الفصل العاشر والأخير
ومرّت الأعوام بين
مواسمٍ تنقضي وأخرى تُقبِل، مات في غضونها كثيرٌ من الحيوانات ذات الأعمار
المحدودة حتّى لم يعد بالمزرعة من الحيوانات من يذكر عهد ما قبل الثوْرة ما عدا "كلوفر"
و"بنيامين" والغراب "موسى" وبعض الخنازير، في حين نفق كثيرٌ
من الحيوانات منها: "موريل" و"بلوبل" و"جـيـسي" و"بنشر"،
وكذلك فإن مـسـتـر "جونز" قد وافاه الأجل المحتوم في مستشفى بعيدٍ خاص
بعلاج مدمني الخمر.
وقد طوى النسيان "سنوبول"،
وكذلك فإن ذكرى "بوكسر" قد انمحت إلّا في قلوب قِلّةٍ من عارفيه، وأصبحت
"كلوفر" فرساً عتيقةً ضخمة البِنية، وقد أصيبت مفاصلها بشيْءٍ من التيبُّس،
وأصبحت وكأن عيْنيْها دائمـاً مـغـرورقـتـان بالدمـوع!، وقد بلغت من العـمـر مـا
يزيد على سِن التقاعُد بعاميْن إلّا أن فكرة الإحالة إلى التقاعُد في المزرعة لم
تعُد قابلةً للتطبيق، بل إن الحديث فيها قد انتهى، كما انتهت فكرة تجنيب جزءٍ من
المرعى للمسنّين من الحـيـوانات، أما "نابليون" فـقـد أصبح خنزيراً
بالغاً ضـخـمـاً يزيد وزنه على 336 رطلاً، وكذلك فإن "سكويلر" قـد بلغ
من السِمنة بحيث أصبح لا يمكنه فتح عيْنيْه للرؤية إلّا بصعوبة، أمّا "بنيامين"
فقد ظل بدون تغيير إلّا من بعض الشُعيْرات البيْضاء حوْل فمه وقد أثّر في نفسيّته
موْت "بوكسر" فصار أكثر صمتاً وانطواء.
وقد زادت أعداد
الحيوانات بالمزرعة وإن كانت بدرجةٍ أقل ممّا كان متوقَّعاً في السنوات الأولى من
الانقلاب، وقد وردت على المزرعة حيواناتٌ لا تكاد تعرف شيْئاً عن الثوْرة إلّا
القليل ممّا تتناقله الحيوانات الأخرى، كما اشترت "مزرعة الحيوانات" بعض
الحيوانات التي لم يسبق لها أن سمعت شيْئاً عن الثوْرة من قبل!
وقـد أصبحت المزرعة
تمتلك في ذلك الوقت خـيـولاً ثلاثاً بجانب "كلوفر" تتّصف بالنشاط
والإقبال على العمل وحُب الرِفاق وإن تكن غايةً في الغباء حتّى إن أحداً منها لم
يستطِع حِفظ حرفٍ واحدٍ من حروف الهجاء بعد الباء!، وكانت هذه الخيـول تصـدِّق كل
ما تلقِّنه عن الثوْرة ومبادئ المذهب الحيواني "Animalism"،
وخصوصاً إذا ما نُقِل لها عن "كلوفر" التي كانت تشعر تجاهها باحترام
الأمومة.
وقد أصبحت المزرعة
في عهدها الجديد أكثر رخاءً وأحدث تنظيماً، وقد ضُمَّ إليْها حقلان اشتُريا من
مستر "بلكنجتون"، وصارت المزرعة تمتلك آلةً للدراس (تفصل حبوب القمح عن
سنابله)، وأخرى لتجميع الدريس كما شُيّدَت مبانٍ أخرى كثيرة، واشترى "ويمبر"
لنفسه عربةً صغيرة، كما تم بناء الطاحونة بنجاح في آخـر الأمـر وإن لم تُسـتـَغـَل
في أغراض توْليـد الكـهـربا، واكـتـُفي بتشغيلهـا كـمطحنةٍ للغِلال، وقد درّت على
المزرعـة أرباحاً طائلة، وكذلك انشغلت الحيوانات في بناء طاحونةٍ أخرى بزعم أنها
ستُزَوَّد بجهاز توليد الكهربا.
