خبر
أخبار ملهلبة

المعذبون في الأرض (8) | خطر | طه حسين


بورتريه الدكتور غاشيه للفنان الرسام الهولندي فينسنت فان جوخ 1890

المعذبون في الأرض (8) | خطر

 

 

لست أبغض شيئًا كما أبغض إلقاء الدروس في الوعظ والإرشاد، وتنبيه الغافلين وإيقاظ النائمين، وتحذير الذين لا يغني فيهم التحذير ولا النذير، وأنا مع ذلك مضطر إلى هذا أشد الاضطرار، أراه واجبًا تفرضه الوطنية الصادقة، وتفرضه الكرامة الإنسانية، ويفرضه الحرص على ألا تتعرَّض مصر للأخطار العنيفة قبل إبَّانها، وعلى أن يسلك هذا الوطن البائس طريقه إلى التطور في أناة ورفق وهدوء، لا تعصف به العواصف، ولا يجري عليه ما جرى على بعض الأمم من هذه الثورات التي لا تبقي على شيء.

وقد يذعر القارئ حين يقرأ هذا الكلام، وكم أتمنى أن يكون ذعره صادقًا يبلغ القلب، ويصل إلى أعماق الضمير، ويدفع إلى العمل الذي يعصم مصر من هذه الأهوال التي تنتظرها في طريقها إلى التطور والرقي.

موظف من موظَّفِي الدولة، ليس بالعامل الذي يُحسَب له أجرة مياومة، وإنما هو من الموظفين الدائمين — أو المثبتين — كما يقول الحكوميون. هذا الموظف في الدرجة السابعة، يبلغ مرتبه اثني عشر جنيهًا أو أقل من ذلك قليلًا، له زوجة وخمسة من الولد، وقضت عليه ظروف الحياة أن يعول بني أخته وهم ستة، وأن يعول عمةً له تقطَّعت بها أسباب الرزق، فهم إذن أربعة عشر شخصًا، يعيشون أو يراد منهم أن يعيشوا على هذا المرتب الضئيل. والعيش طعام وشراب ولباس، والتجاء إلى دار يظلهم سقفها، وتحميهم جدرانها من أن تأخذهم الشرطة كما تأخذ المتشردين. وطبيعي ألَّا ينهض هذا المرتب الضئيل بحاجة هذه الأسرة الضخمة، فيكون الاقتراض، ثم يكون العجز عن أداء الدَّيْن، ثم يكون امتناع القادرين عن الإقراض ما داموا لا يستردون ما يقرضون، ثم يكون الحرمان، لا أقول من طيبات الحياة، فليس لمثل هذه الأسرة أمل في طيبات الحياة، وإنما أقول مما يقيم الأود ويرد ألم الجوع. ثم يكون الحرمان، لا أقول من الثياب التي تقي حرَّ الصيف وبرد الشتاء، فليس لهذه الأسرة في هذه الثياب أمل، وإنما أقول من الثياب التي تستر ما يجب أن يُستَر من الأجسام. ثم يكون الحرمان، لا أقول من الفرش الوثيرة، فليس لهذه الأسرة في الفرش الوثيرة أمل، وإنما أقول من الحصير الذي يحول بين أجسامها وبين الأرض، ومن الغطاء الذي يُخَيَّل إليها أنها تحاول أن تتقي به البرد. ثم يكون الضيق بالحياة، ثم يكون الالتجاء إلى الأغنياء بطلب المعونة، ثم يكون إعراض الأغنياء عن هؤلاء اللاجئين البائسين، إما لأن قلوب الأغنياء قاسية، وإما لأن هؤلاء اللاجئين ليسوا وحدهم طلَّاب العون وإنما لهم شركاء في الالتجاء والتماس البر، وإما لأن الأغنياء يرون أن من الحق عليهم أن يُحسِنوا ولكنهم يرون أن من الحق أن يُنظَّم الإحسان حتى لا ينتشر الأمر، وحتى لا يلجأ إليهم البائس ومتكلِّف البؤس، وحتى لا يُتَّخَذ التسول صناعةً وحرفةً، وحتى لا يُتَّخَذ البر وسيلةً إلى طمع الناس فيما ليس في أيديهم من يسر الموسرين؛ وإما لهذه العلل كلها مجتمعة ولعلل أخرى كثيرة يمكن أن تضاف إليها وليس في إحصائها نفع لأحد. ولكن الشيء الذي ليس فيه شك، هو أن هذا الموظَّف من موظَّفِي الدولة عاجز عن أن يجد في مرتبه الضئيل ما يرضي أيسر ما تحتاج إليه أسرته لتعيش، فهو يستدين من جهة حتى لا يجد إلى الاستدانة سبيلًا، وهو يلتمس الإحسان من كل طريق فلا يظفر بما يلتمس من الإحسان، فليس أمامه إلا أن يقترف الإثم ليعيش ويتيح لأسرته أن تعيش، وقد يمنعه خُلُقه ودينه من اقتراف الإثم، وقد تكون الحاجة إلى الغذاء والكساء أقوى من خلقه ودينه، فيقترف الإثم، ولكن القانون له بالمرصاد، فهو إنْ فعل تعرَّضَ للعقوبة، وتعرَّضَتْ أسرته لبؤس تضاعِفه الظروف أضعافًا، وإذن فَلْيصبر، ولكن الصبر لا يطعم الجائع، ولا يكسو العاري، ولا يُسكِت الصبي الذي يصيح ملتمسًا طعامه حين يعضه الجوع، ولا يداوي المريض، ولا يغني عن الذين انتهوا إلى الدرك الأسفل من الحرمان شيئًا.

