الفصل الرابع (2)
وفي اليوم التالي وبمجرّد
أن وطأت قدم "نشوى" قاعة المحاضرات مجدّداً أخذت تبحث عن
"عماد" في لهفة ولم يخيّب القدر رجاءها فسرعان ما وجدته يلوّح لها لتلحق
به في المقعد المجاور، وتكرّر ما حدث في اليوم السابق من كلامٍ ومزاحٍ وإطراء ممّا
زادها تعلّقاً وافتتاناً وهياماً به، وبمرور الوقت تجاوزت هذه المشاعر حدودها وانقلبت
حبّاً وغراماً بيْن الشابّيْن اللذيْن تجرّعا معاً من نبع الحب الصافي البرئ.
ولكن الحال لم يدم هكذا
طويلاً؛ ففي أجازة نصف العام أعلنت لجنة الرحلات بإدارة الكليّة عن تنظيمها رحلةً
طويلةً تستغرق عشرة أيّام لمدينتيْ "الأقصر" و"أسوان" واتفق
الحبيبان على القيام بها معاً، وفي القطار كان الطلبة والطالبات يتجمّعون في مكانٍ
واحدٍ سويّاً حيث يغنّون ويرقصون ويمرحون ويضحكون وكان كل صاحب موهبةٍ منهم يستعرضها
على زملائه وسط الضحكات والتعليقات الساخرة أو الإشادة والتشجيع فمنهم من كان يعزف
على الجيتار أو يضرب على الطبلة ومنهم من كان يغنّي أو يرقص أو يلقي الشعر والزجل،
أمّا "عماد" فقد انبرى واقفاً أمام الجميع وطلب منهم الصمت والإصاخة إلى
موهبته فطفق يقلّد أصوات الفنّانين والمشاهير وكذا أصوات الحيوانات والمركبات وسط
تصفيق زملائه والثناء عليه، وقد استغلّ هذه الموهبة فيما بعد عندما كان يقلّد صوت
فتاة أسماها "سلوى" حين كان يريد أن يتخلّص من سؤال "عادل"
على "نشوى" ليتفقّد أحوالها ويطمئن عليها، وعند الوصول إلى "أسوان"
توجّه الجمْع تحت إشراف منظّمي الرحلة إلى إحدى المراكب النيليّة الفندقيّة
العائمة الضخمة وتم تسكين كل طالبيْن أو طالبتيْن في غرفةٍ واحدة وقد كان أن
تقاسمت "نشوى" غرفتها مع زميلةٍ لها تدّعي التحرّر من التقاليد والتخلّص
من الالتزامات الأخلاقيّة المعروفة وفك القيود المفروضة على الفتيات والسيّدات
فكانت تخلط بين الحريّة الشخصيّة والانفلات وبين المدنيّة الحديثة والفوضى، وفي
مساء نفس اليوم وبعد جوْلةٍ حرّة قام بها الطلبة والطالبات في أرجاء المدينة عادوا
لتناول العشاء بالمركب ثم صعدوا إلى سطحها يتنسّمون هواء الصعيد النقي العليل ويتداولون
الحديث الضاحك فيما بينهم، واجتمع "عماد" مع "نشوى" وانفرد
بها في مكانٍ بعيدٍ شبه مظلمٍ وراء كابينة القيادة الخالية للمركب الراسية على
الشاطئ وبثّ لها لواعج حبّه ولهيب أشواقه لها ووصف لها الأوقات التي يقضيها في
سهادٍ وسهر وعذاب يفكّر فيها متمنياً اليوم الذي يأتي ليضمّها إلى صدره ويلثم
شفتيْها بشفتيْه ليرتشفا معاً من كئوس المتعة والسعادة الحسيّة ويتذوّقا معاً
حلاوة الحب ويتغلبا على مرارة البُعد والحرمان، وتمنّعت "نشوى" أوّل
الأمر وحاولت أن تصمد أمام إغراءات حبيبها وتفهمه أنّها لا تستطيع الإتيان بأي
تصرّفٍ خارج عن العرف والخلق السوي إلّا أنّ دفاعاتها بدأت في التداعي أمام
اتهاماته لها بأنّها لا تبادله نفس القدر من الحب وأنّها أنانية في مشاعرها نحوه ولا
تهتم به وبحنينه إليها بل انهارت تماماً أمام تهديداته بأنّه سوف يهجرها للأبد ولن
يريها نفسه إنْ ظلّت على موقفها البارد من نار الوَجْد والصبابة الذي يتحرّق به
فاضطرّت إلى تمكينه من نيْل أوّل قبلة منها فأغمضت عينيْها وغابت عن الدنيا وما
فيها وسبحت في فضاء لا نهائي من بحر النشوة واقشعرّ بدنها وتملكّتها رعشةٌ من أعلى
رأسها إلى أخمص قدميْها وقاربت على التداعي على الأرض من فرط فقدانها لأعصابها وإصابتها
بدوارٍ خفيفٍ لذيذ فمادت بها الأرض قليلاً حتّى أفاقت على صوت حبيبها وهو يقول:
- أهو انا ده الوقت
إتأكّدت إنّك بتحبيني.