وقد نسيت الحيوانات
الوعود القديمة التي طالما ردّدها "سنوبول" على مسامعها والتي كانت تحلم
بها مثل تزويد الحظائر بالمصابيح الكهربيّة والمياه الباردة والساخنة واقتصار
العمل على ثلاثة أيامٍ فقط بالأسبوع!، وقد وَصَمَ "نابليون" هذه الأفكار
بأنها تعارض جوْهر المذهب الحيواني، فإن السعادة الحقيقيّة تكمن كـمـا قـال في
العمل الجاد والتقشّف في الحياة!، وبرغم زيادة ثراء المزرعة فقد ظلّت الحيوانات
التي تعيش بها على سيرتها الأولى من الفـقـر مـا عـدا الخنازير بطبيعة الحال وكذلك
الكلاب، وربّما كـان تـعليل ذلك أن الخنازير أصـبـحت تمثِّل الأغـلـبـيـّة
بالمزرعة، ولم تكن الخنازير عاطلةً لا تعمل، وإنما كانت لها تخصّصاتٌ دقيقةٌ لا
يستطيعها أحدٌ غيْرها!، كما كان "سكويلر" يذكر مِراراً وتِكراراً
للحيوانات أن الخنازير تؤدّي أعمالاً جليلةً لا تكاد تنتهي في مجالات الرقابة
والتنظيم الإداري بالمزرعة، وأن كثيراً من هذه الأعباء أصعب من أن يتناولها الشرح
وإن كانت في صورتها المبسّطة عبارةً عن تحرير الملفّات والتقارير والمذكرات ومحاضر
الجلسات وتدوينها.
ومثل هذه الأعمال
تؤدّي بالكتابة على كميّاتٍ ضخمةٍ من الورق، فإذا ما تم لهـا تحبير هذه الأوراق
فإنها بعد ذلك تجمعها وتحرقها بالفرن، وأفهمها "سكويلر" أن مثل هذه
الأعمال هي من الأهميّة بمكان لرفاهية المزرعـة بـرغـم مـا يـبـدو من أن الخنازير
والكلاب لا تسـاهـم مـبـاشـرةً بالمجهود العضلي وأن شهيّتها دائماً ممتازة.
أمّا الحيوانات
الأخرى فقد كانت حياتها تسير على نمطٍ واحد؛ فهي دائماً جوْعی تنام على القَش،
وتشرب من البِركة، وتعمل في الحقل ، وفي "الشتاء" تعاني من البرد، أما
في "الصيْف" فمن الذباب، وفي بعض الأحيان فإن العجائز منهـا كـانت
تعـصـر ذاكرتها لتعود بها إلى أيّام الثوْرة الأولى بعد طرد "جونز"،
وماذا كانت عليه حالها في ذلك الوقت بالمقارنة مع ما هي عليه الآن من حيث السعادة
والشقاء، ولكنها كانت لا تذكـر شـيْـئـاً تستطيع به مـضـاهاة الماضي بالحـاضـر
اللهُمَّ إلا بيانات "سكويلر" الإحصائيّة والتي يتضح منها بجلاء أنها
تتقدّم يوْماً بعد يوْم!، ولكن تفكيرها في هذا الشأن لـم يكن ليقودها إلى جوابٍ
شاف؛ كما أن عملها اليوْمي الشاق لم يدع لها فراغاً للتفكير.
