الفصل الرابع (3)
وهُرِعَت مسرعةً
لتقابل "عماد" في شقّتهما في المساء حتّى يجد لها حلاً عاجلاً مناسباً
ينقذها من تلك المعضلة وينتشلها من هذه الورطة بسلام إلّا أنّها فوجئت به يقابل بكائها
وتهنّفها ببرود وهو يقول:
- طب وانا ح اعمل
لِك إيه ده الوقت؟
- يعني إيه؟.. ح
تتخلّى عنّي.
- لأ.. بس قولي لي
أقدر أعمل إيه بس؟
- اتصرّف.. شوف لي
صِرفة.
- ما فيش غير إنّك
تنزّلي الجنين اللي ف بطنك.. ويا دار ما دخلك شر.
- وافرض رحت فيها ولّا
حصل لي حاجة وانا باعمل عمليّة الإجهاض دي.. أهلي ح يقولوا عليّ إيه؟
- بعد الشر عنّك يا
حبّي.. ده مليون واحدة بتعمل العمليّة دي كل يوم وما بيحصلهمش حاجة.. ما دام الحمل
لسّه ف أوّله يبقى الإجهاض ف منتهى السهولة.. وبعدين العمليّة دي ح تبقى ف مستشفى
وتحت إشراف طبّي كامل مش داية ح تعملها لِك تحت السلّم.. سيبي الموضوع ده عليّ بس
ومالكيش دعوة بحاجة.. أنا اعرف دكتور عنده مركز طبّي بيعمل الحاجات دي ومش بياخد
كتير.. ح ابقى ادّي لِك عنوانه وتروحي له.
- ليه؟.. هوّ انت مش
ح تيجي معايا؟.. ده انا اعرف إن الزوج والزوجة لازم يمضوا قبل العمليّة على إقرار
بموافقتهم على الإجهاض.
- لا لا.. ما فيش
إقرارات من دي.. إطمّني.
- بس برضه لازم تبقى
معايا.. يعني ح اروح لوحدي؟
- شوفي حد من
صاحباتِك يروح معاكي.. طلّعيني انا م الموضوع ده خالص.
- نعم!!.. أطلّعك؟..
مش انت شريكي ف البلوة دي وتبقى ابو اللي ف بطني ده؟.. ولّا انا حامل م الهوا؟
- باقول لِك إيه..
مش عاوز كُتْر كلام.. أنا حذّرتك م الحمل ألف مرّة وعملت اللي عليّ وانتي اللي ما
سمعتيش كلامي.. شيلي بقى المسئوليّة واتحمّلي نتيجة أفعالِك.
- ما انا على يدّك
كنت كل يوم باخد حبوب منع الحمل ف ميعادها.. أعمل إيه تاني؟.. ثمّ انت عايزني أشيل
المسئوليّة لوحدي.. مش انت جوزي برضه؟
- واللهِ وقت الجد
ما اعرفكيش.
- كده يا
"عماد"؟.. ما تعرفنيش؟.. دي آخرتها؟
- أعمل لِك إيه ما
انتي عايزة تفضحيني وتدبّسيني.. انتي عارفة لو بابا عرف إنّي اتجوّزت من وراه ح
يعمل إيه؟.. ده مش بعيد يكرشني برّه البيت.
- كدهو؟.. عموماً
أنا الغلطانة.. أنا كنت هبلة لمّا صدّقت إنّك بتحبّني وح تحافظ عليّ.. بس لأ.. مش
ح افضل كده هبلة على طول.. أنا ح اطلّع ورقة الجواز العرفي اللي ماضيين عليها واروح
لابوك يشوف لي حل معاك.. واللهِ ما ح اسكت لك يا جبان.
- أعلى ما ف خيلِك
إركبيه.. مش ح يصدّقِك.. وان كان على ورقة العرفي اللي كنتي مخبيّاها ف درج النيش
التحتاني فانا اخدتها وقطّعتها مع النسخة بتاعتي.. ورّيني بقى ح تعملي إيه؟
و ذهلت
"نشوى" لما سمعته من حبيب عمرها "عماد" فلم تكن تتخيّله أبداً
بهذه الخسّة والنذالة حتّى يتخلّى عنها بهذه السهولة عند أوّل مشكلةٍ تقابلهما، وركضت
حيث كانت تودع ورقة الزواج العرفي التي بيْنهما فلم تجدها في مكانها الذي صرّح به
"عماد" بالفعل فصرخت عدّة صرخاتٍ عالية من وقع المفاجأة ثمّ سقطت مغشيّاً
عليها.
