استغلال الإسلام هو
الحل
( الدين بانجو
الشعوب ) (1)
خرج "عبد
الظاهر" من المدرسة الثانويّة الأزهريّة بعد انتهاء اليوم الدراسي فلم يتّجه
لمنزله كمعظم زملائه، ولم يبقَ بأحد الحارات ليلعب أو يتسكّع كبعض أقرانه، بل ولّى
وجهه شطر مسجد القرية ليلتقي بإمامه الشيْخ ليحفظ عنه القرآن عن ظهر قلب كما أمره
بذلك والده "عبد المؤمن"، ولم يكن الصبي متذمّراً من ذلك بل كان دؤوباً
على المواظبة على حضور درس تحفيظ المصحف وتجويده ليس لثواب ذلك وفضله بل لما يعود
عليه من فوائدٍ ومكتسباتٍ جمّة، فلم يكن - للأسف - ينظر للأمر كأكثر من وسيلةٍ
يجني بها منافع ماديّة ومعنويّة تفضي به إلى الغاية التي يرجو اللحاق بها، فهو لا
ينسى المنفعة الماديّة التي تتمثّل في لجوء أهل القرية إليه ليقرأ عليهم بعضاً من
آيات الذكر الحكيم التي يستحضرها من ذاكرته في أغلب مناسباتهم : أعراس - مآتم -
جلسات ذكر - احتفالات بموْلودٍ أو طهورٍ أو نجاحٍ أو وظيفةٍ أو غير ذلك، وكان
يتكسّب نظير ذلك مبالغ ماليّةً معقولة بالنسبة إلى سنّه الصغيرة، وكان يتهرّب ممن
يلجأون إليه ليحصلوا على خدماته مجاناً أو بمقابلٍ بخس متعللاً بانشغاله في
استذكار دروسه أو بارتباطه باتفاقاتٍ أخرى، وهو لا ينسى أيضاً المنفعة المعنويّة
التي تتمثّل في احترام وتبجيل زملائه ومعلّميه وجيرانه له ولجوءهم إليه ليحكم
بينهم في خلافاتهم أو يفتيهم في أمورٍ ملتبسةٍ عليهم أو يشير عليهم بما يجب عمله
إزاء ما يقابلونه من معضلات، وكان يفعل ذلك كلّه من منطلق أنه أكثر منهم معرفةً ودرايةً
وحفظاً للقرآن وكان يستدل بآيات كتاب الله ليقيم البرهان على صحة حكمه أو فتواه أو
رأيه، وكان يشُط بفكره في أحيانٍ كثيرة ولكنه كان بارعاً في أن يطوّع ما حفظ من
القرآن ليخدم أفكاره وأغراضه هو؛ فكان يلوي عنق الحقيقة فينتزع آياتٍ من موضعها أو
ينتقي آياتٍ في غير محلّها أو يحوّر معانيها وتفسيراتها كيفما يشاء أو يستدل بجزءٍ
من آيةٍ دون إكمال باقيها على طريقة "لا تقربوا الصلاة" أو "ويْلٌ
للمصلّين" حتَّى يستنبط ما يساعده على حمل مَن أمامه على تصديقه فيما يرى والوثوق
به فيما يريد مستغلاً جهل الناس بالدين أو عدم استطاعتهم مجاراته في جداله الذي لا
ينتهي.