أمّا "بنيامين"
العجوز فقد كان يدّعي أنه يذكر كل تفاصيل حياته المديدة الماضية، وكان يكرّر القوْل
بأن الحياة هي الحياة، وأنها لم تكن فيما مضى أسوأ أو أحسن ممّا هي عليه الآن فهي
تمضى رتيبةً ديْدنها (قانونها) دائماً الجوع والتعب وخيْبة الأمل!، ومع ذلك فإن
الحيوانات لم تكُن لتكُف عن الأمل في المستقبل، كما أنها لم تفقد ولو للحظةٍ واحدةٍ
شعورها بالفخر والاعتزاز بانتـمـائـهـا إلى "مـزرعـة الحـيـوان"؛ فهي
الحيوانات الوحيدة في أنحاء "إنجلترا" التي تمتلكها بنفسها وتدير
مزرعتها الخاصّة.
ولم يكن ليشذ عن هذا
الشعور بالإعجاب أحدٌ منها صغيراً كان أو قادماً جديداً ممَّن اشتُري من المزارع
الأخرى التي تبعد عشرة أو عشرين ميلاً، وحينما يدوّي صـوْت البندقيّة أو يرفرف
العلم الأخـضـر فـوق ساريته فإن قلوبها كانت تعمر بالفخر الأبدي، وتعود إلى أحاديث
البطولات الماضية حينما استطاعت الحيوانات طرد "جونز"، وحينما دوّنت
الوصايا السبع، وحينما استطاعت أن تنتصر على الآدميّين في معارك مشهودة.
إنهـا الأحلام
الذهبيّة التي لم يستطِع الـزمـان أن يجـري عـليـهـا بالنسيان، بل إن الحيوانات
كـانت يداعبـهـا الأمل القديم الذي تنبّأ به "ميجور" من دحر الآدميّين
وتطهير كل حقول "إنجلترا" الخضراء منهم!، إن هذا اليوْم لقادم، وربّما
كان وشيكاً، وربّما تحقّق حال حياتها، ولكنه يومٌ لا ريْب فيه، بل إن الحيوانات في
خلواتها كانت ما تزال تدمدم بلحن "يا وحوش إنجلترا" كلما أُتيحت لها
الفرصة، وعلى أي حال فإنها كانت تحفظ اللحن وإن جَبُنَت عن التغنّي به جهراً.
ربّما كانت حياتها
شاقّة والكثير من آمالها كان بعيداً عن التحقيق، ولكنها تدرك تمام الإدراك أنـهـا
حـيـواناتٌ ليْست كـبـقـيـة الـحـيـوانات الأخرى، فهي إذا ما جاءت فإنها لا تعتمد
في القليل الذي تأكله على الآدميّين المتجبّرين، وإذا ما أُرهِقَت في العمل فإنها
تدرك أن عملها يعود عليها، كما كان يسعدها أنه ليْس بالمزرعة من يمشي على رجليْن
اثنيْن، وليْس بيْنها سيدٌ ومسود .. أليْست كل الحيوانات سواسية؟
وفي ذات يوْمٍ من
أوائل الصيْف أمـر "سكويلر" الغنم أن تتـبـعـه إلى أرضٍ قَفْرٍ في الطرف
البعيد من المزرعة حيث تنبت شجيرات "البتولا" الشيطانيّة، وكانت تقضي
طوال يوْمها وهي ترعى أوراق الشُجيْرات تحت إشراف "سكويلر"، وفي المساء
كان "سكويلر" وحده يرجع إلى منزل المزرعة على حين يترك الغنم في مرعاها
في ليْل "الصيْف" الدافئ.
