شراً تِعمل خيراً تِلقى (2)
واستمر الجلّادان في
عملهما اللا إنساني المقزِّز إلى أن راح المتّهم المسكين في إغماءةٍ عميقة وهو
ينتفض وينزف بغزارة فقال "حجّاج" لمعاونه :
- شيلوا الواد ابن
الـ..... ده من هنا وعلّقوه من رجليه ف الأوضة التانية.. وكُبّوا عليه ميّه ساقعة
لغاية ما يفوق.. لو مضى وبصم إرموه في الحجز.. ولو لسّه دماغه ناشفة هاتهولي تاني.
- طب لو ما مضاش
أجيبهولك بكره.. خلّيه يريّح النهار ده احسن الواد ده شكله ضعيف وخايف يموت ف إيدينا
زي الواد بتاع الشهر اللي فات.
- لأه.. أنا ما
عنديش شغل يبات لتاني يوم.. ما تخافش عليه يا خويا.. دول كلّهم ولاد كلب جِبلّات..
ولو مات تبقى مصلحة.. خلّي البشر تخِّف واحد نِتِن.. وح نبقى نظبّط له تقرير زي اللي
فات.. إعمل بس انت اللي باقول لك عليه.. ونادي لي "حازم" باشا ف سِكِّتك.
- تأمرني سعادتك.
وبعد هُنيْهة وَلَج
إلى داخل مكتب "حجّاج" الضابط "حازم" فجلسا يرتشفان فنجانيْن
من القهوة وهما يتجاذبان أطراف الحديث :
- وعامل إيه مع
خطيبتك يا "حازم"؟
- الحمد لله.. بس
لسّه ضاربين خناقة مع بعض امبارح.
- علشان الشقّة.. مش
كده؟
- يخرب عقلك.. إيش
عرّفك؟
- أنا مباحث يا له..
فوق لافَوَّقك.
- لأ صحيح.. عرفت
منين؟.. هيَّ كان صوتها عالي آه بس مش للدرجة دي.
- أخوها الرائد
"سيف" كان معايَّ ف مأموريّة الأسبوع اللي فات.. وحكى لي إنكم طاقشين مع
بعض اليومين دول علشان هيَّ مش عايزة تسكن غير ف "العجوزة" علشان تبقى
جنب مامتها.. وانت ما معاكش فلوس تكمّل تمن شقّة هناك.. ده حتَّى وصّاني لو اعرف
حد عنده شقق هناك ابقى اقول له.
- وانا ح اجيب منين؟..
دي أقل شقّة هناك بربع مليون.. أنا لفّيت هناك وعارِف.
- طب واللي يجيب لك
شقة تلات أوض وصالة ع الطوب الاحمر ف عمارة جديدة بميتين ألف بس؟
- يا ريت.. إنت عندك
حد؟
- آه.. أنا.. أصل انا
من شهر كده اشتريت شقّة هناك بربع مليون.. وقلت اخلّيها لغاية ما تتوفّر معايَّ
فلوس اشطّبها وانقِل فيها.. حاكم موقعها أحسن من شقّتي ياما.. وما كنتش ناوي افرّط
فيها خالص.. حتَّى لمّا "سيف" كلّمني ما قلتلوش عليها.. بس للأسف حصل
ظرف عائلي كده مخلّيني محتاج لميتين ألف جنيه.. بس كاش.. ورحت النهار ده سجّلتها ف
الشهر العقاري علشان كان واحد عرض عليَّ إنه يشتريها مني بميتين وتلاتين ألف.. وف آخر
لحظة افتكرتك.. قلت حظّك يا واد يا "حازم".. إدفع لي ميتين بس علشان افُك
زَنقتي ومش مهم اخسر خمسين ألف.. ما هي الشقّة مش رايحة لحد غريب.. ده انت
"حزّومه" حبيبي.
- أيوه.. بس انا ما
معاييش غير ميّة وتمانين ألف بس.
- يا أخي استذوق وخلّيك
حَسيس.. باقول لك واللهِ العظيم ح اخسر فيها خمسين ألف.. عموماً لو مش لازماك انا
لسّه ما ردّيتش ع الراجل.
