بَنْكُ الاعْتِماد
لَمْ يَسْتَطِعْ الحاجُّ
"بَرَكاتُ الساعي" وصَديقُهُ الحاجُّ "عَبْدُ الوَكيلِ تَوَكُّلُ"
أَنْ يَمْنَعا نَفْسَيْهُما مِنَ الضَحْكِ بِصَوْتٍ عالٍ لَفَتَ انْتِباهَ كُلِّ
الجالِسينَ مَعَهُما عَلَى المَقْهَى عِنْدَما كانا يُشاهِدانِ "عادِلَ
إمام" في أَحَدِ أَفْلامِهِ بالتِليفزيونِ وهوَ يُغَنِّي : { بَلَدي "طَنْطا"
وانا احِب اعيش أَوَنْطَة }، فَقَدْ تَذكَّرا لَيْلَةَ أَنْ شاهَدا هَذا الفيلْمَ مُنْذُ
أكْثَرِ مِنْ عِشرينَ عاماً قَبْلَ أُسْبوعٍ مِنْ افْتِتاحِ مَحَلِّ كُلٍّ مِنْهُما
"بدَرْبِ الشُرَفا" في مَدينَةِ "طَنْطا" عَروسِ الدِلْتا، ورَغْمَ
أَنَّهُما كانا يَتَنافَسانِ في تِجَارَةِ الأَقْمِشَةِ إِلّا أَنَّهُما لَمْ يَفْقِدا
صَداقَتَهُما في أَيِ وَقْتٍ بَلْ أَصَرَّا عَلَى أَنْ يَفْتَتِحَ كُلٌ مِنْهُما مَحَلَّهُ
بِنَفْسِ الشارِعِ وفي نَفْسِ اليَوْم، وعِنْدَما قَرَّرا الزَواجَ تَزَوَّجا مِنْ
أُخْتَيْنِ وفي نَفْسِ اللَيْلَة، وأَبَى القَدَرُ إلّا أَنْ يَعْدِلَ بَيْنَهُما
أَيْضاً في الخَلَفِ والذُرِيَّةِ فَقَدْ أَنْجَبَ كُلٌّ مِنْهُما وَلَداً وبِنْتَيْن،
وها قَدْ مَضَتْ بِهِما السِنينُ سَريعاً وتَقَلَّبَتْ بِهِما الأَحْوالُ ما بَيْنَ
عُسْرٍ ويُسْرٍ وبَدَآ يَجْتَرَّانِ الذِكْرَيات :
- فاكر يا "عُبَدْ"
لمَّا شُفْنا الفيلْم دَه فِ سيما "الجَنْدولَة" الصيفي؟
- ياه يا"بَرَكات"..
كانِت أَيَّام جَميلَة واللهِ.. بَسْ مافيش حَاجَة بتِفْضَل عَلَى حالْها.. دي
حَتَّى السينِما دي إتْهَدِّت.
- لا يا خويا فيه
حاجــات كِتيرِة بتِفْضَـــل عَلَى حالْها.. زَيَّك كِدَه مَثَلاً.. بَقَى لَك عِشْرين
سَنَة زَيْ ما انْتَ.. مِشْ عايِز تِتْغَيَّر.. ولا عايِز تِغَيَّر طَريقِة تَفْكِيرَك
أَبَداً.
- قَصْدَك عَلَى إيه؟
- قَصْدي عَلَى طَريقْتَك
فِ الشُغْل.. لِسَّه بتِشْتَغَل فِ القُماش اللي ما بَقاش حَدْ بيشْتِريه دَه
الوَقْت.. هُوَّ عاد حَدْ بيفَصَّل هُدوم اليومين دول؟.. كُلّه بيلْبِس جاهِز.. حَتَّى
أَذْواق القُماش اللي عَنْدَك ما تَؤَاخِذْنيش يَعْني قَديمَة وموضِتْها بِطِلِت..
يا راجِل دَه انْتَ مِشْ عايِز تَغَيَّر يافْطِة المَحَل ولِسَّه مسَمِّيه : "عَبْد
الوِكيل لِتجِارِة المانيفاتورَة".. أَقْطَع دِراعي مِنْ هِنا هو إنْ كان حَدْ
يعْرَف دَه الوَقْت مانيفاتورَة يَعْني إيه؟.. يا راجِل دَه فاضِل تِسَعْ سِنين ونُدْخُل
عَ القَرْن الواحِد وعِشرين.