وظلّت الغنم على هذه
الحال أسبوعاً كاملاً لا تتّصل في غـضـونه بالحيوانات الأخرى، كما ظلَّ "سكويلر"
طوال هذا الوقت معها مدعياً للآخرين أنه على وشك تلقينها أغنيةٍ جديدة، وبعـد عـوْدة
الغنم وفي ليْلةٍ من ليالي "الصيْف" اللطيفة حينما انتهت الحيوانات من
عناء عملها وهي تتّجه إلى مباني المزرعة تناهى إلى أسماعهـا صهيل حصانٍ فَزِعٍ
ينبعث من الفناء وقـد تـوقّـفت الحـيـوانات لتسمع من جديد، فإذا الصهيل ينبعث ثانيةً
وخُيّل إليها أنها "كلوفر" فاندفعت الحيوانات تجر] إلى الفناء فإذا بها
تبصر الشيْء الذي أفزع هو نفسه "كلوفر"، لقد كان أمامها خنزيرٌ يمشي على
رجليْه الخلفيّتيْن، ودقّقت النظر فإذا به "سكويلر" يخطو ورجلاه لا
تكادان تحملانه من فرط سِمنته، ومع أنه كان حديث العهد بمشية الرجال فإنه استطاع
أن يحتفظ بتوازنه جيداً!، وبعد لحظةٍ من الزمان خرجت الخنازير من المنزل إلى فناء
المزرعة في طابورٍ طويلٍ وهي تمشي على أرجلها الخلفيّة بعضها يكاد يتقن المشية،
وأخرى تترنّح وكأنها تبحث عن عكازٍ يحفظ عليها تـوازنها، ولكنها على أيّة حال
استطاعت أن تدور حول الفناء بنجاح، وفجأة علا نباح الكلاب وسُـمِـعَ صـوْت أذان
الديك الأسـود، ثم خـرج عليـهـا "نـابلـيـون" بـذاته وبطلعته الملكيّة
واعتدال قامته وهو يوزّع نظراته المستعلية على رعيّته هنا وهناك وكلابه تحيط به
وهى تتوثّب، وفي شِق ظلفه شاهدت الحيوانات سوْطاً!، وخيّم صمتٌ عميق، وبدت على
الحيوانات أمارات الدهشة والخوْف، واقتربت بعضها من بعض تشاهد طابور الخنازير وهي
تدور حول الفناء في تؤدّة، وخُيّل للحيوانات أن السمـاء قـد انطبقت على الأرض، ولمّا
زالت عنها آثار الصدمة العنيفة التي أحدثها هذا المنظر وعلى الرغم من رعبها من
الكلاب وعادتها في الصمت المتّصل عبر السنين الطويلة دون أن تجرؤ على التصريح
بالشكوى أو توجيه النقد مهما يكن البلاء والعناء، بالرغم من كل هذا فإن بعض
الحيوانات ربّما أفصحت عن امتعاضها واعتراضها الشديديْن!
وقبل أن تفكّر واحدةٌ
منها أن تفتح فمها انفجرت الأغنام في هتافٍ عالٍ وكأنها قد تلقّت إشارة البدء
فانطلقت في صوْتٍ واحدٍ تردّد شعاراً جديداً: "ذوات الأربع أخيار .. ذوو الرِجليْن
أفضل!" .. "ذوات الأربع أخيار .. ذوو الرِجليْن أفضل" .. دوالَيْك
(تداولوا على ترديد الشعار مرّةً بعد أخرى).
وظلّت الأغنام تردّد
شعارها المُستحدّث لخمس دقائقٍ دون انقطاع، ولمّا هدأت كانت الفرصة السانحة
للاعتراض قد وَلّت، وكانت الخنازير قد قفلت عائدةً إلى منزلها.
وأحس "بنيامين"
بأنف "كلوفر" وهو يقترب من كتفه وقد خبا بريق عيْنيْ "كلوفر"
أكثر من ذي قبل، ودون أن تتكلّم اندفعت تربّت (تطبطب على أو تضرب ضرباً خفيفاً
ليهدأ) معرفته (عُرْفه أو عنقه من الخلف حيث ينبت الشعر) بحنانٍ وهي تقوده إلى
حائط الحظيرة حيث دوِّنت الوصايا السبع، ولدقيقةٍ أو اثنتيْن وقفا ينظران الحائط
الأسود وعليه حروفٌ بيْضاء، ثم قالت "كلوفر" أخيراً:
- إن بصـري يـخـونني كـمـا أنني حينما
كنت في شـبـابي لم أكُن لأستطيع أن أقرأ مـا كـان مـدوَّناً على الحائط، أما زالت
الوصايا السبع كما كانت على حالها يا "بنيامين"؟
وللمرّة الأولى خالف
"بنيامين" سيرته الأولى في الصمت، وأخذ في قراءة ما كان مدوَّناً على
الحائط، ولم يكن مكتوباً على الحائط إلّا وصيةٌ واحدةٌ نصّت على الآتي:
"كل الحيوانات
سواسية ولكن بعض الحيوانات أكثر مساواةً من غيْرها"!