فقبل أن يبدأ اختبار
آخر العام الماضي لمادّة العلوم بالشهادة الإعداديّة طلب من زميله الذي يشغل
المقعد المجاور له في لجنة الامتحان أن يملي عليه إجابة ما يطلبه من أسئلةٍ قد
تستعصي عليه لأنه لم يستذكر دروس هذه المادّة جيّداً فرفض زميله تأسيساً على
الحديث النبوي "من غشّنا فليس منا"، إلا أن هذا الزميل رجع عن موقفه ووافق
على طلب "عبد الظاهر" بعد أن أقنعه الأخير بقوله :
- يا أخي احنا لازم
نساعد بعض ف الامتحان.. واللي ما يعرفش إجابة سؤال ياخده من اخوه.. ده ربّنا بيقول
ف كتابه العزيز: "وتعاونوا".. مش كده وبس.. ده الرسول عليه الصلاة والسلام
بيقول: "الله في عوْن العبْد ما دام العبْد في عوْن أخيه".. وبيقول:
"المؤمن للمؤمن كالبُنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً".. وبيقول: "مَن
فرّج عن مسلمٍ كُرْبَةً من كُرَب الدنيا فرّج الله له كُرْبَةً من كُرَب يوم
القيامة".. وبيقول كمان: "يَدُ اللهِ مع الجماعة".. إنت عارف أنك
كده تبقى أناني وما بتحبّش إلّا نفسك.. المفروض إن الإيثار من خصال المؤمن.. ده
ربّنا قال: "ولا يجدون في صدورهم حاجةً مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان
بهم خصاصة ومَن يوق شُح نفسه فأولئك هُم المفلحون".. حتَّى الأئمّة قالوا: "حُب
النفس رأس كل خطيئة".
و في مرّةٍ أخرى كان
يسير مع رفيقٍ له بجانب منزل أحد أعيان القرية من الأقباط فطلب من رفيقه أن يرفعه
عالياً ليتمكّن من القفز فوق السور المحيط بحديقة المنزل ليقطف بعض الثمار من
أشجار التفّاح الواقعة داخل حرم الحديقة، ولمّا نهاه الرفيق عن ذلك لأنه حرام أخرج
"عبد الظاهر" ما في جعبته من الفتاوى السابقة التجهيز وقال له وهو يغالط
معنى ما يقول :
- إنت عبيط!.. معذور
أصلك جاهل.. يا بني دول مسايحة.. يعني ناخد أي حاجة بتاعتهم زي ما احنا عايزين..
إنت مش حافظ سورة "المائدة"؟.. "اليوم أحَلَّ لكم الطيّبات وطعام
الذين أوتوا الكتاب حِلٌ لكم".. وف سورة الأحزاب.. "وأورثكم أرضهم وديارهم
وأموالهم وأرضاً لم تطؤوها وكان الله على كل شيءٍ قديرا".
و مضت الأيّام وتدرّج
"عبد الظاهر" في دراسته إلى أن تخرّج من كليّة أصول الدين فعمل مأذوناً
في قريته بيْد أنه كان يغالي في أجره ويرصد لنفسه نسبةً غير بسيطة من مقدّم ومؤخّر
الصداق رغم أنه كان يعلم أن ما يكتبه في العقد مجافياً للحقيقة حيث اعتاد الفلاحون
على كتابة أضعاف ما دفعوا بالفعل من المهور المعجّلة والمبالغة في الأصدقة
المؤجّلة للتباهي فيما بينهم وكان يكذب في تبرير أجره الكبير بقوله أن أكثر من
نصفه سيذهب للدوْلة في صورة رسومٍ ودمغات، كما تنازل له إمام الجامع - الذي طعن في
السن - عن الإمامة بمسجد القرية فصار يتحكّم في المسجد كيفما يشاء واتّبع أسلوباً
فريداً للارتقاء بمكانته الأدبيّة وتحسين حالته الماليّة، فأدرك أن البداية
الصحيحة لابد أن تنبع من المسجد فعمل على أن يجعله كبيراً جامعاً لأهل القرية وما
حولها من قرى وأن يوفّر فيه كل أسباب الراحة والجذب للمصلّين ومرتادي الدروس التي كان
يعقدها مجاناً بعد صلاة المغرب وحتَّى صلاة العشاء.
فحصل على إعانةٍ
فوريّة من وزارة الأوقاف وأخذ ما في صناديق الزكاة من أموال وقَصَرها على المسجد
دون أن يمنح منها شيئاً للفقراء والمحتاجين، ودار على جميع أعيان وأغنياء وتجّار
القرية وأجبرهم على التبرّع للمسجد وأنذرهم بأن من يتقاعس عن ذلك سيفضح أمره بين
أهل القرية جميعاً في حين بشّر أكبر عشرة متبرّعين بأن يكتب أسماءهم على لوحة
الشرف الرخاميّة الخاصّة بتجديد المسجد والتي سيكشف عنها المحافظ خلال افتتاحه
للمسجد في ثوْبه الجديد، مما دفع أغلبهم إلى المبادرة لدفع مبالغ كبيرة درءاً
للفضيحة أو طلباً للتفاخر أمام الناس، خلافاً لثُلّةٍ منهم كانوا يفعلون ذلك ابتغاء
مرضاة الله دون انتظار ترهيبٍ أو ترغيب.. {أليس في أموالهم حقٌ معلوم لتجديد المسجد؟}.