وبعد ساعات أفاقت
"نشوى" على صوت "عماد" وهو يتكلّم في الهاتف مع أبيه ليعتذر
له عن عدم رجوعه للمنزل منذ الليلة السابقة بحجة مرض أحد أصدقائه ودخوله المستشفى
واضطراره للمبيت معه فى المشفى، وعندما وجد "عماد" أن "نشوى"
بدأت تفيق وتدخل مرّة أخرى في نوْبةٍ من البكاء المرير أنهى مكالمته سريعاً وجلس بجوارها
وأبلغها أنّه أحضر طبيباً عندما فقدت وعيها فأعطاها جرعةً من حقنةٍ مهدّئة فنامت
عدّة ساعات حتّي حلّ الفجر، وأفهمها أنّه على استعدادٍ لنسيان ما جرى بيْنهما من
صدام وتجريح وأن يعودا إلى سابق عهدهما معاً بشرط أن تتخلّص من جنينهما وترضى
بعيشتهما معاً دون زواج حتّى يتخرّجا ويصارحا أهلهما بحبّهما ليتزوجا رسميّاً أمام
الجميع، ولم ينتظر منها جواباً بل تركها مهمَلةً وغادر المنزل وخلّفها غارقةً في
معضلتها العويصة دون أن ترى مرسى للنجاة فظلّت واجمةً مطرقةً حزينة تجهش بالبكاء
حيناً وتسكت حيناً حتّى أشرقت الشمس فرحلت هي الأخرى إلى المنزل الذي تقيم فيه مع
أخيها "عادل" وبدأت تفكّر فيما عساها أن تقوله له لتبرّر غيابها عن
المنزل منذ الأمس فهداها تفكيرها أن تعزو ذلك إلى استذكارها وغفوها دون قصد مع
زميلتها المزعومة "سلوى". ||||||||||
ورجعت
"نشوى" من رحلة ذكرياتها مع "عماد" وقد زاد حزنها وأساها تجاه
أحداث الماضي وعجزها وفشلها نحو مشكلة الحاضر ويأسها من المستقبل المجهول، فازداد
اكتئابها وفاض دمعها من جديد.
ولم يكن
"عادل" بأحسن حالاً من أخته؛ فبالرغم من نبوغه المبكّر في الدراسة وإنهائه
لتعليمه الجامعي في كليّة الهندسة بتفوّقٍ ملحوظ إلّا أنّ تعيينه كمهندسٍ في أحد
الأحياء الراقية "بالقاهرة" كان له بالغ الأثر في انقلابه مائةً وثمانين
درجة، فمنذ عمل بالقسم الهندسي بالحي وهو ينزلق من انحدارٍ لآخر وينجرف من انحطاطٍ
لآخر حتّى اقترب من هاويةٍ لا قرار لها ولا نجاة منها، فقد كان يؤدّي عمله بإخلاصٍ
وتفانٍ حتّى قابل المعلّم "هنداوي" المقاول الكبير الذي كان يسعى
لاستخراج رخصة هدمٍ لفيلّا أثريّة ذات طرازٍ ومعمارٍ فريد تقع في زمام الحي الذي
يعمل به "عادل" المسئول عن الموافقة على منح مثل هذه التراخيص والذي
أحيل له أمر هذا العقار لإبداء الرأي والموافق أو الرفض والذي كتب تقريراً وأرفقه
بملف العقار جاء فيه:
{{{{ السيّد اللواء
رئيس الحي: بعد التحيّة..
