(12) بعدالمعركة
عندما أفقت من إغمائي
ألفيْتني مُمدَّداً فوق قطعةٍ من جلد الماعز وبجانبي "ليو" وكان لايزال
فاقد الرُشد، بينما كانت "أوستين" تغسل له جرحاً غائراً في جانبه بالماء،
ثم عصَّبته بقطعةٍ من قماش الكِتّان، وكان "جوب" يستند إلى الجدار خلفها
وهو سليمٌ مُعـافى ولكنه كان ينتفض، وأمّـا جُثث القتلى فكانت على الجانب الآخر من
النار، فقُمت بإحصاء عددهم، وإذا بهم اثنا عشر رجلاً، وأمّا صديقنا الشيخ "بلال"
فكان يُراقِب الجرحى ويُرشِد رجاله إلى طُرُق إسعافهم، فتـارةً يأمر ببتر عضوٍ
مصابٍ لم تعُد منه فائدةٌ لصاحبه، وأخرى يشير باستعمال صنفٍ مُعيَّنٍ من الأعشاب
الطبيّة، وكان يفعل ذلك في هدوءٍ وبغير اكتراث.
وبعد هُنيْهةٍ انثني
"بلال" ناحيتي وسألني في دعةٍ عن حالي فشكرته في تأدُّب، ومن ثّمَّ تقدَّم
من "ليو" وفحص جُرحه، ثم قال:
- هو جُرحٌ بليغ .. ولكن ذَباب (سِن أو
طرف) الرُمح لم يخترق الأمعاء .. فقط يحتاج بعض الوقت ليُشفى.
فشكرته ثانيةً، وقلت:
- لولا قدومك في هذه الساعة لقضى رجالك
علينا كما قضوا على خادمنا (وأشرت إلى الأعرابي التَعِس).
فزمجر الشيْخ وقال:
- ستكون عقوبتهم رادعة .. فإن "هي"
لا تأخذها شفقةً بأحد رعاياها إذا عصى أوامرها .. هل لك أن تُحدِّثني کیف حدثت هذه
المعركة؟
فأطلعته على ما حدث بإيجاز،
فقال:
- مهما يكن .. فقد أبليْتم بلاءً حسناً
وأظهرتم من ضروب الشجاعة والإقدام في القتال ما لم أسمع بمثله من قبل .. أتعلم
أيها البابون العجوز (البابون: نوع من أنواع القرود، قوي العضلات - ضخم الجسم -
طويل الذراعيْن، قريب في الشبه من تكوين جسم "هولي") أنك حطَّمت أضلاع
رجليْن كما يكسر الإنسان غلاف بيضة؟! .. وكذلك أبدى صديقك الشاب الأسد (يقصد
"ليو") شجاعةً فائقةً، فقتل عدداً كبيراً من رجالي.
وأعقب ذلك حديثٌ
قصيرٌ عن المُسدّسات والرصاص وما يفعله في الجسم، وقد دُهِشَ الشيْخ "بلال"
حين علم أن الرصاص يُحدِث ثقوباً في جسد الإنسان، وأنه إذا أصاب عضواً هاماً فإنه
يُسبِّب الوفاة، وأصر الشيْخ على إجراء تجربةٍ في الحال، وأمر بإحضار أحـد الأسرى لتُجرَى
عليه التجربة، فرحت أُقنِعه بأن قانوننا لا يبيح قتل الإنسان للثأر أو لإجراء
التجارب، لأنه - أي القانون - هو الذي يتكفَّل بذلك، ثم وعدته بإجراء التجربة على
الحيوان في اقرب فرصة، فقَبِلَ مسروراً.
وإذ فتح "ليو"
عيْنيْه بفضل جرعةٍ من الخمـر سكبها "جوب" في فمه انقطع حديثي مع الشيْخ،
وحاولنا أن ننقل "ليو" إلى فراشه وكانت حالته سيّئةً للغاية، وعاونتنا "أوستين"
في نقله، ثم تركناه معها لتقوم على خدمته، وانصرفنا كلٌ إلى فراشه.
وفي صباح اليوم
التالي زارني "بلال" في غُرفتي، واقترح عليَّ أن نبدأ رحلتنا إلى "خور"
وهو المكان الذي تقيم فيه "هي" مع قسمٍ من شعبها، ولكني اعترضت بأن
حالتنا جميعاً لا تسمح بالسفر، فقد كنت متعباً منهوكاً، كما خشيت أن تشتد آلام "ليو"
بسبب جرحه، وأخيراً اتفقنا على الرحيل بعد ثلاثة ايام.
ومضت الأيّام
الثلاثة بسلام، وحانت ساعة الرحيل فجيء بخمسة هوادج إلى باب الكهف، يصحب كل هوْدجٍ
منها أربعة رجالٍ واثنان احتياطيّان، وكان معهم حرسٌ مكوَّنٌ من خمسين رجلاً لحمل
الأمتعـة وحراستها أثناء الطريق.
قلت مُخاطِباً الشيخ
"بلال" وهو واقفٌ يُشرِف على أعمال الرجال:
- هل ترافقنا "أوستین" يا أبي؟
فهز الشيْخ كتفيْه وأجاب:
- كما تشاء .. إن النساء أحرارٌ في هذه
البلاد .. ونحن نعبدهن وندعهن يسلكن الطريق التي يردن .. لأن العالم لايسير بدونهن
.. فهن منبع الحياة.
ولمّا رآني أهِمُّ
بالكلام استطرد قائلاً:
- إننا نعبدهن إلى حدٍ مُعيّن .. أي إلى
أن يتجاوزن سن الخصوبة والحمل .. ثم نقتلهن بعد ذلك .. ليكون من ذلك عبرةٌ لمَن هُن
في سِن الشباب .. ولنُريهن أننا أقوى منهن.
فدُهِشت لقوْله،
وحاولت أن أتبسَّط معه في الحديث لعلّي أستدرجه إلى التصريح بشيءٍ من عـادات القوْم
وفلسفتهم في الحياة، ولكنه كان ذكيّاً فَطِنـاً إذ استطاع أن يُغيِّر مجرى الحديث إلى
ناحيةٍ أخـرى بلباقة وقال:
- إن "أوستين" فتاةٌ باسلة ..
وهي تحب الأسد (يقصد "ليو") .. فقد رأيت كيف تعلَّقت به وأنقذت حياته ..
ثم أنها تُعتَبَر زوْجته طِبقا لعاداتنا .. ولذا فلها حق مرافقته أينما ذهبا ..
اللهمَّ إلّا إذا ....
واستطرد بلهجةٍ ذات
مغزى:
- اللهمَّ إلّا إذا قالت لها "هي":
"لا" .. لأن كلمة "هي" فوْق كل حق.
فقلت مُتسائِلاً:
- ولنفرض أنها عصيت أمر "هي"
فماذا سيحدث؟
فهزَّ الشيْخ كتفيْه،
وأجاب:
- ماذا يحدث لو أمرت العاصفة شجرةً
ضعيفةً أن تنثني فأبت؟!
ولم ينتظر حتى يسمع
جوابي، وإنما انطلق إلى هوْدجه فارتقاه ثم أمر الرَكْب بالمسير.