(29) الحجرالمتأرجح
هتفت
"عائشة" مُشجِّعةً:
- إلى الأمام .. إلى الأمام .. وإلّا
هويْتم وتهشَّمت عظامكم.
فأطعناها وواصلنا
الزحف بكل حـذرٍ وعناء حتى بلغنا طرف النتوء الذي كان عبارةً عن قطعةٍ مستويةٍ من
الصخر تزيد في مساحتها قليلاً عن النضد الصغير.
وللمرّة الأولى عرفتُ
لماذا أتت "عائشة" باللوْح الخشبي، ذلك أنني رأيْتُ أمامنا ثغرةً تفصل
بين نهاية النتوء والطرف الآخر من الهوَّة، وقالت "عائشة":
- سنبقى حيث نحن .. فسيأتينا الضوْء فوْراً.
دُهِشتُ لقوْلها فقد
كان المكان أشد حلكةً من ظلام الليْل، بیْد أننی سرعان ما رأيْتُ شُعاعاً من ضـوْء
الشمس يخترق أحشاء الظلام ويسقط على "عائشةٍ" فيُضىء قوامها الممشوق،
وكم عجبتُ كيف وصل إلينا هذا الشُعاع الذي أضاء المكان كما لو كان مصباحاً قويّاً.
رأيْنا صخرةً بارزةً
من جانب الهوَّة المقابل وكانت على شكل قُمع رأسه أمامنا تماماً، ثم هتفتْ "عائشة":
- أسرِعوا .. إليَّ باللوْح الخشبي ..
يجب أن نعبر الهوَّة قبل أن يذهب الضوْء.
فأخذتُ اللوْح من "جوب"
وهو يتأوَّه ويرتجف ذُعراً وناولته لـ"عائشة"، فجعلت تدفعه بحـذرٍ حتى
استقرَّت إحدى نهايتيْه فوْق الصخرة المُقابِلة وارتكزت نهايته الأُخرى فوْق
النتوء، وتحوَّلت إلينا وقالت:
- سأعبر الآن هـذه القنطرة فإنها لا
تحتمل ثِقلنا جميعاً.
وتقدَّمت من اللوْح
وسارت فوْقه بخفَّةٍ نادرةٍ وثباتٍ مُدهِشٍ حتى بلغت الصخرة المُقابِلة، ثم صاحت:
- تقدم الآن يا "هولي" وأسرِع
قبل أن يختفي الضوْء.
فانتفضتُ وتولّاني
الذُعر حتى لقد تراجعت قليلاً إلى الوراء، بيْد أنني لم أشأ الظهور بمظهر العاجز
الجبان أمام "عائشة" بل فضَّلتُ السقوط والموْت على سخريتها واحتقارها،
فاستجمعتُ أطراف شجاعتي وتقدَّمتُ من اللوْح، وبدأتُ أسير فوْقه بحذر.
آه! .. ما أشد الآلام
التي انتابتني عندما ماد بي اللوْح تحت تأثير ثِقَل جِسمي!!، لقد أُصيب رأسي بدوارٍ
شديد، وأيقنتُ أنني هالكٌ لا محالة، بيْد أنني قُمتُ بمحـاولة اليائس، وأسرعتُ في
سيْري حتى أدركتُ الصخرة المقابلة فتنفَّستُ الصعداء.
وأمّا "ليو"
فقد عبر اللوْح بخِـفّة الراقص، فمدَّتْ "عائشة" يدها إليه وصاحت بطرب:
- ما أشجع قلبك أيّها الحبيب!!
وجاء دوْر "جوب"
المسكين، فبدأ يزحف فوق النتوء حتى بلغ طرف اللوْح، وعندئذٍ صرخ:
- لا أستطيع یا سیّدي .. سأسقط في هذه
الهوَّة المُخيفة.
فنهرتُه وهوَّنت
عليه الأمر رغم أني كنتُ مُغالِطاً في ذلك، فانبطح المسكين فوق اللوْح وأخذ يجُر
نفسه بمشَقّةٍ كبيرة وقد تدلَّت ساقاه من جانبيْ اللوْح في الفضاء، ثم راح "جوب"
يتقدَّم بما يُشبِه القفز فيجعل الصخرة التي نقف فوْقها تهتز بحالةٍ مُزعِـجة، وممّا
زاد الطين بَلّة أن الضوْء تلاشى فجأة وسادت الظُلمة المكان، وصاح "جوب"
بصوْت اليائس:
- آهٍ یا سیّدي .. إن اللوْح كاد يهوی بي.
وأعقبت ذلك جَلَبةٌ
شديدة فحسبتُه قد هوى، بيْد أنني لم ألبث أن شعرتُ بيـده تقبِض على يدي، فاستجمعت
قواي وجذبتُه إلى أعلى حتى استطعتُ أن أرفعه فوْق الصخرة، وأمّا اللوْح فقد سقط في
الهوّة وارتطم بصخرةٍ بارزةٍ ثم اختفى، فصحت:
- یا إلهي .. كيف نعود؟
فقـال "ليو":
- لستُ أدري .. لنتـرك الأمر لمسير
القدر.
ونادتني "عائشة"
وأشارت إليَّ بيدها لأتبعها.