خبر
أخبار ملهلبة

مصير صرصار | توفيق الحكيم | الفصل الأول: الصرصار ملكاً (3)


مجموعة من الصراصير تتجمع حول قطع من الخبز والطماطم

الفصل الأوّل (3)

 

 

الملك: شجّعتك وأناقشك .. تكلم .. قل لي كم عدد هذا الجيش من الصراصير الذي تريد حشده؟ ..

الوزير: ليكن عدده عشرين .. إن عشرين صرصاراً مجتمعة تستطيع دهس و تحطيم طابورٍ طويلٍ من النمل ، بل قريةٍ بأكملها .. بل مدينة ..

الملك: لا شك في ذلك لكن .. هل سبق أن حدث في تاريخنا الطويل كله أن اجتمع عشرون صرصاراً في طابورٍ واحد؟ ..

الوزير: لم يحدث .. ولكن نحاول ..

الملك: كيف نحاول؟ .. نحن شيءٌ مختلفٌ عن النمل .. إن النمل يعرف نظام الطوابير .. ولكننا نحن معشر الصراصير لا نعرف النظام ..

الوزير: ربما بالتعليم والتدريب ..

الملك: ومَن الذي يعلِّم ويدرِّب؟! ..

الوزير : نبحث عمَّن يتولّى ذلك ..

الملك: شيءٌ جميل! .. انتهيْنا إلى البحث عـن معـلـِّمٍ ومدرِّب! .. قل لي .. إذا وجدنا المعلِّم والمدرِّب، فبعد كم من الأجيال يتم تعليم وتدريب جنس الصراصير على السيْر في الطوابير؟! ..

الوزير: هذه يا مولاي معلوماتٌ لا تدخل في اختصاصي .. أنا فقط أبديْتُ الرأي في خطّة العمل .. وعلى غيري أن يتكلّم في التفصيلات ..

الملك: غيرك مَن؟ .. على سبيل المثال؟ ..

الوزير: عالِمنا العلّامة مثلاً .. هو الذي يُسأل في هذه المعلومات ..

الملكة: له حق .. هذه الأشياء يتحدَّث فيها العالِم العلّامة ..

الملك: وأين هو العالم العلّامة؟ ..

الوزير: نطلبه في الحال يا مولاي ..

الملك : اطلبه وأحضره .. نحن في الانتظار ..

(ما يكاد الوزير يتحرّك، حتّى يظهر العالِم العلّامة وهو يلهث ...)

الوزير ( للعالِم ): ابن حلال! .. كنا في طلبك الآن .. مولانا الملك يريدك في أمرٍ هام ..

العالِم: خير! ..

الوزير: سيقول لك مولانا الملك ..

الملك: بل قُل له أنت أيّها الوزير ..

الوزير: هل أعرض عليه كل الموضوع؟ ..

الملك: نعم .. وبسرعة ..

الوزير: الموضوع هو مشكلة النمل ..

العالم: مالها مشكلة النمل؟ ..

الوزير: نريد لها حلّاً حاسماً ..

العالم: وما دخلى أنا في ذلك؟ .. هذه مشكلةٌ سياسيّة .. حلّها عندكم أنتم .. أنت بصفتك وزيراً .. ومولانا بصفته ملكاً ..

الوزير: مشكلةٌ سياسيّة؟! ..

العالم: إنها على كل حال مشكلةٌ قديمة .. لا تدخل في نطاق العِلم ولا العلماء ..

الملك: ولكن الوزير قلبها مشكلةً عِلميّة .. لأنه يريد تعليم الصراصير السيْر في الطوابير ..

العالم: هذا لا يمكن أبداً ..

الوزير: ولكنه يجب أن يكون .. لأننا لا يمكن أن نستمر هكذا إلى الأبد، نتلقّى هجمات النمل ولا نستطيع له دفعاً ..

الملكة: الوزير على حق .. يجب التفكير في هذا الخطر جديّاً ..

