خَيَالُ المِــآتَة
- ها.. حَدْ عايِز يسْأَل أَيْ سُؤال
تاني؟
بمُجَرَّدِ أَنْ قالَ أُسْتاذُ
"جادُ" مُدَرِّسُ اللُغَةِ العَرَبيَّةِ هَذِهِ الجملةَ حَتَّى انْبَرَى
أَحَدُ الطَلَبَةِ واقِفاً ليَسْأَل :
- لَوْ سَمَحْت يا أُسْتاذ.. يَعْني إيه
"لا خَيْرٌ في فَزَّاعَةٍ مِنْ قَشٍ لا تَمْنَعُ عَنْ نَفْسِها حَتَّى
الذُباب؟".. يَعْني إيه كِلْمة "فَزَّاعَة" أَصْلاً؟
-"الفَزّاعَة" يا سيدي
عِبَارَة عَنْ تِمْثَال أَوْ دُمْيَة أَوْ عَرُوسَة مِ الخَشَب أَوْ القَشْ
تَلْبِسُ ثياباً زَيْ الجلابيَّة مَثَلاً وتوضَعُ فِ المَزارِع لتَفْزيعِ أَوْ
تَخْويفِ الطيورِ أَوْ الحيواناتِ بِقَصْدِ إبْعادِها عَنْ أكْلِ الزَرْعِ أَوْ
الحُبوب.. يَعْني بالبَلَدي كِدَه خِيال الظِل أَوْ خَيال الحَقْل أَوْ خَيال
المِآتَة أَوْ عَفْريت الغيط.. وعَلَى فِكْرَة فيه كَلام كِتير دَخَل فِ اللُغَة
العَرَبيَّة وهوَّ أَصْلاً مِشْ عَرَبي.. يَعْني كِلْمِة "حَقْل" دي
مَأْخوذَة مِنْ كِلْمِة "حَقَلْ" الهيروغليفيَّة بمَعْنَى
"مَزْرَعَة".. وكِلْمِة "غيط" دي أَصْلَها بَرْضُه
"غات" يَعْني "الأَرْض المبلَّلَة" بالهيروغليفي.. وكِلْمِة
"مِآتَة" دي مَأْخوذَة مِنْ كِلْمِة "ماتوي" القِبْطيَّة
بمَعْنَى "زِراعَة أَوْ فِلاحَة أَوْ بَسْتَنَة".. والشاعِر هِنا
قَصْدُه إنْ خَيال المِآتَة اللي بيطَفِّش الطيور والحَــيوانات ما لهــوش أَيْ
تَلاتين لازْمَـة أَوْ فـايْدَة إذا كان هُوَّ نَفْسُه مِشْ قادِر يطَفِّش أَوْ
يهِشْ الدِبَّان مِنْ عَليه.. ها وَصَلِت المَعْلومَة؟
- أَيْوَه يا أُسْتاذ.. شُكْراً.
- العَفْو يا بْني.. اتفَضَّل اقْعُد..
وبالنِسْبَة لقَوْلِ الشاعِر في..... إيه دَه؟.. صوت الجَرَس دَه؟.. طَيِّب
نِكَمِّل الحِصَّة الجايَّة.. سَلامُ عَليكُم.