- دَه عَلَشَان انا
راجِل أَصيل وباحِب كَاري.. يَعْني عايِزْني اعْمِل زَيَّك واقْلِب لِتِجارِة المَلابِس
الجاهْزَة؟
- أَوَّلاً : أَنا بَرْضُه
لِسَّه باتاجِر فِ القُماش بَسْ باعْرِضُه فِ فاتْرينَة واحْدَة ورِيون واحِد بَسْ..
ثانياً : بَقِية فَتارين ورِيونات المَحَل بابيع فيها المَلابِس الجاهْزَة اللي
بيتْفَصَّلوا فِ المَصْنَع بِتاعي.. ثالِثاً : الدُنْيا بتِتْغَيَّر ولازِم نِجاري
الجَوْ.. دَه رَبُّنَا بيقول : "إسْعَى يا عَبْد وانا اسْعَى معاك".. إنَّما
انْتَ بَقَى يا "عَبْدُه" اسْمَح لي مِشْ عايِز تِتْنَحْرَر ويبْقَى عَنْدَك
شوَيِّة طُموح.. مبَلَّط فِ الخَطْ ونايِم عَلَى روحَك ما اعْرَفْش ليه.
- هوَّ الطَمَع دَه
الوَقْت بِتْسَمُّوه طُموح!.. دَه بَطَر وعَدَم إيمان بالله.. أَنا راجِل مُؤْمِن
والحَمْدُ لله ومُتَأكِّد إنْ رِزْقي حَ يجيني لِغايِة عَنْدي.. ورَبُّنَا لَوْ قاسِم
لي نَصيب فِ حَاجَة حَ يبْعَتْها تَحْت رِجْلَيَّ.. البَني آدَم مِنِّنا مِشْ بياخُد
غير رِزْقُه.. مِشْ بيْقولوا : "إجْري يا آدَم جَري الوحوش غير رِزْقَك لَنْ
تِحوش"؟
- أَيْوَه يا
"عَبْدُه" بَسْ بَرْضُه لازِم نِجْتِهِد وناخُد بالأسْباب ونِشْتَغَل
عَلَى قَدْ ما نِقْدَر.
- طَبْ ما انا باشْتَغَل..
ما انا بافْتَح الدُكّان كُل يوم الصُبْح وارُّشْ مَيَّه وارَوَّق البِضاعَة.. غير
إنّي بابْتِدي يومي بالدُعاء لله إنُّه يُرْزُقْني وباقول كُل أَذْكار جَلْب الرِزْق
والصَبْر عَلَى ضيق الحال.. مَطْلوب مِنِّي إيه تاني؟
- مَطْلوب مِنَّك تبَطَّل
كَسَل وتَنْبَلَة وتشوف مَصْلَحْتَك صَح.. فِكْرَك انا مِشْ عارِف وَقْف الحال اللي
انْتَ فيه؟
- يا "بَرَكات"
ما تِكْفَرْش برَبُّنَا.. دَه مِشْ كَسَل دَه تَوَكُّل عَلَى الله.. المَثَل بيْقول
: "رَبُّنَا بيُرْزُق الطير فِ السَما والنَمْلَة فِ جُحْرَها والدودَة فِ بَطْن
الصَخْر والكِتْف بطوبِة صِحِيحَة".. ورَبُّنَا بيْقول : "وفي السَماءِ
رِزْقُكُم وما توعَدُون".. والرَسول كَمان بيْقول : "لَوْ أَنَّكُم تَتَوَكَّلونَ
عَلَى اللهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُم كَما يَرْزُقُ الطَيْرَ تَغْدو خِماصاً
وتَروحُ بِطانا".. إعْتِرِض بَقَى.
- شُفْت بَقَى.. أَهُو
الرَسول ما قالْش : "تَتَوَكَّلون عَلَى الله" وسِكِت عَلَى كِدَه.. لأْ
دَه قال كَمان : "حَقَّ تَوَكُّلِه".. والتَوَكُّل الحَقْ دَه بيكون
بالأَخْذ بالأَسْباب والعَمَل بذِمَّة وتَرْك النَتايِـج بَعْد كِدَه عَلَى الله..
وما تِنْساش إنْ النَبي بَرْضُه هوَّ اللي قال : "اعْقِلْها وتَوَكَّل"..
