواج ونوقِّع عليه قبل أن نفترق .. ولسوف تصحب السيدة "دي
فيلفور" "فالنتين" الليلة إلى ضيْعتها .. على أن تلحق أنت بهما بعد
أسبوع.
وحين حضر مُسجِّل
العقود ابتدر "فرانز" بقوْله:
- ينبغي أن أُخبِرك یا سیدي - بناءً على
طلب مسيو "دي فيلفور" - بأن زواجك المرتَقَب من الآنسة "دي فيلفور"
قد غيّر عواطف مسيو "نوارتييه" نحو حفيدته فجرَّدها من ثروته التي كانت
سترثهـا .. وأُضيف إلى ذلك أن الموصي - الذي لا يملك غير حق التصرُّف في جزءٍ من
ثروته فقط - قد تصرّف في ثروته كلها .. الأمر الذي يجعل الوصيّة قابلةً للطعن والإلغاء.
وهنا أردف مسيو "دي
فيلفور":
- نعم .. لكني أُبادر فأُنبِّه مسیو "دي
بیناي" إلى أن وصيّة أبي لن يُنازَع فيها خلال حيـاتي .. فإن مركزي يحول دون
تجريحها.
ولم يكَد يفرغ من هذا
القوْل حتى فُتِحَ الباب وبرز على عتبته "باروا" وقال:
- سادتي .. إن مسيو "نوارتييه"
يرغب في أن يتحدَّث الآن إلى مسيو "فرانز دي بیناي".
فالتفت "دي فيلفور"
إلى ابنته وقال لها:
- "فالنتين" يجب أن تذهبي لتبحثي
هذه النزوة الجديدة من جانب جدّك.
فنهضت الفتاة على عجلٍ
وأسرعت نحو الباب مغتبطة، ولكن صوْت أبيها ما لبث أن لاحقها إذ غيّر رأيه فقال:
- انتظري .. سأذهب معكِ.
وكان "نوارتييه"
متأهِّباً للقائهم، فلمّا دخل الأشخاص الثلاثة الذين كان ينتظرهم نظر إلى الباب
فأغلقه خادمه، وإذ ذاك همس "دي فيلفور" في أُذُن ابنته التي عجزت عن إخفاء
فرحتها:
- اصغي إليَّ: إذا أراد مسيو "نوارتييه"
أن يتخذ أي إجراءٍ يؤخِّر موْعد زواجكِ فإني أمنعك من أن تفهمي إشارته".
وأوْمأ "نوارتييه"
إلى "فالنتين" کي تقترب منه، وأدركت هي من أوّل إشارةٍ أن جدّها يريد
مفتاحاً، ثم استقرَّت عيناه على درجٍ في خزانةٍ صغيرةٍ تقع بين النوافذ، ففتحت
الدرج ووجدت مفتاحاً، وهنا أدار الشيْخ المشلول عيْنيْه نحو منضدة مكتبٍ صغيرةٍ مُهمَلةٍ
منذ سنوات بحيث ما كان أحدٌ ليعتقد أنها تضم أوْراقاً ذات قيمة، ففتحتها الفتاة
وأخرجت منها حزمةً من الأوْراق مربوطةً برباطٍ أسود تناولها "فرانز"
وقرأ على غلافها هذه العبارة:
[[[تُسَلَّم عقب وفاتي
إلى الجنرال "دوران" الذي سوف يوصي بالحزمة إلى ابنه بعد أن ينبِّهه إلى
ضرورة المحافظة عليها باعتبارها تضم مستنداتٍ هامة]]]
ثم فض "فرانز
الحزمة" وقرأ بصوْتٍ مسموعٍ وسط سكون الحجرة:
[[[صورةٌ من محضر جلسة
نادي أنصار "بونابرت" الكائن بشارع "سان جاك" يوم 5 فبراير
سنة 1815]]].
وعندئذٍ توقَّف "فرانز"
عن القراءة وقال:
- 5 فبراير سنة ١٨١٥؟! .. إنه اليوْم الذي
قُتِلَ فيه أبي.