العالم: وما هو المطلوب مني أنا بالذات؟ ..

الملكة: المعاونة بعِلمك .. الأمل معقودٌ الآن على العِلم ..

العالم: حدِّدوا لي المطلوب بالضبط! .. ما هو المطلوب مني على وجه التحديد والدِقّة؟ .. لا بُد في العِلم مـن التحديد الدقيق ..

الملكة: حدِّد له أيّها الوزير ..

الوزير: أنت تعرف أن النمل يهاجمنا بجيوش .. فإذا استطعنا نحن أيضاً أن نحشد له جيشاً من عشرين أو حتّى من عشرة صراصيرٍ يهجمون عليه معاً، فإننا نستطيع هدم قراه ومدنه ..

العالم: احشدوا إذن عشرة صراصير! ..

الوزير: ومَن الذي يحشدهم؟ ..

العالم: أنت وموْلانا الملك .. هذه شُغلتكم ..

الملك: شغلتنا؟! ..

العالم: طبعاً .. إذا كان الملك لا يستطيع أن يأمر عشرة صراصيرٍ بالاجتماع فما هو إذن سُلطان الملك؟ ..

الملك: يظهر أنك تعيش في غيْبوبةٍ أيها العالِم العلّامة؟! ..

الوزير: المشكلة هي كيف نجمع هذه الصراصير؟ ..

الملك: قُل له .. قُل له! ..

الملكة: أخبرنا أيّها العالِم .. أسبق لك أن رأيت عشرة صراصيرٍ احتشدت في بقعةٍ واحدة؟ .. العالم: نعم .. رأيت مرّة .. منذ زمنٍ طويلٍ جداً .. في مطلع شبابي .. بضعة صراصيرٍ اجتمعت ليلاً في مطبخٍ حوْل قطعةٍ من الطماطم

الملكة: الطماطم ..

العالم: نعم ..

الملك: فكرةٌ مدهشة .. مسألة الطماطم هذه! ..

الوزير: من هنا نبدأ ..

الملكة: وتقول إن العِلم لا يستطيع حل المشكلة! ..

العالم: وما دخل العِلم هنا؟!  .. هذه ليست أكثر من مجرّد ملاحظةٍ عادية

الملك: هذا من تواضع العلماء .. ولكن الفكرة على كل حالٍ مفيدة .. إذا استطعنا أن نأتي بقطعة طماطمٍ فإنه سيجتمع حولها عددٌ من الصراصير ..

العالم: المشكلة الحقيقيّة هي كيـف نعثر على قطعـة الطماطم؟ ..

الملك: وكيف إذن نعثر عليها أحياناً؟ ..

العالم: بالمصادفة ..

الملكة: ومتى تأتي المصادفة؟ ..

العالم: هذا شيءٌ لا يمكن التنبؤ به ..

الملك: أنت إذن جئت تحل لنا المشكلة بمشكلة ..

الملكة: ابحث لنا عن شيءٍ آخر غير الطماطم ..

العالم: أي نوعٍ آخر من الطعام يضعنا في نفس الوضع لأننا نجد الطعام .. ولكننا لا نستطيع أن نوجِده ..

الملكة: أوَ لا يمكننا جمع الصراصير بغير الطعام؟ ..

العالم: لا الصراصير ولا غير الصراصير ..

الوزير: صَدَق .. إن جنس النمل نفسه لا تجتمع جيوشه إلا حوْل الطعام أو لحمل الطعام، أو لتخزين الطعام ..

الملك: إذن وسيلتنا الوحيدة لجمع الصراصير هي الطعام ..

العالم: هذا صحيح .. من الوجهة النظريّة ..

الملكة: ماذا تعني؟ ..

العالم: أعني يا موْلاتي أنه من الوِجهة العمليّة كل هذا تحصيل حاصل .. لأن اجتماع الصراصير حول الطعام لـن يقدِّم ولن يؤخِّر .. لأنها ستأكل وتملأ بطونها، ثم ينصرف كل منها في طريق ..