وانْصَرَفَ "جادٌ" مِنَ الفَصْلِ؛
بَلْ مِنَ المَدْرَسَةِ كُلِّها مُصْطَحِباً مَعَه زميلَهُ "عَبْدَ الباسِطِ"
فَقَدْ كانَتْ هَذِهِ الحِصَّةُ هيَ الأَخيرَةُ لَهُما هَذا اليَوْم، وفي
المَيْدانِ الذي تَقَعُ بِهِ المَدْرَسَةُ أَخَذَ الرَجُلانِ يَسيرانِ في خَطٍ
مُتَعَرِّجٍ كأَنَّهُما ثُعْبانانِ يتَلَوَّيانِ في مَشْيَتِهِما بَيْنَ الباعةِ
الجائَلينَ الذينَ شَغِلُوا أَرْجاءَ المَيْدانِ سَواءٌ عَلَى الرَصيفِ أَوْ في
نَهْرِ الطَريقِ فَلَمْ يَتْرُكوا شِبْراً دونَ أَنْ يَحْتَلّوه مُحْدِثينَ فَوْضى
عارِمَة، وكانَ الرَجُلانِ أَحْياناً يَقْفِزانِ بخِفَّةٍ ووَقارٍ كأَرنبَيْنِ
فَوْقَ البَضائِعِ المَفْروشَةِ عَلَى أَرْضِ المَيْدانِ أَوْ يَنْحَنيانِ
كاليابانيّينَ عِنْدَ مرورِهِما أَسْفَلَ الحِبالِ التي مَدَّها باعةُ الملابِسِ
أَوْ الصُحُفِ لينْشُروا عَلَيْها الثيابَ والطُرَحَ أَوْ الجَرائِدَ والمِجَلاّتِ
أَوْ يَثِبانِ فَوْقَ الموانِعِ والحَواجِزِ التي وَضَعَها أَصْحابُ المَقاهي
والمَتاجِرِ ليَمْنَعوا السيّاراتِ والباعـةَ الجائِلينَ مِنَ الوقوفِ أَمامَـهُم،
ولَمْ يَخْــــلُ الأمْـــرُ مِنْ تَسَــلّقِهِما حــافَةَ الرَصيفِ الذي كانَ
يَرْتَفِـُع عَنْ الأَسْفَلْتِ بحواليَ النِصْفُ مِتْرَ أَوْ التَقَهْقُرِ أمامَ
عَرَباتِ الأُجْرةِ والسِرْفيسِ والحافِلاتِ التي كانَتْ تَقْتَحِمُ عَلَيْهِما
مَسارَهُما اللولَبيَ هارِبةً مِنَ الحُفَرِ والمَطَبَّاتِ العَديدَةِ لالْتِقاطِ
الرُكّابِ أَوْ نُزولِهِم في أَيِ مكانٍ دونَ التَقَيُّدِ بمَوْقِفٍ أَوْ
مِحَطَّة.
وفي خِضَمِّ هَذِهِ المَعْرَكةِ الشَرِسَةِ
التي مارَسا فيها رياضَتَهُما اليوميَّةَ بِكُلِ هِمَّةٍ ونَشاطٍ وَقَفَ
الأسْتاذانِ قَليلاً ليَلْتَقِطا أَنْفاسَهُما ويُجَفِّفا بَعْضاً مِنَ العَرَقِ
الذي تَصَبَّبَ عَلَى جَبْهَتَيْهِما، وهُنا بادَرَ "جادٌ" بسُؤالِ
صاحِبِه :
- هوَّ فيه إيه النَهارْ دَه؟.. الدُنيا
ما لها مكَرْكِبَة قوي كِدَه ليه؟
- أَصْل النَهارْ دَه الخَميس وشُرطِة
المَرافِق أَوْ الإزالَة ما بِتْجيش عَلَشَان كِدَه البيّاعين واخْدين
حُريِّتْهُم.. وكمان ما فيش حَدْ مِ المُرور واقِف.. لا الوِنْش ولا الكونستابْل
ابو موتوسيكل ولا حَتَّى العَسْكَري.. تلاقي السَوَّاقين بيحَمِّلوا مِنْ أَيْ
حِتَّة والعَرَبيَّات براحِتها.. يَعْني كُل واحِد حُرْ فِ اللي بيعمِلُه.
- وهيَّ دي تِبْقَى اسْمَها حُريَّة
بَرْضُه.. دي فَوْضَى وهَمَجيَّة.. وبَعْدين هوَّ احْنَا لازِم يُقَف لِنا حَدْ
لابِس عَسْكَري يخوِّفْنا ويفَزَّعْنا عَلَشَان ما نِعْمِلْش الغَلَط.. دَه احْنَا
نخاف ما نِخْتِشيش بِصَحيح.