- لأ لأ.. أنا ح اكلّم
الحاج والدي يتصرّف لي ف عشريناية ونخلّص الموضوع الأسبوع ده.
- إتّفقنا.. بس آخرك
الإسبوع ده علشان انا محتاج الفلوس ضروري.
وقطع حديثهما معاون
المباحث عندما طرق على الباب فصاح "حجّاج" :
- أدخل.
- خلاص يا باشا
الواد مضى وبصم على بياض بعد ما شرب "البيبس" الحجم الكبير.. أعمل إيه ف
الورقة البيضا اللي عليها إمضته وبصمته؟
- ورقة واحدة؟..
مضّيه وبصّمه على تلات أربع ورقات علشان نكتب اللي عايزينه براحتنا.. وهات لي الورق
ده وابعت لي البلوكامين "رفيق" علشان امَلّيه الاعترافات.
- تمام يا باشا.
ومرّت شهور وتم
ترقية "حجّاج" ونقله إلى جهاز أمن الدولة بناءً على توصية رؤسائه بعد أن
اكتسب ثقتهم فيه وحاز رضاءهم عليه فقد كان بارعاً في انتزاع الاعترافات وإنهاء
القضايا على الوجه الأمثل من الناحية الأمنيّة، وتولّى "حجّاج" رئاسة
قسم التعاون الدولي والاتصال الخارجي بالجهاز وكان من ضمن مهامه الإشراف على
التحقيقات وانتزاع اعترافات أعضاء الجماعات الإسلامية المقبوض عليهم خارج البلاد
في إطار التعاون الوثيق بين جهاز أمن الدولة المصري ونظرائه في البلاد الأجنبيّة، وقد
كان معتقل "جوانتانامو" أحد أهم الروافد التي يأتي منها هؤلاء البؤساء
أعضاء هذه الجماعات.
وفي يومٍ من الأيّام
وصلت "لحجّاج" إشارةً توكِل إليه التحقيق مع اثنيْن من المعتقلين اللذين
سيُرسلان من سجن "جوانتانامو" لمعرفة هيكل التنظيم الذي يتبعانه ومصادر
تمويله والمخطّطات التي تدرّبا عليها وأماكن تدريبهما وما يستجد من معلومات يمكن انتزاعها
منهما والاستفادة بها.
وفي يوم وصول
المعتقليْن أمر "حجّاج" مرؤوسيه بأن يبدأوا في ممارسة التعذيب الجسدي والنفسي
عليهما دون إعطائهما أية فرصةٍ لالتقاط الأنفاس، كما أمرهم بأن يسمحوا لمندوب مكتب
التحقيقات الفيدرالي (إف بى أي) ومترجمه بالدخول، وتسلّم من المندوب ملفيْن خاصيْن
بالمعتقليْن وبدأ في الاطلاع عليهما فور انصراف الضيفيْن.
وعندما فتح
"حجّاج" أحد الملفّيْن وقرأ اسم المعتقل "سامح فهمي المرشدي" اندهش
كثيراً فقد كان هذا الاسم مألوفاً له وعندما نظر إلى الصور الشخصيّة المأخوذة من
زوايا مختلفة للمعتقل دارت به الدنيا من وقع الصدمة؛ فقد كان هذا المعتقل هو أخوه
بعيْنه فتذكّر أن هذا الاسم هو الاسم المستعار الذي أصدر به جواز السفر المزيّف
لأخيه، وأسرع "حجّاج" بقراءة باقي الملف ولكنه لحسن الحظ لم يجد فيه ما
يشير إلى اعتراف أخيه باسمه الحقيقي أو شخصيّته الأصليّة حيث ذكِر في الملف أنه أَبَى
أن يعترف بأي شيء رغم التعذيب الشديد الذي تعرّض له سواء في "بريطانيا"
حيث تم القبض عليه للاشتباه في صلته بتنظيم القاعدة أو في "جونتانامو"
حيث تم ترحيله وتسليمه إلى مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي.