كما أنه وضع كل ما
يملك هو شخصيّاً وكل ما كان يتكسّبه من مبالغ مع باقي هذه الأموال ولكن على سبيل
القرض الحسن الذي سيسترده فيما بعد من أموال الأوقاف أو التبرعات أو الصدقات
الجارية، ولكي لا يتعب في حساباته أو يلتبس عليه الأمر اعتبر أن أمواله وأموال
المسجد شيء واحد وذمّةٌ ماليّةٌ مشتركة أي أن ما يملكه هو ملكٌ للمسجد وأن ما
يملكه المسجد هو ملكٌ له تأسيساً على مبدأ أن ما بين الخيّرين حساب وأن فصل
الذمّتيْن قد ينزع عن الأموال البركة، ثم لا بأس لو أخذ أكثر ممّا دفعه لأنه يعتبر
نفسه مؤدّياً ومشرفاً على تجديد المسجد وأنه ليس حراماً أن يتقاضى أجراً عن ذلك
العمل، كما أن له نصيباً معلوماً من أموال الزكاة والتبرّعات أليس هو قائماً
عاملاً عليها واجتهد في جمعها؟، "إِنَّمَا ٱلصَّدَقَٰتُ لِلْفُقَرَآءِ وٱلْمَسَٰكِينِ
وٱلْعَٰمِلِينَ عَلَيْهَا وٱلْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وفي ٱلرِّقَابِ وٱلْغَٰرِمِينَ
وفي سَبِيلِ ٱللَّهِ وٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ ۖ فَرِيضَةًۭ مِّنَ ٱللَّهِ ۗ وٱللَّهُ
عَلِيمٌ حَكِيمٌۭ".. {أليست الخيرة فيما اختاره الله؟}.
و كان يشتري مواد
البناء ولوازم تجديد المسجد بالزيادة وما يتبقّى منها يستخدمه ف استكمال بناء
منزله الذي بدأ في تشييده في ذات الوقت على الأرض التي ورثها عن والده، وكان يشتري
هذه المواد والبضائع بأثمانٍ تقل عن مثيتلها في الأسواق متحججاً بأنها ذاهبة
للمسجد ومن العار على مَن يتاجر فيها أن يكسب من ورائها بل يجب أن يخسر قليلاً لأن
هذه الخسارة هي نصيبه من المساهمة في تجديد المسجد وسوف يعوّضه الله عنها بمكاسبٍ
هائلة في الدنيا والآخرة مما أدّى إلى انخفاض تكاليف التجديد وتوفير كثيرٍ من
الأموال، وتصادف أن رفض أحد التجّار أن يخسر في بضاعته فما كان من "عبد
الظاهر" إلا أن أفشى خبره بين الناس فأصبح مذموماً منبوذاً من أهل القرية مما
سبب بوار تجارته وكساد بضاعته فسارع ليرجو مغفرة الإمام وعفوه فصفح عنه "عبد
الظاهر" بعد أن أجبره على توريد مواد ولوازم بخسارة أكبر لئلا يعود إلى فعلته
مرّةً أخرى وليكون عبرةً لقرنائه من التجّار.. {أليس معروفاً أنه ما ينقص مالٌ من
صدقة؟}.
هذا بالطبع غير
تسخيره للعمّال والحرفيين القائمين على تجديد المسجد وبناء المبنييْن الملحقيْن
بالمسجد (مبنى لدورات المياه وأماكن الوضوء ومبنى آخر لتخزين ما يخص المسجد من كراسٍ
وسجاجيدٍ وحُصْرٍ وغيرها من المفروشات) وما يتبعهما (منزل الإمام الجديد) نظير
أجورٍ بخسة، فعيب كل العيب ألا يُدلي هؤلاء العمّال بدلائهم في هذا العمل الخيّر العظيم..