فلم تقدر على الرد
بل أحنت رأسها ونظرت إلى الأرض ورغم بعدهما عن الناس تماماً إلّا أنّها أحسّت أنّ
آلاف العيون تراقبهما وترقب فعلتهما وأرادت أن تجري لتختبئ بعيداً غير أن أعصابها
خذلتها فلم تقوَ على الحركة، وانتهز "عماد" الفرصة واستمر في طرق الحديد
وهو ساخن حتّى يمكنه أن يشكّل حبيبته كما يهوى ويشاء فعاجلها بقبلةٍ أخرى غير
أنّها دفعته عنها بكلتا يديْها في صدره فحالت بيْنه وبيْن ما يريد فقد طغى عليها
آنذاك إحساسٌ بالذنب واقتراف جُرْمٍ لا يُغتفَر وأفضت له بذلك، فما كان منه إلّا
أن طلب منها أن يجعلا علاقتهما شرعيّة ليحق لهما أن يعبّا من نهر السعادة والنشوة
دن حائل أو عائق يمنعهما من حقّهما في الحب والرغبة، ولمّا أخبرته بشكوكها في
موافقة ذويهما على زواجهما حاول أن يقنعها بأنّه يقصد أن يتزوجا عرفيّاً دون أن
يخبرا أهليْهما بذلك على أن يتمّما زواجهما الرسمي في فرحٍ عام يحضره الجميع بعد
أن يتخرّجا من الجامعة، فرفضت في بادئ الأمر إلّا أنّها- تحت إلحاحٍ شديدٍ منه- وعدته
بإعادة التفكير في الأمر مرّة أخرى والردّ عليه في أقرب وقتٍ حين تقطع برأيها في
الأمر.
وعادت
"نشوى" إلى غرفتها بالدور السفلي فخلعت ملابسها وارتدت ملابس النوم واستلقت
على سريرها وهي مفتوحة العيْنيْن تحاول أن تنام دون أن تستطيع فقد كانت تفكّر في
العرض الذي تقدّم به "عماد" إليها، وكانت كلّما كادت أن ترفض هذا العرض
وتستبعده من عقلها يتدخّل قلبها في الأمر ويذكّرها بحبّها وبحلاوة القبلة الأولى وفيما
كانت أمواج تفكيرها تتقاذفها ما بيْن رفض وقبول وبيْن همس العقل الخافت وصوت القلب
والإغراءات العالي سمعت طرقاً على باب الغرفة فتمنّت أن يكون حبيبها فأسرعت لتفتح
لتجد زميلتها بالغرفة تدخل عليها وهي هائمة تغنّي من فرط سعادتها فبادرت بقوْلها:
- يا سيدي ياسيدي..
باين عليكي مبسوطة وغزالتك رايقة.
- وما انبسطش ليه يا
"نُنّش"؟.. الجوْ ربيع والحب بديع قفّل لي على كل المواضيع.. قفّل قفّل
قفّل.