ولم يعُد من المستغرَب
بعد ذلك – حينما حضرت الخنازير لتلاحظ سيْر العمل بالمزرعة – أن يحمل كلٌ منها سوْطاً
في أظلافه، ولم يعُد من المستغرَب أيْضاً أن تتوالى الأنباء عن أن الخنازير قد
اشترت لأنفسها مذياعاً وأنها تتخذ الترتيبات كافّة لشراء تليفون، وأنها قد اشتركت
في مجلّات "جـون بول" و"تـيـت-بـيـتس" و"الديلي ميرور"،
ولم تكن الحـيـوانات لتُدْهَش حينما أبصـرت "نابليون" وهو يتنزّه في
حديقة المنزل على حين يدخِّن غـلـيـونـه!، ولـم يعُـد يدهشـهـا كـذلك منظر
الخنازير وهي ترتدي ثياب مـسـتـر "جـونز" وقد تأنّق "نابليون"
نفسه في معطفه الأسود؛ كما ارتدت خنزيرته الحسناء ثوْباً حريريّاً هفـهـافـاً
كـانت مسز "جـونـز" تـُعِـدُّه لأيّام "الأحاد"!
وبعد ظهر يوْمٍ من
الأسبوع التالي وفدت على المزرعة عدّة عرباتٍ هبط منها وفدٌ من جيرانها الزارعين دُعوا
للقيام بجولةٍ تفتيشيّةٍ في أنحاء المزرعة، ليطّلعوا بأنفسهم على جميع نشاطاتها،
فأبدوا إعـجـابهم الشديد بكل ما شاهدوه وبالطاحونة على وجه الخصوص، وكانت الحيوانات
في ذلك الوقت منهمكةً في تطهير حقل اللفت من الحشيش، وظلّت منكبّةً على عملها لا
تجسر على رفع رأسها حينما قدم الوافدون وهي لا تعلم من أمر نفسها شيْئاً: هل هم
البشر الذين أدخلوا على قلوبها كل هذا الهلع ... أم هي الخنازير؟
وفي المساء انبعثت
من المنزل ضحكاتٌ عاليةٌ وأغانٍ صاخبةٌ وقد مَسَّ الحـيـوانات شـعـورٌ فـيـّاضٌ
بالـفـضـول حينما اختلطت عليـْهـا الأصـوات، فـمـاذا تكـون عـليـْه الحـال حـينمـا
تجتمع الحيوانات للمرّة الأولى مع الآدميّين على قدم المساواة؟
وكأنما كانت
الحيوانات على اتفاقٍ سابق؛ فقد أخذت كلها تزحف في هدوءٍ إلى حديقة المنزل، وتوقّفت
برهةً قصيرةً عند مدخل الحديقة وهي لا تجرؤ على الدخول، ولكن "كلوفر"
قادت الجَمْعَ إليها، وعلى أطراف أصابعها تقدّمت الحيوانات إلى المنزل، وتطلّع طوال
القامة منها عبر نافذة حـجـرة الطعام وقـد شـاهدت على المائدة الممتدّة ستةً من
المزارعين وسـتـةً مـن وجـهـاء الخنازير يتـصـدّرهـم "نابليون" في المقـعـد
الرئيس، وبدت الخنازير سعيدةً على سليقتها في مقاعدها الوثيرة!