فلم ينبس "دي
فيلفور" أو "فالنتين" بكلمة، بينما أوْمأ الشيْخ المشلول إلى الشاب
کي يواصل القراءة، لكن هذا قال وكأنه يحدِّث نفسه:
- لقـد اختفى أبي عند مغادرته هذا النادي.
فلما استحثّته عيْن
المريض قرأ:
[[[يُعلن الموقِّعون
على هذا المحضر أنهم قد تلقّوا يوم 4 فبراير خطاباً من جزيرة "ألبا" يوصي
بأن يضُم النادي إلى عضويّته الجنرال "فلافيان دي كينيل" الذي خدم الإمبراطور
من سنة ١٨٠٤ إلى ١٨١٤ وما زال يخص بعواطفه أسرة "نابليون" بغض النظر عن
لقب البارون وضيْعة "دي بيناي" اللتيْن منحه إيّاهما لتوِّه الملك "لويس
الثامن عشر"، ومن ثَمَّ طلب المجتمعون إلى المرشَّح الجديد أن يحضر الجلسة
التي تُعقَد في اليوم التالي - 5 فبراير - فلمّا حضر بدأ الحاضرون يستجوبونه عن
عواطفه السياسيّة لكنه اكتفى بالقوْل أنها واضحةٌ من الخطاب المُرسَل من جزيرة "ألبا"،
فحاول الرئيس إغراءه بأن يتكلَّم بمزيدٍ من الوضوح والتحديد، وحين شدَّد المجتمعون
عليه الخناق قال: "لم تمضِ أيّامٌ على إعلاني ولائي للملك "لويس الثامن
عشر" بحيث يصعُب عليَّ أن أحنث بعهـدي فأنضم إلى الإمبراطور السابق"،
وكان الرد من الوضوح بحيث لا يدع مجالاً للشك في حقيقة عواطف الرجل، فنهض الرئيس
وقال يخاطب الجنرال: "سیّدی؛ إن كلامك يدل بوضوحٍ على أن سُلُطات جزيرة "ألبا"
خُدِعَت فيك وخدعتنا ونحن لن نُجبِرك على أن تساعدنا ضد ضميرك لكننا سنُرغِمك على أن
تتصرَّف تصرُّفاً كريماً"، فأجاب الجنرال: "تقصدون أن أقف على مؤامرتكم
ولا أُبلِّغ عنها؟، إني أُسمّى هذا اشتراكاً معكم فيها وهكذا ترون أني أكثر صراحةً
منكم"، فأجابه الرئيس: "إن أحداً لم يُرغِمك على حضور هذا الاجتماع وأنت
من الفِطنة بحيث تُدرِك موقفنا الحالي وصراحتك تُملي علينا الشروط التي ينبغي أن
نفرضها عليك"، فنظر الرجل فيما حوْله في قلقٍ ثم تذرَّع بكل صلابةٍ وقال: "إنني
لن أُقسم يمين الولاء"، وعندئذٍ قال له الرئيس في هدوء: "إذن يجب أن
تموت"، ونهض الرئيس فأشار إلى ثلاثةٍ من الأعضاء كي يتبعوه، ثم ركب الجميع
العربة مع الجنرال بعد أن عصبوا عيْنيْه حتى بلغوا ذلك الجُزء من رصيف "أورم"
الذي يقود سُلَّمه إلى النهر، وهناك وُضِع المصباح على الأرض ووقف الخصمان
متواجهان، ثم بدأت المبارزة، وبرغم أن الجنرال "دي بيناي" كان من أبرع
رجال الجيش في المبارزة فإنه سقط ميّتاً بعد خمس دقائقٍ فقط، وعندئذٍ أُلقيَت جُثّته
في النهر وعاد الشهود من حيث أتوا، وهكذا يتبيّن أن الجنرال مات في مبارزةٍ شريفةٍ
وليس في كمينٍ غادرٍ كما أُشيع، وقد حرّرنا هـذا المحضر وذيّلناه بتوقيعاتنا إثباتاً
لهذه الحقيقة خشية أن يجيء اليوْم الذي يُتَّـهَم فيه أحدٌ ظُلماً بقتل الرجل عمداً
أو بخرق قواعد الشرف وأصول المبارزة. التوقيعات: "بوريير – ديشامبي – ليشاربال"]]].