والشيء الذي ليس فيه شك، أن هذا الموظف ليس وحيدًا في بؤسه هذا المنكر، وفي عبئه هذا الثقيل، وإنما له نظراء لا يُحصَون بالعشرات ولا بالمئات، وإنما يُحصَون بالألوف وأخشى أن يُحصَوا بعشرات الألوف، وليس من الممكن أن تُحَلَّ مشكلات هؤلاء الناس بالاستدانة، والعجز عن أداء الدين، أو الالتواء بالدين، وليس من الممكن أن تُحَلَّ مشكلات هؤلاء الناس بالتصدُّق والإحسان، فإن التصدُّق والإحسان قد يُعِينان على تفريج أزمة عارضة، وعلى إطعام العيال يومًا أو أيامًا، وعلى كسوة العيال في فصل من الفصول، ولكنهما لن يستطيعا أن يكفلا لهؤلاء الناس حياةً يأمنون فيها من البؤس والجوع.

وأنا لم أذكر إلى الآن حقَّ هؤلاء الصِّبْيَة في أن يتعلموا، وفي أن يستمتعوا بصحة لا تجعلهم عرضة للأدواء المهلكة والأمراض المعدية، ولا تجعلهم مصدر خطر على مَن يتصل بهم من الناس.

هذه مشكلة لو كانت طارئةً لظننتُ أن الحديث عنها قد يُلفِت إليها ويدعو إلى التفكير فيها والاجتهاد في حلها، ولكنها لم تطرأ اليوم، ولم تطرأ أمس، وإنما عهدها بنا بعيد، وإهمالنا لها متصل، وهي من أجل ذلك تنتج نتائجها المنكرة المخزية؛ فانتشار الوباء في غير مشقة، وانتشار الفساد الخُلُقي، وانتشار الرشوة، وانتشار السرقة، وتقطيع الصلات بين الناس، وانتشار الظلمة في الضمائر والقلوب، وانتشار اليأس حتى من روح الله، وانتشار الذلة والمسكنة والهوان، وانتشار الإذعان للظلم والاستسلام للعسف، والانقياد للاستبداد بالحرية والكرامة، والازدراء لكل ما يجعل الإنسان إنسانًا، فضلًا عن الازدراء لكل ما يجعل الإنسان إنسانًا متحضِّرًا ممتازًا؛ كل هذه الآفات والمخازي ليس لها مصدر إلا هذا الشقاء.