- ربيع إيه ده احنا
ف الشتا؟
- لأ وانتي الصادقة
دي الدنيا صيف كمان.. ده انا كنت باشُّر عرق.
- معقولة!
- يعني انتي ما
كنتيش حرّانة وانتي مع "عماد"؟
- "عماد"؟..
انتي إيش عرّفك إني كنت مع "عماد"؟
- يا هبلة.. دي كل
الناس واخدة بالها.. انتم بس اللي مش حاسّين.
- وواخدين بالهم من
إيه إن شاء الله؟
- واخدين بالهم من
حالة الحب والإنسجام اللي بينكم.. الله.. إنتي مكسوفة من إيه؟.. ما هو المفروض
يبقى لكل بنت صاحبها الأنتيم.. غيرش بس احنا اللي متخلّفين.. ما انا كنت مع الواد
بتاعي انا كمان.. وكنّا بنعمل حاجات سيكو بيكو برضه.
- يا شيخة! .. كدهو
عيني عينك؟
- الحب ما فيهوش
كسوف.
- مش قصدي ع الحب.
- قصدك السيكو بيكو؟..
ما هو ده صورة من صور الحب.. أومّال الحب إنّك تعدّي النجوم ف عز الليل وتتنهّدي وتسمعي
"عبد الحليم" وخلاص.. يا بنتي احنا ف القرن الواحد وعشرين.. بلاش رجعيّة.
- مش موضوع رجعيّة..
بس الكلام ده حرام من غير جواز رسمي قدّام الناس.. علشان كده بافكّر ما اوافقش على
فكرة "عماد".
- اللي هيّ إيه؟
- عايزنا يا ستّي
نتجوز عرفي ف السر لغاية ما نخلّص الكليّة وبعدين نبقى نتجوّز رسمي.
- بجد واللهِ.. ألف
مبروك يا "نشوى".
- مبروك على إيه..
باقول لِك مش موافقة.
- مش موافقة على إيه
يا عبيطة.. مش انتي عايزة تمشي صح.. طب ما الجواز العرفي جواز شرعي برضه وفيه
اتنين شهود برضه.. واللهِ انتي خايبة.. طب ده يا ريت الواد بتاعي كان يعمل معايا
كده.
- فكرِك كده؟
- أيوه طبعاً يا
هبلة.. الاتنين واحد تقريباً ده بقسيمة مختومة بختم النسر وده بورقة مش مختومة..
انتي ح تعملي زي الموظّفين اللي بنشوفهم ف الأفلام بيقولوا "فين ختم النسر
ياسيّد.. اتفضّل شوف مصلحتك".. إيه الروتين ده.. وبعدين هوّ الجواز الرسمي ده
كان موجود زمان؟.. ده لسّه طالع القرن اللي فات علشان قضايا النسب والميراث بس.. ده
فيه شعوب مسلمة كتيرة ما عندهاش لا رسمي ولا عرفي وبيتجوّزوا بكلمة.. وهوّ يعني
إيه عرفي؟.. عرفي جايّة من عُرْف والعُرْف يعني الحاجة اللي الناس بيتعارفوا عليها
ف العادات والتقاليد والمعاملات.. يعني الأعراف بتاعتنا.
- بس فيه شيوخ
بيقولوا إنّه حرام وإنّه زنا مقنّع.
- وفيه شيوخ مش
معقّدين بيقولوا حلال.. أنا قريت عن الموضوع ده ف النِت.. هوّ احنا ح نحرّم كل
حاجة على مزاجنا.. مش احسن ما نعمل حاجات غلط.. ما ده طلب وإيجاب وقبول وده برضه
طلب وإيجاب وقبول.. الاتنين واحد.. بس العرفي بيبقى ع الضيّق لغاية ما الظروف
تتحسّن والناس كلّها تعرف.