وكان الجميع يتسلّون
بلعب الورق، ثم ما لبثوا أن توقّفوا إلى حين لتبادل شُرْب الأنخاب!، ودارت على
المجتمعين آنيةٌ ضخمةٌ لإعادة مِلء أكـواب الجعـة الـفـارغـة وهم لا يشعرون
بالحيوانات التي كانت تطل عليهم من خارج المبنى وقد علت وجوهها الدهشة!
ثم وقف مستر "بلكنجتون"
صاحب مزرعة "فوكس وود" وكأسه في يده وهو يقترح على الحضور أن يعيدوا ملء
كؤوسهم؛ ليشربوا نخباً ثم قال إن لديه كلمةً تلح عليه أن يُلقيها، فإنه قد وجد من
دواعي سعادته الغامرة وكذلك سعادة الآخرين أن تنتهي – وإلى الأبد – فترة الشك وسوء
الفهم التي قد سادت طويلاً العلاقات التي بيْن الداعين والمدعوين، فقد مضى وقتٌ
طويلٌ كـانت في المجتمع البشري شريحةٌ – وليس هـو أو أحد الحاضرين من بيْنهم – تنظر
إلى السادة مُـلّاك "مـزرعة الحيوانات" المبجّلين بعيْن الريبة
والعـداوة، وقـد أذكى هذه البغضاء بعض الأحداث المؤسفة التي نجمت عن ظنونٍ خاطئة؛
فقد كـان من المُعـتَـقَـد أن وجـود مـزرعـةٍ تملكهـا وتديرها الخنازير مـخـالفـةٌ
لنواميس الحياة؛ ممّا يهدّد جيرانهم بعدم الاستقرار، واستطرد قائلاً إن كثيراً من
المزارعين ظن في الوهلة الأولى أن مثل هذه المزرعة لا بُد أن تكون مَثَلاً للفوْضى
وسوء النظام ممّا يهدّد بانتقال عدواها إلى حيواناتهم بمزارعهم وكذلك مستخدميهم، أمّا
الآن فـقـد زالت نـهـائيـّاً مـثل هذه الشكوك بعـد زيارتهم لمزرعة الحيوانات
وإطلاعهم على واقع أحـوالـهـا بأعينهم، وإن ما عاينوه من تطور أساليب العمل بالمزرعة
وكذلك دِقّة النظام والترتيب يجعل من هذه المزرعة مَثَلاً طيّباً جديراً بالاتّباع
بيْن أصحاب المزارع كافّة!، وإنه ليقرّر عن يقينٍ أن الحيوانات الدنيا في "مزرعة
الحيوانات" إذا ما قورِنت أحـوالُـهـا بالحيوانات المثيلة في جميع بقاع "إنجلترا"
فهي لا شك أكثرها عملاً وأقلها تغذية، وإن كثيراً من الأساليب المتَّبَعة في معاملتها
كانت لهم أوْلى بالتطبيق في مزارعهم الخاصّة!
ثم استأنف حديثه
قائلاً إنه يختتم ملاحظاته مبارِكاً علاقات الصداقة والوِد التي سادت والتي يجب أن
تسود دائماً بين مُلّاك "مزرعة الحيوانات" وسائر جيرانهم، فلم يعُد بيْن
الخنازير والبشر أي تضاربٍ في مصالحهم؛ فإن طريق كفاحهم واحد ومصاعبهم مشتركة تكاد
تدور في جميع الأحوال حوْل مشاكل العِمالة والعاملين.
ثم اختنقت الكلمات
في حَلْق مستر "بلكنجتون" وكأنه كان يخشى أثر وقوعها على مُضَيّفيه وقد
تردّد في التصريح بها، فظهر عليْه مدى عُمْق هذه المجاهدة النفـسـيـّة عليـه
حـينمـا حـاول أن يكتم بعض الضحكات في صدره!، ثم أطلق نفسه أخيراً على سجيّتها موجّهاً
كلامه لمُضَيّفيه قائلاً:
- إذا ما كان لديْكم مشاكل من حيواناتكم
الدونيّة فإننا نواجه أيْضاً مشاكل من خادمينا.