وهنا قال "دي بيناي"
يُحدِّث "نوارتييه":
- سیّدي .. ما دُمت على علمٍ بكل هذه
التفصيلات التي يُقرِّها شهودٌ شرفاء .. وما دُمت تهتم بأمري - برغم أنك أظهرت هذا
الاهتمام في صورةٍ عكسيّةٍ سبَّبت لي مزيداً من الأسى - فلا تَضِن عليَّ بإجابة
مطلبٍ واحدٍ أخير .. اذكر لي اسم رئيس ذلك النادي حتى أعرف على الأقل اسم قاتل ابي.
ثم التفت إلى "فالنتين"
وقال لها:
- آنستي .. ضُمّي جهدك إلى جهدی کي نكتشف
اسم الرجل الذي جعلني يتيماً في الثانية من عمري.
لكن "فالنتين"
بقيت جامدةً صامتة، بينما نظر "نوارتييه" إلى القاموس فتناوله "فرانز"
وهو يرتجف في عصبيّة، وراح يكرِّر على مسمع المريض جميع الحروف الأبجديّة على التتابع
حتى أوقفه هذا عند حرف "أ" ثم عند حرف "ن" ثم حرف "ا"،
وهي الحروف التي تُكَّوِن كلمة "أنا"، فهتف "فرانز" مذعوراً:
- أنت؟! .. أنت یا مسیو "نوارتييه"
الذي قتلت أبي؟!
فأجاب "نوارتييه"
وهو ينظر إلى الشاب نظرةً ذات جلال بما يعني "نعم"، وإذ ذاك تهالك "فرانز"
على مقعده خائر القُوى، بينما فتح "دي فيلفور" الباب ولاذ بالفرار فقد
راودته فكرة إخماد البقيّة الباقية من الحياة في قلب الشيْخ المُسِن الرهيب.
في سوق الرقيق
جلس الكونت "دي
مونت كريستو" و"ألبرت دي مورسيرف" - بعد عوْدتهما من حفلة استقبالٍ
في بيت "دانجلر" - يتناولان الشاي في صالون منزل الكونت، ثم تطلَّع "مورسيرف"
نحو الباب الذي كانت تنبعث من ورائه أصواتٌ تُشبِه أنغام القيثارة، فقال له الكونت
"كريستو":
- لقد قُسِمَ لك يا عزيزي الفيكونت أن تسمع
الكثير من الموسيقى هذا المساء .. فإنك لم تكَد تنجو من بيانو الآنسة "دانجلر"
حتى لاحقتك قيثارة "هایدي".
فقال "ألبرت":
- هایدي؟ .. يا له من اسمٍ ساحر .. هل هناك
حقّاً نساءٌ يحملن اسم "هايدي" في غير شِعر "بيرون"؟!
- بلا شك .. إن اسم "هايدي" اسمٌ
نادرٌ في "فرنسا" لكنه شائعٌ منتشرٌ في "ألبانيـا" وجزيرة "أبيروس"
.. وقد وُلِدَت وارثةً لكنوزٍ لا تُعَد كنوز "ألف ليلة وليلة" بالقياس إليها
شيئاً مذكوراً.
- لا بُد إذن أنها أميرة.
- أنت على حق .. بل إنها من أعظم أميرات
بلدها.
- إذن كيف صارت جاريةً لك وهي أميرةٌ عظيمة؟!
- إنها نتائج الحرب - یا عزیزي الفيكونت - وتقلُّباتها
ونزواتها.
- وهل اسمها الكامل وشخصيّتها سِرٌ من الأسرار؟
- هل تعرف تاريخ "علي" باشا والي
"يانينا"؟
-
"علي"
باشا؟ .. أوه .. نعم .. إنه الوالي الذي كوَّن أبي ثروته وهو في خدمته.
- هذا صحيح .. لقد نسيت ذلك .. إذن فلتعلم
أن "هايدي" هي ابنة "علي" باشا من زوْجته الحسناء "فاسیلیکي".