الملك: صحیح .. هذا حدث ... أذكر بعد تنصيبى ملكاً أن اجتمع عِدّة صراصيرٍ بالمصادفة على قطعة سُكّر عثرنا عليها .. كان هذا مِن يُمن الطالع .. وقد انتهزت فرصة هذا الاجتماع لأُلقي خطبة العرش فقمت في الجماعة خطيباً ... وكانوا قد أكلوا وشبعوا .. فلم أكد ألفظ كلمتيْن، حتى وجدت كل واحدٍ منهم قد لعب شواربه ثم انصرف عني في طريقٍ غير طريق زميله، وتركوني أصيح في الهواء! ..

الوزير: هذه مصيبتنا! ..

الملكة: ألا يوجد علاجٌ لهذا أيها العالم؟ ..

العالم: هذا شيءٌ في الطَبْع ..

الملكة: لا بُد له من سبب ..

العالم: فكّرت في هذا طويلاً .. واهتـديت إلى سبب .. الواقع أنه قد لوحظ دائماً وجود ارتباطٍ وثيق بين اجتماع عدة صراصيرٍ في مكان، ووقوع كوارثٍ من نوْعٍ خاص ..

الوزير: تقصد الجبال المتحرّكة؟ ..

العالم: بالضبط .. والمطر الخانق المبيد ..

الملك: هذا صحيح .. بلغني خبر كوارثٍ من هذا القبيل ..

العالم: أصبح هذا مؤكّداً اليوم من الوِجهة العلميّة .. إذا اجتمع عددٌ من الصراصير في مكان، وكان وَهَـج الضوء ساطعاً، فسرعان ما تتحرك جبالٌ ليس لها قِممٌ ولا رؤوس، فتدوس جماعتنا وتسحقها سحقاً .. وفي أحيانٍ أخرى ينهمر علينا رشاش مطرٍ خانق يبيدنا عن آخرنا ..

الملكة: وما سبب ذلك أيها العالِم؟ ..

العالم: ظواهرٌ طبيعيّة

الملك: ولماذا لا تحدث هذه الظواهر الطبيعيّة إلّا عندما تجتمع عدّة صراصير؟ ..

العالم: لم يتوصّل العِلم بعد إلى تفسير ..

الملك: وما هي حقيقة هذه الجبال المتحرّكة وهذا المطر الخانق المبيد؟ ..

الملكة: وهل هذه الجبال المتحرّكة وهذا المطر الخانق يقصد أبادتنا ..

العالم: هذه كلها أسئلةٌ لا يمكن الإجابة عنها علميّاً ..

الملكة: إذن لماذا لا تقع هذه الكوارث إلا كلّما تجمّعنا؟ ..

العالم: لا أدري يا مولاتي .. كل ما يستطيعه العلم هو فقط تسجيل هذه الظواهر، وربط العلاقة بينها، واستخلاص قانونٍ علمي ..

الملك: تريد إذن أن تقول إن خوْفنا من هذه الكوارث جعل جنسنا من قديم الأزل يخشى التجمُّع؟ ..

العالم: بالضبط .. ومن هنا نشأ فينا هذا الطبع .. وهو سيْر كل واحدٍ منّا بمفرده في اتجاهٍ مختلف .. مجرد دفاعٌ غريزي عن الحياة ..

الوزير: ولكن النمل عكسنا تماماً

العالم: النمل لضآلة حجمه يستطيع أن يفعل ما يشاء .. ولكننا نحن المخلوقات الأكبر لنا وضعنا الخاص ..

الوزير: ولكنه يتغلّب علينا بتجمُّعه ..

العالم: نعم .. مع الأسف الشديد ..

الوزير: والحل؟ .. نريد حلّاً أيها العالم ..

الملك: ابن الوزير نهشته جموع النمل وحملته إلى قراها ..

العالم: خالص العزاء أيها الوزير ..

 

 

(يتبع)

google-playkhamsatmostaqltradent