"سفاح كرموز" | الفصل السادس (3)
وناولها المحامي
عدّة بطاقات من بينها بطاقة الدكتور "صموئيل" الذي كان شكله في الصورة
الفوتوغرافيّة متغيّراً بعض الشيء عن شكل ملامحه في الحقيقة التي تعرفها
"قطقوطة" التي تفحّصت البطاقات أكثر من مرّة وفي النهاية قالت :
- ولا واحد من دول
.. الدكتور "صمويل" مش فيهم.
- متأكّدة؟
- أقطع دراعي من هنا
هو.
- مصدّقك ..
مصدّقِك.
وأخرج المحامي بطاقة
الطبيب من بين البطاقات التي أعطاها "لقطقوطة" وقدّمها للقضاة قائلاً :
- يعني يا حضرات
القضاة الشاهدة متأكّدة إن موكّلي هو مرتكب الجريمة رغم إنها لمحته خطف مرتين قبل
الحادثة بكام أسبوع .. ورغم إن ساعة الحادثة كان النور ضعيف جداً وكانت من تلات
شهور .. وف نفس الوقت ما عرفتش شكل الدكتور اللي كان بيعالجها أسابيع في وضح
النهار آخرهم الأسبوع اللي فات .. بالذمّة دي شاهدة يطمئن لها وجدان المحكمة
ويخلّيها تلاقي مبرّر ولو ضعيف لمد الحبس الاحتياطي لموكّلي البريء؟ .. آخر سؤالين
بقى ح انهي بيهم مرافعتي: قولي لي يا "قطقوطة" إنتي شفتي المتّهم وهوَّ
بيقتل الحاجّة "بَمبَة"؟ .. جاوبيني بآه أو لأ.
- لأ .. بس انا....
- ما بسش .. قلت لِك
جاوبي بآه أو لأ.
- لأ.
- ويا ترى شفتيه
وهوَّ بيضربِك على نافوخِك؟ .. برضه جاوبي بآه أو لأ علشان وقت المحكمة الثمين.
- لأه .. ما انا كنت
مدّية له ضهري .. يعني ح اشوفه بقفايا!
- يعني لأ .. أكتفي
بهذا القدر .. وأشكر المحكمة على سعة صدرها وأناشدها الإفراج عن موكّلي بدون
ضمانات .. مع الشكر.
وبعد المداولة أصدر
القاضي حكمه الذي قضى - بعد الديباجة - بالإفراج عن "سعد إسكندر عبد
المسيح" بضمانة ماليّة قدرها عشرة جنيهات وسط فرحةٍ غامرة للسفّاح ومحاميه.
ومرّت سنةٌ كاملة
بعد ذلك توارى فيها "سعد" بعيداً عن الأضواء مكتفياً بما تجود عليه
تجارته البسيطة في الأقمشة مع ما تدرّه عليه مصوغات ضحاياه السابقات التي كان يبيع
أجزاءً منها كلّما يضيق به الحال، وقد أراد "سعد" بذلك أن يكتسب ثقة
الناس ثانيةً فينسونه ويصرفون عنه عيونهم بعد هذه الحادثة المشؤومة حتى يحين الوقت
المناسب لمعاودة نشاطه مرّةً أخرى.