- طَبْ دي كِدَه رَحْمَة.. إنْتَ ما
شُفْتِش اللي انا شُفْتُه وانا جاي المَدْرَسَة مِنْ ساعْتين تَلاتَة.. دَه
الميدان دَه كُلّه كان مَقْفول بالضَبَّة والمُفْتاح.. والعَرَبيّات كُلّها كانِت
واقْفَة مَحَلّك سِرْ.. لدَرَجِة إنْ السِت اللي فِ عَرَبيَّة الإسْعاف المزنوقة
فِ الميدان وَقْتَها وِلْدِت عَلَى روحها بَعْد ما ولاد الحَلال جابوا لها الدايَة
بتاعِة المَنْطِقَة وَلِّدِتْها فِ العَرَبيَّة.
- والميدان كان واقِف ليه بَقَى إنْ
شاءَ الله؟
- أَصْل الجَزَّار اللي عَ الناصيَة
طَلَع إفْراج مِ السِجْن النَهارْ دَه والناس كانوا عامْلين لُه زفَّة وهيصَة
عَلَشَان يباركوا لُه عَ الكَفَّارَة.
- تصَدَّق إنّنا الشَعْب الوَحيد اللي
بيحْتِفِل ويحْتِفي بالمُجْرِمين بَعْد ما يقَضُّوا عُقوبِتْهُم.. مَعَ إنُّهُم
المَفْروض يبقوا مَنْبوذين مِ المُجْتَمَع.. يا راجِل دَه احْنَا بنقول :
"السِجْن للجِدعان".. مَعَ إنُّه للمُجْرِمين.
- بَسْ الجَزَّار دَه فِعْلاً جَدَع وما
بيخافْش غير مِ اللي خَلَقُه.. أَصْل مُفَتِّش التَموين حَبْ يتْنَطَط عَليه
ويعْمِل لُه مَحْضَر دَبْح خارِج السَلَخانَة.. قام الجَزَّار دَبَحُه فِ ساعِتها
عَلَشَان يبْقَى عِبْرَة للي يَؤْذي الناس فِ رِزْقَها.. والمَحْكَمَة حَكَمِت عَ
الجَزَّار بسَبَع سِنين بتُهْمِة ضَرْب أفْضَى إلى مُوت.. وطَلَع بَعْد خَمَسْ
سِنين بَسْ عَلَشَان حُسْن سيرُه وسلُوكُه.
- حُسْن سير وسلُوك!.. دَه قَتَل موظَّف
بيؤَدّي عَمَلُه.. هوَّ دَه جَزاءُه إنُّه ما اخَدْش رَشْوَة زَيْ غيرُه..
حَسْبُنا الله ونِعْمَ الوَكيل.. بينا نعَدِّي الشارِع.. إشارِة المُشَاة
اخْضَرِّت أَهِه.
- طَبْ ما كُنّا عدّينا مِنْ هِناك
أَقْرَب.
- خلّيك مُلتَزِم.. هِنا الخُطوط البيضا
بتاعِة المُشَاة.. لازِم نَلْتَزِ..... حاسِب يا اسْطَى.. آآآآآه.
ولَمْ يُكْمِلْ "جادٌ" جُمْلَتَهُ
الأَخيرةَ فَقَدْ صَدَمَتْهُ إحْدَى الحافِلاتِ بمُنْتَهى العُنْفِ فأَوْدَتْ
بحَياتِهِ في الحال، في حينَ أُصيبَ "عبدُ الباسِطِ" بإصاباتٍ بَليغَة،
وبَعْدَ أَنْ تَيَقَّنَ المارَّةُ مِنْ مَوْتِ "جادٍ" تَبَرَّع أحَدُهُم
بجريدتِهِ لِتَتِمَّ تَسْجِيةُ جُثَّةُ "جادٍ" بأَوْراقِها لحينَ حُضورِ
عَرَبَةِ الإسْعاف، ومِنْ سُخْريةِ القَدَرِ أنَّ الصَفْحَةَ التي غَطَّتْ
وَجْهَهَ وتَلَطَّخَتْ بدِمائِهِ كانَ بِها مانْشيتٌ بالخَطِّ العَريضِ يقول :
"وزيرُ الداخليَّةِ يتَعَهَّدُ بِحَلِّ مُشْكِلَةِ المرورِ ومَنْعِ حوادِثِ
السَيْرِ بالطُرُقِ بحُلولِ العامِ المقبل".