وَلْأَعُدْ إلى هذا الموظف من موظفي الدولة، إنه كغيره من الموظفين؛ يغدو إلى مكتبه مع الصباح، ويروح إلى داره مع المساء، قد اتَّخَذَ ثيابًا تلائم عمله، ولو بليت ثيابه فلم يجد ما يشتري به ثيابًا أخرى لعُوقِبَ على ذلك، فالدولة حريصة على أن يكون موظفوها كرامًا في مظاهرهم على أقل تقدير. هو إذن يغدو ويروح في ثيابه تلك الملائمة، وعلى رأسه طربوشه، وفي رجليه حذاؤه الذي لا ينبغي أن يبلى، وهو يستقبل أصحاب الحاجات من الشعب، يبسم لهم أو يعبس في وجوههم، يخدمهم ناصحًا أو يخدمهم متكرهًا، وهو يتحدَّث إلى زملائه فيبادلهم الدعابة حينًا ويبادلهم الشكوى أحيانًا، وهو على كل حال قبر متحرك، يحيا حياة ظاهرة ولكن قلبه ميت، قد أماته البؤس والشقاء والهم، وأكثر زملائه يشبهونه؛ فأعجب لدولة يخدمها موظفون تحيا أجسامهم، وتموت نفوسهم، وانتظر بعد ذلك من هذه الدولة أن تسلك بالشعب طريقه إلى العزة والكرامة والاستقلال الناقص أو التام. والمهم هو أننا عشنا حتى رأينا موظفي الدولة يطلبون الصدقة ويلتمسون الإحسان، يطلبون ذلك بألسنتهم، ويطلبون ذلك بأقلامهم، جاهَدوا ما وسعهم الجهاد حتى أرغمتهم الحاجة على أن يتخففوا من هذه الكرامة التي منحها الله للإنسان، والتي تمنع الإنسان من أن يسأل ويلتمس الإحسان!

موظَّفو الدولة إذن يطلبون الصدقة ويلتمسون الإحسان، وأغرب ما في الأمر أن عامة الشعب يحسدون الموظفين على مرتباتهم هذه المقرَّرة المنظَّمة التي تُصرَف لهم في أول الشهر، لا تتخلف عنهم ولا تبطئ عليهم، وإذا كانت هذه حال المحسودين فكيف تكون حال الحاسدين؟ أظن أنك قد رأيت الخطر الذي يسعى إلينا مسرعًا، أو الذي نسعى إليه مسرعين، وأظنك توافقني على أننا بين اثنتين: إما أن نترك الأمور تجري على سجيتها فيكون ما لا بد أن يكون، ويجري علينا ما جرى على الأمم من قبلنا، وإما أن نستقبل من أمرنا ما استدبرنا، وأن نحاول الإصلاح لنعصم موظفي الدولة من طلب الصدقة والتماس الإحسان، فنعصم الشعب كله من طلب الصدقة والتماس الإحسان، وليس إلى ذلك إلا سبيل واحدة، هي أن نُعِيد النظر في نظامنا الاجتماعي كله، فيما تجبي الدولة من الضرائب، وفيما تمنح الدولة من المرتبات.

الضرائب قليلة جدًّا، أقل مما ينبغي، والمرتبات قليلة جدًّا، أقل مما ينبغي، والعدل يقتضي أن تُضاعَف الضرائب، وأن تُضاعَف المرتبات، وأن تكفَّ الدولة عن الإسراف في الأموال العامة، وأن يكفَّ الأغنياء عن الإسراف في أموالهم الخاصة. وليس إلى الإصلاح الاجتماعي من سبيل إلا إذا وجدت الأداة السياسية الصالحة التي تستطيع أن تنهض بعبئه، وتنقذه من مشكلاته، فهل ترى أن مصر تملك في هذه الأيام أداة سياسية صالحة تمكِّنها من محاولة هذا الإصلاح؟ هذا سؤال لست في حاجة إلى أن أجيب عليه.

 

 

(يتبع)

google-playkhamsatmostaqltradent