- وکیف صارت جاريةً لك؟
- لقد اشتريتها ذات يوْمٍ وأنا مارٌّ في
سوق "القسطنطينيّة"
- هذه مصادفةٌ رائعة .. وبهذه المناسبة؛ هل
لي أن أطمع في أن تُقدِّمني لها؟
- أقبل ذلك بشرطيْن: أوّلهما ألّا تبوح يوْماً
لأحدٍ بأني منحتك هـذه الفرصة .. والثاني ألّا تخبرها قط بأن أباك كان يوْماً في
خدمة أبيها.
- حسناً .. إني أقبل هذيْن الشرطيْن.
جلست "هايدي"
في انتظار زائريها في الحجرة الأولى من جناحها وهى حجرة الاستقبال، وكانت عيْناها
الواسعتان تفيضان دهشةً وترقُّباً، فقد كانت هذه هي المرّة الأولى التي يسمح فيها
الكونت "دي مونت كريستو" لإنسانٍ بزيارتها، وكانت جالسةً على أريكةٍ في
زاويةٍ من الحجرة وقد عقدت ساقيْها تحتها على الطريقة الشرقيّة.
وقال "ألبرت"
بالإيطاليّة:
- يا مضيِّفي العزيز وسيّدتي السِنيورة:
اغفرا لى غبائي الظاهر فإني جدٌ حائر ومن الطبيعي أن أكون كذلك .. فأنا الآن في
قلب "باريس" ومع ذلك أحس كأني نُقِلت فجأةً إلى الشرق .. لا كما رأته عيْناي
بل كما رسمه خیالي .. آهٍ یا سِنيورة لو أنني كنت أستطيع أن أتكلَّم باليونانيّة
لكان حديثك الطلي بالإضافة إلى المناظر الساحرة الخياليّة التي تحيط بي يمنحني
سهرةً مُمتِعةً يستحيل عليَّ أن أنساها.
فأجابت "هايدي"
في هدوء:
- إني أعرف قليلاً من الإيطاليّة يُتيح لي
أن أُجاذبك الحديث بها .. وإذا كنت مولِعاً بكل ما هو شرقي فسوف أبذل جھدي کي أُتيح
لك ما يُرضي ذوقك أثناء وجودك هنا.
فقال "ألبرت"
للكونت بصوْتٍ خافت:
- اسمح للسِنيورة يا كونت أن تسرد عليَّ
طرفاً من تاريخها .. لقد منعتَني من الإشارة إلى اسم والدي على مسمعٍ منها ولكن
لعلَّها تُشير إليه من تلقاء نفسها أثناء الحديث .. وأنت لا تستطيع أن تتصوَّر كم
يلذ لي أن أسمع اسم أسرتنا تنطق به هاتان الشفتان الجميلتان.
وهنا التفت الكونت إلى "هايدى"
ثم قال لها باليونانيّة وعلى وجهه تعبيرٌ آمر:
- حدِّثينا بقصة مأساة أبيكِ .. ولكن دون
أن تذكري اسم الخائن ولا تفصيل الخيانة.
فتنهَّدت "هايدي"
من قلبٍ مكلوم وكست وجهَها سحابةٌ من الحُزن ثم قالت:
- تريدني إذن أن أسرد تاريخ أشجاني الماضية؟
.. حسناً .. كنت في الرابعـة من عمري حين أيقظتني أُمّي فجأةً ذات ليْلة وكُنّا في
قصر "يانينا" .. فلم أكَد أفتح عيْني حتى رأيت عيْنيْها مغرورقتيْن
بالدموع .. ثم انتزعتني من الفراش الوثير الذي كنت نائمةً عليه دون أن تنبس بكلمة
کي نلوذ بالفِرار .. وقد قيل لي بعدئذٍ أن حامية قصر "يانينا" التي
أضناها العمل المتواصل قد استسلمت لـ"خورشيد" باشا الذي أرسله السلطان
للقبض على أبي .. وبعد قليلٍ كنا جميعاً في الملجأ الذي أعدّه أبي من قبل وأطلق
عليه اسم "المخبأ" .. وكان ذلك بعد أن أرسل إلى السلطان كتاباً مع ضابطٍ
فرنسي كان يوليه ثقته الكاملة.