وقد هزّت هذه
المقابلة الفكريّة والملاقاة في الرؤى أحاسيس الحضور فانطلقوا جميعهم في عاصفةٍ من
الضحك، ثم أعاد مستر "بلكنجتون" تهنئته للخنازير على ما نجاحهم في زيادة
ساعات عمل حيواناتها مع خَفْض وجباتها في الوقت نفسه، كما هنّأ الخنازير أيْضاً
على سياستها الصارمة ومعاملتها الحازمة كسادة مع حيواناتها كعبيد؛ وختم كلمته طالباً
من الحـاضـرين الوقوف، واقترح نخباً لهذه اللحظات التاريخيّة بقوْله:
- يـا حـضـرات السادة: دعونا نشرب نخبنا
آملين كل الرفاهية لـ"مزرعة الحيوانات".
وقد قوبلت كلمته بصيْحات
الإعجاب وصـوْت الأرجل وهي تقرع الأرض، وبلغ الحماس بـ"نابليون" أنه ترك
مكانه إلى حيث يجلس مستر "بلکنجتون" وقرع كأسه بكأسه قبل أن يُفرِغ
محتواها في جوْفه.
وحينما هدأ التصفيق
ظل "نابليون" واقفاً وقد أبدى للحاضرين أنه أيْضاً لديْه ما يقوله،
وكعادته دائماً فقد كانت خُطبته قصيرة وإن كانت تصل إلى أهدافها مباشرة، فابتدر
كلامه قائلاً إنه سعيدٌ بنهاية فترة الشك ما بيْنه وبيْن جيرانه، فإن ذوي المصالح
من أعدائه قد أطلقوا شائعاتٍ خبيثةٍ عن أنه وزملاءه ثوْريّون ذوو أهدافٍ هدّامة،
كما نسبوا إليهم محاولاتٍ مزعومةٍ لإثارة العصيان والشغب بين حـيـوانات المزارع
الأخـرى المجاورة، وقـد كـذّب "نـابـليـون" مـثل هذه الإشاعات المغرضة
قائلاً إنه الآن كما كان في الماضي لا ينشـد إلّا السلام وأن تسود بيْنه وبيْن
جيرانه علاقات الوِد والتعاون، وذكر أن "مزرعة الحيوانات" التي يتشرّف
بإدارتها ليْست إلّا مشروعاً تعاونيّاً تمتلك أسـهـمـه بالتضامن جميع الخنازير،
وأنه مع ثقته بأن سـوء الظن القديم بيْنه وبيْن جيرانه قد ولّى وانتهى؛ فإنه
إسـهـامـاً منه في دعم هذه الـثِـقـة سـيـعـمـل على إدخال تعديلاتٍ جديدةٍ على
نظام العمل بالمزرعة؛ فقد لاحظ أنه قد تفشّت منذ زمنٍ طويل عادةٌ سخيفةٌ لدى
الحيوانات لا يعرف أسبابها في توجيه بعضها إلى بعض كلمة "رفيق"، وأنه قد
قرّر وَقْف استعمالها، كما أن الحيوانات قد درجت أيضاً على عادةٍ قبيحةٍ لا يعرف
أسباب نشأتها في السيْر في طابورٍ عند صباح "الآحاد"، ثم الانحناء
بالتحيّة لجمجمة خنزيرٍ مثبَّتةٍ على قاعدةٍ تحت سارية العلم بالحديقة، وأنه قد قرّر
أيْضاً إلغاء هذه الطوابير ودفـن الجـمـجـمـة!، كما سأل زوّاره إن كانوا قـد
لاحظوا علم المزرعة الذي كـان يرفرف على ساريتـه بفناء المنزل؟، فإذا ما لاحظوه
فعلاً فلا بُد أنهم قد لاحظوا أيْضاً أنه قد أزال من العلم رسم الحافر والقرن، وإنه
قد قرّر أن يكون لوْن العلم أخضـر صِـرفاً (خالِصاً دون شريك)، ثم وجّه حديثه بعد
ذلك إلى مستر "بلكنجتون" معاتِباً له ومُبدياً ملاحظاته على خطابه
الممتاز الذي تميّز بروح الصداقة الخالصة إلا أنه أشار إلى أن جاره العزيز قد أخطأ
حينما أوْرد اسم المزرعة على أنه "مزرعة الحيوانات" ففي واقع الأمر أن
هذا الاسم قد تقرّر إلغاؤه أيْضاً، وإنه يعلن ذلك للمرّة الأولى، فإن الأمانة
التاريخيّة تقتضي أن يخلع على المزرعة اسمها الحقيقي القديم "مزرعة مانور".