إشْمِعْنَى يا خويا لَمَّا جيت تجَوِّز بَناتَك كُنْت بتِسْأَل عَلَى عِرْسانْهُم
الأَوِّل؟.. ما انْتَ كِدَه كُنْت بتاخُد بالأَسْباب ولَمَّا اتْأكِّدْت إِنُّهُم
عِرْسان كِوَيِّسين إتْوَكِّلْت عَ اللي خَلَقَك وجَوِّزْتُهُم.. صَح؟
- يا "بَرَكات"
يا خويا الإنْسان مِشْ مِتْخَيَّر.. الإنْسان مِتْسَيَّر ولا مُؤَاخْذَة.. إفْهَمْ
بَقَى وما تِتْعِبْنيش مَعاك.. يوووه.. طَبْ حَ اسيبَك انا واروح الحَمَّام بسُرْعَة
أَتْسَيَّر أحْسَن السُكَّر مبَهْدِلْني بعيد عَنَّك.
- هوَّ انْتَ بتاخُد
عِلاج للسُكّر يا "عَبْد الوِكيل"؟
- آه.. باخُد
"دَوانيل".. ليه؟
- أَهُو لَوْ اخَدْت
عَلَى كَلامَك يبْقَى انْتَ كِدَه بتِكْفَر برَبُّنَا.. المَفْروض ما تاخُدْش الدَوا
وتِتِّكِل عَلَى الله هوَّ الشافي المُعافي.
- دي نَقْرَة ودي نَقْرَة..
إيش جاب العِلاج للرِزْق؟
- وحِياتَك هيَّ نَفْس
النَقْرَة بَسْ انْتَ اللي بِتْكابِر.
- يا سِـــــيدي سيبْني
بَقَى بَلاش فَلْسَفَة فارْغَة.. حَ اعْمِلْها عَلَى روحي.. حِل عَنْ قَفايا شويَّة.
- روح يا عَمْ رَبُّنَا
يسَهِّل لَك.. بَسْ عايزَك تحُطْ الكِلْمِتين دول حَلَقَة فِ وِدْنَك : إعْقِلْها
وتَوَكَّل.. إعْقِلْها وإيه.. وتَوَكَّل.
وبَعْدَ شَهْرٍ عَرَضَ
"عَبْدُ الوَكيل تَوَكُّل" مَحَلَّهُ للبَيْعِ بَعْدَ أَنْ فَقَدَ زَبائِنَهُ
وبارَتْ بِضاعَتُهُ وكَسَدَتْ تِجارَتُه، فاشْتَرَى "بَرَكاتُ الساعي"
المَحَلَّ وعَهَدَ بِهِ إلى ابْنِهِ ليَكونَ أَوَّلَ فَرْعٍ مِنْ سِلْسِلَةِ فُروعِهِ
التي انْتَشَرَتْ بَعْدَ ذَلِكَ في عِدَّةِ مُدُن.
أَمَّا "عَبْدُ
الوَكيلِ" فَقَدْ آثَرَ السَلامَةَ وجَلَسَ بمَنْزِلِهِ يَتَعَبَّدُ للهِ بِلا
عَمَلٍ واعْتَمَدَ في تَدْبيرِ تَكاليفِ مَعيشَتِهِ عَلَى ريعِ الوَديعَةِ التي أَوْدَعَها
بِثَمَنِ بَيْعِ المَحَلِّ في فَرْعِ المُعامَلاتِ الإسْلاميَّةِ بِبَنْكِ
"الاعْتِمادِ والتِجارِةِ" الدَوْلي الذي كانَ يُتاجِرُ بِنُقودِ المُودِعينَ
ويَمْنَحُهُم عائِداً سَنَويَّاً جَزيلاً.
وبَعْدَ شَهْرٍ آخَرٍ
وبَعْدَ أَنْ أَعْلَنَ بَنْكُ "الإعتمادِ" إفْلاسَهُ وضياعَ كُلِّ نُقودِ
مودِعيهِ كانَ "بَرَكاتُ" يَبْكي بحُرْقَةٍ عَلَى صَديقِ عُمْرِهِ "عَبْدِ
الوَكيلِ" بَعْدَما شاهَدَهُ وَسْطَ بَعْضِ المجاذيبِ يَهيمُ عَلَى وَجْهِهِ
في ساحَةِ مَسْجِدِ "السَيِّدِ البَدَوي" مُرْتَدياً أَسْمالاً مُهَلْهَلَةً
ويَتَوَكَّأُ عَلَى فَــــرْعِ شَـجَرَةٍ خَشَبِيٍ كانَ أَحْياناً يَضْرِبُ بِهِ
المــــارَّةَ مِنْ حَوْلِهِ بلُطْفٍ وهوَ يُرَدِّدُ مُوبِّخاً مَنْ يَضْرِبُه :
- إعْقِلْها وتَوَكَّل.. إعْقِلْها وإيه.. وتَوَكَّل يا حمار.