ولم يقرأ
"حجّاج" الملف الثاني الخاص بالمعتقل الآخر فقد أحس بأن الشلل قد أصاب
تفكيره، فما كان منه إلا أن أمر زبانيته بأن يوقفوا تعذيب المعتقليْن حتَّى يتولّى
التحقيق معهما بنفسه في الغَد، وأمرهم أيضاً بأن يوقفوا حيالهما جميع الإجراءات
المتّبعة في هذا الشأن بما في ذلك تأجيل أخذ بصماتهما حتَّى يأمر هو بذلك غداً فقد
خشى أن تتّضح شخصيّة أخيه بعد مضاهاة بصماته بصحيفة حالته الجنائيّة القديمة لدى
إدارة الأدلّة الجنائيّة، ثم استأذن من رئيسه المباشر في أن يترك العمل ويعود
لمنزله لإحساسه بالمرض على أن يعاود العمل في الصباح الباكر، ولئلا يتعطّل العمل استأذنه
كذلك في أن يصطحب معه الملفيْن الخاصيْن بمعتقليْ "جوانتانامو" حتَّى يعكف
على دراستهما في منزله حتَّى الغد ليستطيع رسم خطة دقيقة يستطيع بموجبها التعامل
مع هذيْن المعتقليْن نفسيّاً وعمليّاً للحصول على الاعترافات والمعلومات المطلوبة،
وبعد حصوله على موافقة رئيسه انقطع "حجّاج" في منزله يقلّب الأفكار ويستعرض
الحلول حتَّى يخرج من هذه الأزمة بسلام، فقد كان بيْن شقّيْ رَحَى: أخيه العائد من
غياهب الماضي ومستقبله الواعد في الشرطة، فما انفك يبحث عن أنسب طريقة يستطيع بها
إخفاء حقيقة أخيه التي لم يعرفها أحدٌ حتَّى الآن ولكن مَن يدري فقد يبوح بها أخوه
تحت أثر التعذيب أو تتكشّف بعد إجراء التحقيقات والتحريّات، وبعد جهدٍ جهيد توصّل
إلى الحل.
وفي الصباح التالي
توجّه "حجّاج" إلى رئيسه المباشر وعرض عليه تقريره الذي قضى في كتابته
معظم ليلته، وتضمّن هذا التقرير ما يلي :
{{{ السيّد اللواء /
نائب رئيس الجهاز :
بعد التحيّة.....
أتشرّف بعرض هذا
التقرير لاتخاذ القرار اللازم بصدده، فقد تبيّن لي بعد دراسةٍ عميقة لملفيْ
المعتقليْن الوافِديْن لنا أمس من معتقل "جوانتانامو" الأمريكي أن
المعتقل الأوّل واسمه "مصطفى عبد القادر" الشهير "بأبي
القاسم" (مصري الجنسيّة) قد تعاون إلى حدٍ ما مع سلطات التحقيق الأمريكيّة
مما يعني أن مقر جهازنا "بالقاهرة" قادرٌ بقليلٍ من الجهد على التعامل
معه والحصول على المعلومات المطلوبة، أمّا المعتقل الثاني واسمه : "سامح فهمي
المرشدي" الشهير "بأبي جهاد" (مصرى الجنسيّة) فلم يتجاوب مع
الأساليب العاديّة للتحقيقات التي مَثَل لها من قِبَل الشرطة البريطانية (سكوتلاند
يارد) ومكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي (إف بى أي) مما يعني أن الحصول منه على
المعلومات المطلوبة يتطلّب أساليباً نفسيّة وجسديّة استثنائيّة ومتطوّرة لا تتوافر
في مقرّنا "بالقاهرة" بل تتوافر في مقرّنا بمعتقل "وادي
النطرون" رقم (1)، وعليه فإنني أرى - والرأي الأوّل والأخير لسيادتكم - أن
يتم نقل هذا المعتقل وحده إلى سجن "وادي النطرون" في أقرب فرصةٍ
تحدّدونها سيادتكم على أن يتم ذلك تحت أقصى درجات السريّة حيث أن أفراد الجماعة