إيماءً إلى طلبكم
إبداء رأيي بخصوص العقار رقم 5 الكائن بشارع "الرحمة" الواقع في نطاق
الحي أحب أن ألفت نظر سيادتكم إلى انّه تمّ انتقالي إلى موقع العقار وتمّ فحصه
هندسيّاً فوجدت انّه بحالةٍ جيّدة وغير آيل للسقوط أو الانهيار، وعليه ينتفي الرأي
تجاه هذا المبنى ويحظر مناقشة جميع ما يتعلّق به من أعمال هدمٍ وخلافها حيث أن
العقار مسجّل بسجلّات المجلس الأعلى للآثار تحت رقم 153/210 ممّا يتوجّب معه تطبيق
الفقرة الأولى من المادّة الثانية من القانون رقم 144 لسنة 2006 الذي ينص على: "يحظر
الترخيص بالهدم أو الإضافة للمباني والمنشآت ذات الطراز المعماري المتميّز أو
المرتبطة بالتاريخ القومي أو بشخصيّة تاريخيّة أو التي تعتبر مزاراً سياحيّاً وذلك
مع عدم الإخلال بما يستحق القانون من تعويض"، والذي ينص أيضاً في مادّته
الثانية عشر على: "مع عدم الإخلال بأيّة عقوبة أشد ينص عليها أيّ قانون؛ يعاقب
كل من هدم كليّاً أو جزئيّاً مبنى أو منشأة ممّا نصّ عليه في المادّة الثانية من
هذا القانون بالحبس مدّة لا تقل عن سنة ولا تزيد عن خمس سنوات وبغرامة لا تقل عن
مائة ألف جنيه ولا تزيد عن خمسة ملايين جنيه، ويترتّب على هذا الهدم عدم جواز
البناء على أرض العقار لمدّة خمسة عشر عاماً إلّا في حدود المساحة والإرتفاع
اللذيْن كانا عليه قبل الهدم، كما يجب الحكم بشطب اسم المهندس أو المقاول المسئول
من سجلّات نقابة المهندسين أو الإتحاد المصري لمقاولي التشييد والبناء وذلك لمدّة
لا تزيد عن سنتين"، وأذكّر نفسي وإياكم بالمادة الثالثة عشر من نفس القانون
التي جاء فيها: "مع عدم الإخلال بأيّة عقوبةٍ أشد ينص عليها قانون العقوبات
أو أيّ قانونٍ آخر؛ يعاقب بالحبس وبغرامة لا تقل عن عشرة آلاف جنيه ولا تجاوِز
مائة ألف جنيه أو بإحدى هاتيْن العقوبتيْن كل موظّفٍ عمومي مختص أخل عَمْداً
بواجبات وظيفته ممّا ترتّب عليه وقوع إحدى الجرائم المنصوص عليها في هذا القانون فَضْلاً
عن الحكم بالعزل من الوظيفة مدّةٌ مساوية لمدّة الحبس"، ومرفق مع هذا التقرير
صورة من اللائحة التنفيذيّة لهذا القانون والمودعة لدى الحي بشأن تنظيم هدم
المباني والمنشآت غير الآيلة للسقوط والحفاظ على التراث المعماري، وتفضّلوا بقبول
فائق الشكر والاحترام.}}}}
وفي الأسبوع التالي
فوجئ المهندس "عادل" بزميله في القسم الهندسي بالحي يلح عليه بأن يقبل
دعوته على العشاء في إحدى الملاهي الليْليّة الشهيرة وبعد أن أبى أوّل الأمر اضطرّ
للموافقة بعد إصرارٍ مريبٍ من الزميل، وفي الملهى عرّفه زميله على المعلّم
"هنداوي" صاحب الأفضال على جميع المهندسين بالحي، وما إن سمع "عادل"
هذا الاسم حتّى هبّ واقفاً محاولاً الاعتذار عن قضاء السهرة معه متحجّجاً بأنّه
تذكّر موعداً هامّاً عليه الوفاء به فطمأنه المعلّم والزميل بأنّهما يعلمان ما دار
بخلده وبأنّ صداقتهما بريئة وقديمة ولا تمت للعمل بصلة ووعداه بألّا يفاتحونه في
أي أمرٍ يخص العمل وأكّدا له أنّ دعوته لهذه السهرة ليس من ورائها غرضٌ خبيث له
علاقة بترخيص هدم الفيلّا وأن الأمر لا يعدو كـوْنه قضاء وقت جميل مع الأصدقاء والأحباب
على حد قوْلهما خاصةً وأنّ الزميل لاحظ عليه انطواءه وعدم اختلاطه الكافي بالناس، وزاد
المعلم "هنداوي" على ذلك بقوله أنّه رجلٌ ذو خبرة وحنكة وقديمٌ في مهنته
وأنّه لو كان يريد مناقشته بشأن التقرير الذي كتبه لما تردّد لحظة في التوجّه إليه
في مكتبه مباشرةً والتحدّث إليه بما يريد لإنه لا يفعل شيئاً خاطئاً أو خارجاً عن
القانون بدليل أنه تقدّم رسميّاً بطلبه دون موارَبةٍ أو تحضير، وصدّقه "عادل"
فوبّخ نفسه على سوء ظنّه بالشرفاء وقضى السهرة معهم بعيداً عن أمور العمل تماماً
كما وعدوا ممّا شجّعه على تكرار السهر بنفس الملهى خصوصاً بعد أن أفهمه المعلّم
"هنداوي" بأنّه شريكٌ في هذا الملهى وأنّه يسهر به يوميّاً ليتابع سيْر
العمل فيه دون أن يسدّد ملّيماً واحداً نظير الطعام والشراب الذي يقدّم له ولأصدقائه.