ثم ختم حديثه قائلاً:
- يا حضرات السادة: إنني أقترح نخباً لا
يختلف هو وسابقيه في جوْهره وإن اختلَف من حيْث الشكل .. فاملئوا كؤوسكم حتى
نهايتها .. وإليكم نخبي یا حضرات السادة متمنيّاً مزيداً من الرفاهية لـ"مزرعة
مانور".
وقد قوبلت كلمته
بالترحيب الشديد نفسه كسابقتها، وشربوا كؤوسهم حتى الثمالة.
وكانت الحيوانات
تنظر لما يدور وقد أدركت أن شيْئاً غريباً يلوح في الأفق؛ فـمـا عـادت تعلم ما
الذي أبدل ملامح الخنازير؟، وظلّت عيْنا "كلوفر" الذابلتان تنتقلان من
وجه خنزيرٍ إلى آخر: فمنها ما كان لُغْده (ثنية اللحمة بيم فكّه السفلي وعنقه) ذا
خمس طيّات (ثنيات)، ومنهـا مـا كـان لـه أربعٌ أو ثلاث، ولكن "كلوفر" لم
تعُـد تدري ما الذي جَدَّ على الخنازير أو عليها هي؟، فما عادت تميّز بين وجهٍ
وآخر!
ثم انتهى
الـتـصـفـيـق وعـاد الجلوس إلى لعب الورق مـسـتـأنفين أدوارهم التي توقّفوا عنها
ريْثما يتبادلون الكلمات والأنخاب!، وزحفت الحيوانات بعيداً في صمت، ولكنها ما
كادت تبتعد عشرين ياردةً حتّى توقّفت ثانيةً فإن صخباً مدويّاً انبعث من المنزل، فاندفعت
تستطلع الخبر عبْر النوافذ من جديد، فإذا بها أمام نقاشٍ حامٍ يدور حول مائدة
اللعب، وعلا الـصـيـاح والدق بـقـبـضـات الأيْدى على المائدة، وتبادل الرجال
والخنازير الاتهامات، وانبعثت مـن أعـيـنهم نظرات الشك: فمنهم من يوجّه الاتهامات
ومنهم من ينفيها في عصبيةٍ ظاهرة، وقد اتّضح أن سبب الشقاق هو أن "نابليون"
أو مستر "بلكنجتون" كان يغش في اللعب، فقد رمى كلٌ منهما بالورقة الواحدة
نفسها تِلْو الآخر!
وعَلَت نـبـرات
الغضب من اثنى عـشـر صـوْتـاً داخل المنزل تشـابـهـت نبـراتـهـا وتشاكل أصحابها، أمّا
تلك المخلوقات التعسة التي وقفت خارج المنزل تشهد ما يدور داخله من مشادّات فقد كانت
تتنقّل بأبصارها من الخنازير إلى الرجال، ومن الرجال إلى الخنازير، ثم من الخنازير
إلى الرجال مـرّةً أخـرى وقد اختلط عليها الأمر، فما عادت تميّز بيْن هؤلاء
وهؤلاء!