- يعني إيه طلب وإيجاب
وقبول؟
- وعاملة نفسك عارفة
كل حاجة؟.. ده انتي بطّيخة.. يعني يا ستّي الولد يطلب الجواز منِّك ويقول لِك
"زوّجيني نفسك" فانتي تجيبي وتقولي له "زوّجتك نفسي" فهوّ
يقبل ويقول "و أنا قبلت الزواج منكِ".. فهمتي يا حمارة؟.. إيه ما حضرتيش
جواز عرفي قبل كده؟
- لأه.
- يا حبيبتي دي نُص
الدُفعة بتاعتنا متجوّزين عرفي.. إنتي فاكرة نفسك إنّك ح تبقي لوحدِك؟
- معقولة!
- آه واللهِ..
إتّكلي على الله قبل الواد ما يطير منّك.. وادعي لي انا كمان لمّا اتجوّز عرفي م
الديك بتاعي.. ولّا اقول لِك هاتي ركبتِك لمّا اقرصِك علشان أحصّلِك ف جمعتِك.
ولم تنتهِ هذه
الجلسة إلّا بانتزاع صاحبة "نشوى" موافقتها على طلب "عماد" بعد
أن ألبست الباطل ثوْب الحقّ وزيّنت لها المعصية فاستحال الكذب والبهتان طريقاً
للهدى والأمان، وفي اليوم التالي أبدت "نشوى" موافقتها
"لعماد" فابتهج أيّما ابتهاج وأسمعها وعوداً كاذبة وشعاراتٍ جوفاء وعشّمها
بأحلامٍ وهميّة وسرابٍ خدّاع ثمّ مضى الوقت وهما مع زملائهما يتْبعان برنامج
الرحلة حتّى جنّ الليْل فاجتمع "عماد" وصاحبيْن له مع "نشوى"
وصاحبتها وتمّت مراسم الزواج السرّي في هدوءٍ وسرعة فوقّع الحبيبان والشاهديْن على
ورقتيْن تبرّران لهم زوراً ما يفعلونه من إثم وكبائر، ثمّ تسلّل الزوْجان خلسةً
حتّى وصلا إلى غرفة "نشوى" التي اتفقت مع صاحبتها على أن تبيت مع زميلةٍ
أخري لتهيّأ للعروسيْن الخلوة المناسبة لقضاء ليْلة الزفاف التي تمّت دون أن
يزفّهما أحد.
وقبل طلوع الشمس كان
"عماد" قد غادر الحجرة تاركاً "نشوى" وقد نال منها مأربه بعد
أن تحقّق له ما يريد فجعل شريكته في الجريمة منجذبةً إليْه معلّقةً به تدور حوْله في
فلكه غير قادرةٍ على التحرّر من قبضته.
وبقي الوضع على ما
هو عليه قرابة العام بعد أن استأجر "عماد" شقّةً ليجتمع فيها مع
"نشوى" التي كانت تبرّر غيابها الطويل كل يوم بحضور المحاضرات أو الذهاب
لزميلتها الوهميّة "سلوى"، وكان الحبيبان يعيشان معاً عيشة الأزواج أمام
الجيران فاطمأنّت "نشوى" لهذا الوضع ولم تقابلها فيه أيّة مشاكل حتّى
جاء أمس عندما أحسّت بإعياءٍ ودوارٍ وغثيان بصورةٍ مستمرّة فلجأت لاستشارة الطبيب
الذي أبلغها- بعد إجراء بعض التحاليل- أنها حُبْلى في شهرها الثاني، فوقع هذا
الخبر على "نشوى" وقع الصاعقة فأُسْقِط في يدها ولم تحر جواباً عندما
مازحها الطبيب وسألها إنْ كانت تريد الجنين ذكراً أم أنثى ولم تشعر بنفسها إلّا وقد
تركت الطبيب قبل أن يتمّ كلامه أو يكتب لها بعض الأدوية والفيتامينات المعتادة في
مثل هذه الأحوال وانطلقت من فوْرها راكضةً تقطع درجات السلّم بسرعة دون حتّى أن
تنتظر المصعد وكأنّها تريد أن تهرب من سقطتها الخرقاء.