وكان أن توطّدت
الصداقة بين المهندس والمعلّم فصارا لا ينفصلان كل ليْلة في السهر بالملهى حتّى
ساعةً متأخّرة بل زاد الأمر بالمهندس إلى أنه كان يلبّي دعوة المعلّم له ولأصدقائه
باستكمال السهرات في قصره المنيف حيث يتسامرون معاً يشربون النرجيلة المطعّمة
بأصناف ونكهات عديدة من التبغ المعسّل أو الحشيش أو البانجو التي لا تخلو من تجرّع
بعض كئوس الخمر والجعّة كطقوسٍ مشتركة بين الأصدقاء، وزلّت قدم "عادل"
في الأمر فاعتاد على هذه المخدرات بل زاد في غيّه واتبّع نصيحة صديقه المعلّم
"هنداوي" وبات يواكبه في استنشاق الهيروين والكوكايين بلا حساب حتّى
أدمنهما فقد كان المعلّم متكفّلاً بجميع التكاليف والمصاريف، ثمّ جاءت لحظة الحسم
حين بدأ المعلّم في تجاهل "عادل" فتوقّف الأوّل عن دعواته للسهرات ثم
غاب عن الأنظار بحجّة السفر للخارج دون سابق إنذار فوقع "عادل" في حيْص
بيْص ولم يدرِ كيف يتصرّف ومن أيْن له بتدبير ما يريده من مخدرات فبدأ يمر بفتراتٍ
من التوتّر والقلق والاكتئاب والعصبيّة وفقدان الثقة بالنفس فكان ينام كثيراً ويأكل
قليلاً وينسى دوْماً ويصاب بالغثيان غالباً ويتلعثم في الكلام باستمرار وعندما رآه
زميله الذي عرّفه بالمعلّم "هنداوي"من قبل- وهو جمّ الغياب عن العمل مضطرب
السلوك منحرف المزاج قليل الحديث مع الغيْر كثير الانفراد بنفسه ذابلٌ دون نشاط
أحمر العيْنيْن مجعّد الشعر كثّ اللحية رثّ الهيْئة غثّ الكلام غزير السؤال في
لهفةٍ عن المعلّم - استشعر ما يمرّ به من أزمة فعرض عليه الحل فكاد "عادل"
أن يجثو على ركبتيْه ويقبّل قدميْه فلم يتردّد طويلاً فيما عرضه عليه الزميل من
توفيرٍ لمخزونٍ كافٍ ممّا يستهلكه من مخدرات ولرصيدٍ مناسبٍ في البنك يغطي مصاريف
إدمانه مقابل تعديله لتقرير هدم الفيلّا المقصودة والموافقة على تحرير رخصة الهدم
خاصةً وأن رئيس الحي ما زال يحتفظ بملف العقار في مكتبه ولم يقطع في أمره منتظراً
عدول "عادل" عن تقريره وذلك بتحريض وأمر "هنداوي" شخصيّاً
الذي يحتفظ بعلاقاتٍ وطيدة مع جميع المسئولين الكبار.
وكانت هذه أوّل حلقةٍ من مسلسل التنازلات والاختلاسات والرشاوى الذي لم ينتهِ حتّي هذه اللحظة والوقوع في براثن الإدمان والخطايا، ولم يكن "باسم" قريباً من أخيه "عادل" عندما ألمّت به هذه المحن فقد كان بعيد الوجود محدود التأثير فلم يشعر حتّى بالتغيّرات التي أصابت أخاه في مقتل ولم يهتمّ غير بنفسه ومصالحه المباشرة فقط دون أدنى اكتراثٍ بغيْره.