الإرهابيّة التي ينتمي إليها المعتقل الثاني قد يعلمون بموعد وطريقة ترحيله فيسعون
لإطلاق سراحه كما حدث منذ أربعة أشهر مع أحد المعتقلين عندما راقبوا مقرّنا وتتبّعوا
سيّارة الترحيلات إلى أن انتهزوا الفرصة المناسبة في الطريق الصحراوي فهاجموا
السيّارة وطاقم الحراسة المكلّف بهذه المأموريّة ونجحوا فيما أرادوا، ولذلك فإنني
أقترح أن يتم ترحيل هذا المعتقل على النحو التالي :
أتنكّر أنا في زي أحد
العاملين بشركة الكهرباء وأقود بنفسي إحدى سيّارات الشركة تحت ستار إصلاح إحدى
الكابلات بمقرنا بجهاز أمن الدولة (يتم ذلك بعد الاتفاق على استعارة السيّارة التي
هي عبارة عن عربة نصف نقل مجهّزة بصندوق مغلق من الحديد يخفي ما بداخله) إلى داخل
مبنى الجهاز حيث يتم وضع المعتقل مكبّلاً بالأغلال والأصفاد داخل الصندوق وحيداً
دون حراسة لعدم لفت الانتباه ثم إحكام غلق باب الصندوق من الخارج، ثم أقود
السيّارة بعد فترة من الوقت خارجاً من بوّابة المبنى وكأني أتممت الإصلاح المطلوب،
وفي هذه الحالة لن يتم الالتفات لسيّارة شركة الكهرباء ولن يخطر على بال أحدٍ
ترحيل مثل هذا المعتقل الخطير بمثل هذه الطريقة البسيطة دون حراسةٍ مشدّدة، وسأتجه
إلى سجن "وادي النطرون" وأبدأ بتنفيذ مهمّتي في انتزاع الاعترافات
اللازمة من هذا المعتقَل في أسرع وقتٍ بمساعدة الإمكانيّات الجبّارة المتوفّرة
هناك، على أني أعد سيادتكم بأنني لن أكتفي بذلك بل أتعهّد لكم بالإشراف الكامل ومتابعة
سير التحقيقات "بالقاهرة" مع المعتقَل الأوّل.
إنني إذ أطلب من
سيادتكم الموافقة على اقتراحي فإنني أضع اسمي وسُمعتي على المحك وأنفِّذ هذه
العمليّة على مسئوليّتي الشخصيّة راجياً من الله - عز وجل - أن يحفظ النظام بقيادة
رئيسنا المؤمن وأن يحفظ "لمصر" أمنها وسلامها تحت توجيهات سيادتكم التي تحرس
وتحمي الشعب.
قال رسول الله (
صلعم ) : عيْنان لا تمسهما النار أبداً : عيْنٌ بكت من خشية الله وعيْنٌ باتت تحرس
في سبيل الله. صدق رسول الله.
مقدّمه لسيادتكم :
عقيد / حجّاج عبد
الجبّار
رئيس قسم التعاون
الدولي والاتصال الخارجي }}}
وبعد أن قرأ رئيسه
المباشِر التقرير وأثنى عليه ووعده بإبلاغه بالقرار الذي سيتم تنفيذه ذهب
"حجّاج" إلى مكتبه وأمر باستدعاء المعتقل الأوّل إلى مكتبه أوّلاً دَرءاً
لإثارة الشُبُهات، وأمر بتحريره من أصفاده وتَرْكِهما وحدهما بحجّة أنه يريد أن
يتقرّب للمعتقل ربما يكسب ثقته ليبوح بأسراره دون عناء، وقضى "حجّاج"
حوالي نصف الساعة صامتاً يستهلك الدقائق في قراءة بعض الأوراق لقطع الوقت حتَّى لا
يقارِن أحدٌ من معاونيه بين المدّة التي يمكثها مع المعتقل الأوّل والمدّة التي سيمكثها
مع أخيه المعتقل الثاني في حين كان المعتقل واقفاً في رعب وأنفاسه تتلاحق بسبب
الخوف من حدوث أي شيءٍ غير متوقَّع وبسبب أن رأسه كانت مغطّاة بكيسٍ أسودٍ معتم
يعوق التنفّس ويشوّش الفكر.