فسألها "ألبرت":
- ألا تذكرين اسم هذا الضابط يا سِنيورة؟
وهنا تبادل الكونت مع "هايدي"
نظرةً سريعةً لم يلحظها الشاب، فأجابت قائلة:
- لست أذكره الآن .. ولكن إذا تذكَّرته
أثناء حديثنا فسوف أذكره لك.
وهنا كاد "ألبرت"
ينطق باسم أبيه لوْلا أن ذَكَّره الكونت بوعده السابق بإشارة تحذيرٍ بسبّابته فلاذ
بالصمت بينما استأنفت الفتاة كلامها فقالت:
- كان المخبأ الذي لجأنا إليه عبارةٌ عن جزيرةٍ
صغيرةٍ تتوسَّط إحدى البُحيْرات .. وكان هناك كهفٌ تحت الأرض فأُخِذْتُ إليه مع أُمّي
وحاشيتنا من النساء .. وكان في الكهف سِتّون ألف حافظةٍ تحوي ٢٥ مليون جنيهٍ من
الذهب ومائتا برميلٍ بها ثلاثون ألف رطلٍ من البارود .. وإلى جوار البراميل وقف
وكيل أبي الوفي المُفضَّل "سليم" يحرس الكهف ليل نهار وفي يده حربةٌ مُزوَّدةٌ
بثقابٍ دائم الاشتعال .. وكان لديه أمرٌ بأن ينسف الكهف بكل مَن فيه وما فيه - حتى
إن كان أبي بداخله - في اللحظة التي يتلقّى فيها الإشارة المُتَّـفَق عليها من قبل
.. وذات يومٍ أرسـل أبي يدعونا إليه .. وكانت أمي قد قضت ليْلتها مؤرَّقَةً تبكي
وهي فريسةٌ لأشد حالات التعاسة .. فوجدنا الباشا هادئاً ولكن أكثر شحوبا من
المألوف .. وابتدر أمي قائلاً: "تشجَّعي یا "فاسیليکي" فاليوْم يصل
المرسوم السُلطاني الذي يقرِّر مصيري فإذا كان قد منحني عفواً كاملاً فسنعود
منتصرين إلى "يانينا" أمّا لو كانت الأنباء مريبة فينبغي أن نفر الليْلة"
.. فقالت له أمي: "وماذا تصنع إذا حال عدوُّنا دون هذا الفرار"؟ ..
فأجابها وهو يبتسم: "لا تقلقي بشأن ذلك ففي هذه الحالة يتكفَّل "سليم"
وحربته بحسم الموقِف فسوف يُسَرّون برؤیتي میّتاً لكنهم لن يُسَرّوا بأن يموتوا معي"
.. كان ذلك في الساعة الرابعة بعد الظهر .. وبرغم أن النهار كان مُشرقاً في الخارج
لكننا كُنّا داخل الكهف في ظُلمةٍ تامّة فيما عدا بصيصٌ من الضوْء في ركنٍ منها
ينبعث من حربة "سليم" .. كان أشبه بنَجمةٍ وحيدةٍ في سماءٍ معتمة ..
وفجأة سمعنا صيْحاتٍ عاليةً تبيَّنا فيها رنين الفرح .. وتجاوب الحُرّاس في الخارج
باسم الضابط الفرنسي الذي أوْفده أبي إلى السلطان فأدركنا جميعاً أن الرجل عاد
يحمل ردّاً مُرضياً .. وازداد الضجيج واقتربت خطواتٌ تهبط السُلَّم إلى داخل الكهف
.. وأعد "سليم" العُدّة لإشعال البارود في حالة حدوث ما يستلزم ذلك ..
وعندئذٍ ظهر في مدخل الكهف شخصٌ لم يتبيَّن "سليم" وجهه بسبب الظلام فصاح
به: "مَن أنت؟، حذارِ أن تتقدَّم خطوةً أخرى" .. فأجابه الآخر هاتفاً: "عاش
السلطان"، لقد منح جلالته "علي" باشا وزيره عفواً كاملاً ولم يرد إليه
حياته وحدها بل رد إليه أيضاً ثروته وممتلكاته" .. وهنا سأله "سليم"
سؤالاً حاسماً.
قال "ألبرت"
وقد بدا الانفعال والإثارة على وجهه:
- ما هو هذا السؤال؟