"أرواح بلا قبور" | قبو الصرخات (3)
وبعد إسبوعيْن صدر التقرير النهائي مفاجأةً
لأهل القتيل ومَن يعرفونه ومَن شهدوا لحظات حياته الأخيرة ؛ فقد ذكر التقرير أن
"سعيد" قد مات بسبب اختناقه من لفافة الأفيون الحمراء التي يبدو أنه أراد
ابتلاعها لإخفاءها عن الأعين أثناء القبض عليه ولم يذكر التقرير شيئاً عن الكسر
بجمجمته وآثار الضرب الذي تعرّض له ولعل من كتب ذلك التقرير كان مدفوعاً أو
مضغوطاً من قِبَل الشرطة المتَهَمة بقتله.
وبالرغم من مرور أكثر من خمسة شهورٍ على تلك
الحادثة إلّا أنّ الرائد "سمير" لم ينسها بحذافيرها حيث كانت تنتابه في
منامه الكوابيس كل ليلةٍ مسترجعةً كل تفصيلةٍ من تفاصيلها الدقيقة بل كانت تمتد
فترات هذه الكوابيس أحياناً فيرى نفسه وقد وقع أسيراً في يد جماعة "الإيمان والتوحيد"
وأنّهم يعذّبونه بالكي والحرق والكهربة فيقوم من نوْمه يصرخ مذعوراً وقد تسارعت
ضربات قلبه حتّي كاد أن يتوقّف عن الخفقان من شدّة الرعب، أما في صحوه فقد كانت
جروح أصابعه - التي كانت تتجدّد باستمرار فتبدأ في النزيف على فترات - كفيلةً بأن
تذكّره بجريمته وتستحضر وقائعها المريرة، أمّا ما كان ينغّص عليه عيشته حقّاً تلك
التهيّؤات المتكرّرة التي كانت تعتريه وتغشاه من حينٍ لآخر فتارةً يشعر بالاختناق
وكأن شيئاً يقف في حلقه وتارةً يشمّ رائحةً كدخان الأفيون رغم أن المتواجدين حوله
لا يشمّونها وتارةً أخرى يرى ولّاعة سجائره الحمراء على نفس شكل لفافة الأفيون، كما كان يسمع صوت صراخ "سعيد" في كل مرّة
ينزل فيها القبو ممّا جعله يمتنع عن التواجد هناك إلّا للضرورة القصوى فقط.
واستمر ذلك العذاب حتّي قامت ثورة يناير وتجمّع
الناس الثائرون حول أماكن رموز الحكم السادي الجائر بغية إحراقها والتخلّص من
جبروتها وسطوتها وكان أول هذه الرموز هي مقار جهاز أمن الدوْلة في كل محافظة، ولم
ينجُ فرع "أسيوط" من محاولات اقتحامه هو أيْضاً فصدرت الأوامر
"لسمير" بالنزول إلى القبو السرّي لجمع الوثائق والملفّات والأوْراق
الهامة التي تخص التحقيقات وإعدامها بالحرق أو التقطيع حتّى لا تقع في أيادي
الثائرين إذا ما نجحوا في الوصول إلى هذه الأوْراق فيستغلّونها في إدانة قيادات
الجهاز وضبّاطه، فنزل "سمير" مهرولاً حيث هناك وفي طريقه لحجرة أرشيف
الملفّات مر على الحجرة التي تم دفن بعض ضحايا التعذيب بأرضيّتها فسمع صوْتاً
واهناً خفيضاً يناديه فظنّ أوّل الأمر أنّه أحد زملائه أو مرؤوسيه فدفع باب الحجرة
الحديدي الذي كان موارَباً فلم يتبيّن له شيء حيث كانت الغرفة مظلمةً تماماً فأنار
كشّاف هاتفه المحمول وطفق يستكشف مصدر الصوْت وفجأة انغلق الباب محدثاً صريراً
مرعباً أعقبه صوت ارتطام مدوّي ثم ما لبث الكشّاف أن انطفأ رافضاً محاولات
"سمير" لإنارته من جديد فأحسّ "سمير" وقد أصبح حبيساً بالفزع
الشديد وكأنه في كابوسٍ مريع وبدأ يسمع أصوات هسهسةٍ خفيّة لم تكد أن تتعالى شيئاً
فشيئاً حتّى استحالت إلى جلبةٍ صاخبة اختلط فيها العويل بالنواح والتأوّه بالأنين
فحاول فتح الباب أو الاستغاثة بأحد الزملاء ولكن صياحه اختلط بصرخات المعذبين دون
أن يسمعه أحد وشعر بأن أيادٍ كثيرة تتحسّس وجهه وجسده ثم تجذبه بعيداً عن الباب في
ركنٍ بعيدٍ من الحجرة وتلفّت حوله وهو مذعور فلم يرَ أحداً وفوجئ بضربةٍ قوية على
يأفوخه تطرحه أرضاً ولم يشعر بشيءٍ بعدها.
وبعد بضعة أيّام
اقتحم الثائرون المبنى واستطاعوا الوصول إلى القبو السرّي فأخذوا في تحرير
المعتقلين الذين دلّوا على غرفة الدفن فاستخرج الناس بعض الجثث من أرضيّتها أمّا
في أحد الأركان المنزوية فقد عثروا على جثةٍ منفوخةٍ متفسّخةٍ نتنة ترتدي بذلة
رائد شرطة وبتشريحها وُجِدَت جمجمتها مكسورة نتيجة الاصطدام بجسم رضّي صلب كما تم
العثور في بلعومها على لفافة أفيون داخل كيسٍ من ورق السُلُوفان الأحمر.