وفي العام التالي
ظنَّ "سعد" أنه أصبح بعيداً عن الأنظار فقرّر أن يستأنف جرائمه التي
افتقدها فقد عشق سفك الدماء البريئة وأحب شعور الطرف الأقوى وأدمن الكسب السريع
الذي تجود به عليه هذه الجرائم، وكان قَدَره هذه المرّة مع صاحبة أحد المقاهي الذي
داوم على التردّد عليه بشارع "النيل" بحي "كرموز"، وقد لاحظها
تحدق نظرها فيه باشتهاء غير ذات مرّة، فقام من مكانه أخيراً وحمل كرسيه ووضعه
بالقرب منها وبدأ يتجاذب معها أطراف الحديث فعرف من هذه السيّدة الشابّة أن اسمها
"قدارة" وأن زوجها مريضٌ بداء السُل الذي لا شفاء منه في ذلك الوقت وأنه
قد أصبح قعيد فراشه وحبيس غرفته، وأنها تُشرف على المقهى الذي يدر عليها مالاً
وفيراً كما يبدو من هيئتها وتزيُّنها بالكثير من المصوغات، وأنها - كغيرها ممّن
تنشَّأن في الحِلْية - تفتقر للسانٍ يسكب في أذنيْها كلمات الحب والهيام وتفتقد
ليدٍ حنون تطبطب وتحنو عليها وتحتاج لذراعٍ قويّة تحميها وترتكن إليها، وبالطبع
فقد كان "سعد" هو صاحب ذاك اللسان وتلك اليد وهذه الذراع فتآلفا سريعاً
وأغواها بأن توافيه في شونته الملعونة فوافقت بيُسرٍ وسلاسة وذهبت إليه في الميعاد
المتَفَق عليه وطرقت "قدارة" الباب ففتح لها فأسرعت بالدخول وهي تتلفّت
وراءها في اضطراب، وعندما سألها عن السبب في ذلك أفضت إليه بأنها لمحت صبيّها في القهوة
يراقبها ويتتبّع خطواتها ويبدو أنه كان مدفوعاً من زوجها ليرصد تحرّكاتها، وخاب
أمل "سعد" وحبطت أعماله بعد أن آثر عدم المغامرة بقَنْص هذه الفريسة حتى
لا يوشي الصبي للشرطة بآخر مكانٍ شاهدها فيه قبل أن تختفي، ومَن يدري فربما
يفتّشون الشونة وينقّبون عن أثرها فيها فيكتشفون رُفات الضحايا السابقين، وفكّر
"سعد" سريعاً فتصنّع المرض وطلب من ضحيّته أن تؤجّل لقائهما إلى موْعدٍ
آخر يتّفقان عليه فيما بعد عندما يلتقيها في المقهى المرّة القادمة، وهكذا أفلتت
تلك المرأة من بين براثن "سعد" بعد أن صرفها وهو ينظر إلى ما تَزَيَّن
به صدرها من حُلي وجواهر متحسّراً على ما آلت له الأمور خاصةً أنه قطع علاقته معها
فلم يتّصل بها منذ ذلك الحين بل وتحاشى أن يمر من شارع النيل نهائيّاً.
ولم تفُت ثلاثة
أسابيع إلّا وكان "سعد" جالساً في إحدى الحانات بحي
"العطّارين" يتجرّع بعض كؤوس الخمر متأمّلاً في الحاضرين، وبينما كان
كذلك أحس بمَن يضع يده على كتفه من الخلف فاستدار مفزوعاً فإذا بها امرأةٌ يبدو
على هيئتها أنها غانية لعوب وقبل أن يباعد ما بين شفتيْه سألته بلسانٍ ثقيل جعلها
تتعتع في الكلام ببطءٍ شديد من فرط سُكرها :
- مممساااء الفُل يا
معللللم .. ممممكن تعزمني على كاس؟
فابتسم لها
"سعد" قائلاً بسخرية :
- يا شيخة انتي
ناقصة .. ده انتي مش قادرة تصلبي طولِك .. إنتي اسمِك إيه؟
- "زينـ...
هئ..ات" .. "زينااااات".
- باقول لِك إيه يا
"زينات" .. ما تيجي اروّحِك احسن.
- هي هي .. تروّحني
ولّا نروّحوك؟ .. إنت ما ينفعششش تيجي عندددي .. بس ممممكن نروحوا بيتك.
- بس كده .. واللهِ
ما رادد لِك كلمة .. ياللا بينا .. أهو احسن من ما فيش خالص.
- ح تدّيني كاااام؟
- اللي ح تطلبيه ..
استنيني احاسب واجي لِك.
وانصرف "سعد" مع ضحيّته المترنّحة فاصطحبها إلى شونته وأخضعها لمصير من سبقوها، ولكنه لم يغتنم منها سوى قُرْطيْن صغيريْن كانا في أذنيْها فقد كانت مُفلِسةً بائسة كما توقّع ورأى بعيْنيْه عندما أبصرها لأوّل وهلة، ولكنه كان يبحث قبل الذهب عن ضحيّةٍ تروي ظمأه لسفك الدماء وتُشبِع حِرصه على التلذّذ بما افتقده طوال العام الماضي كلّه.