{أليس ما عند الله باق؟}.
و لم ينسى "عبد
الظاهر" أن يتعاقد على شراء أجهزة التكييف وثلّاجات المياه والسمّاعات والكاميرات
والشاشات والستائر الهوائيّة وصواعق الذباب والناموس وباقي الأجهزة من إحدى
الشركات الكبرى التي قدّمت عرض أسعارٍ أقل من الشركات الأخرى كما قدّمت عرضاً
آخراً مميّزاً فمنحته جهازاً مجّانيّاً كهديّة أمام كل ستّة أجهزة مشتراة مدفوعة
الثمن من أي نوع، ممّا رجّح كفّة هذه الشركة فسارع الإمام بالتعامل معها وحدد لها
موعداً لتوصيل الأجهزة المشتراة إلى مقر الجامع وتوصيل الأجهزة المجّانيّة إلى
منزله لأنه اعتبرها - بنيّةٍ سليمة - هديّةً مقدّمةً له شخصيّاً من الشركة تشجيعاً
له على أنه دون سواه فضّلها عن غيرها من الشركات.. {أليست الأعمال بالنيّات؟}.
و تم افتتاح المسجد
في احتفالٍ كبير حضره المحافظ وكبار الشخصيّات الذين تسابقوا ليتواجدوا في هذه
المناسبة التي ستظهرهم أمام الناس بلباس التقوى والورع، وكان المسجد يتفوّق في منظره
وتجهيزاته على أفخم المساجد في "القاهرة" بل في الأراضي المقدّسة فقد
كان المسجد مكسوّاً ومبلّطاً من الخارج بأفخر أنواع الرخام أمّا جدرانه الداخلية
فكانت مكسوّة بأجمل أًصناف القيشاني الملوّن ذي الرسوم الزخرفيّة البديعة المنظومة،
وعندما تدخل من أي باب يستقبلك تيّار هواء شديد يهب من الستائر الكهربائيّة التي تمنع
دخول الهواء المحمّل بالغبار والأتربة من خارج المسجد، في حين كان جو المسجد من
الداخل مريحاً من أثر مكيّفات الهواء الضخمة المنتشرة في كل الأرجاء، وتجد في كل
ركنٍ ثلّاجةً توّفر لك الماء البارد إن كنت ظمآناً، وعلى الجدران تنتشر السمّاعات
النقيّة الصوت والشاشات الكبيرة الرؤية التي تمكّن كل فردٍ في المسجد مهما كان
مكانه من سماع ومشاهدة الإمام بلا عَناء، والأعمدة مغلّفة بالمَرَايا الزجاجيّة التي
تعطي الإحساس باتساع المكان، وكانت الأَسْقُفُ منقوشةً بعناية وتتدلّى منها الثُريّات
الكريستال البرّاقة المتلألأة، وكان المنبر مصنوعاً من خشب الأبنوس الفاخر المُحَلَّى
بقطع الصَدَف الجميلة، أمّا عن القبّة والمئذنة والمبنييْن المنفصليْن الملحقيْن
بالمسجد فحدّث ولا حرج عن جمال أشكالها وكمال تأثيثها، بيْد أن كل هذه الفخامة اصطدمت
وتناقضت بصورةٍ فجّة مع الهيْئة الرثّة لمعظم مرتادي المسجد العاديين من فلاحي
القرية وما حوْلها، فتكفي منك نظرةٌ سريعة على الخانات والأرفف الخشبيّة التي تحوي
متعلّقاتهم من أحذيةٍ قديمةٍ باهتٌ لوْنها وشباشب متهالكة تم تخييطها وترقيعها
كثيراً، مما يجعلك تلاحظ المفارقة الشديدة بين هذا وذاك، ولكنك إذا كنت وطنيّاً وشديد
العروبة فلن يلفت ذلك انتباهك بسبب الفصام والتناقض الوجداني الذي نتمتّع به جميعاً،
فلن تدرك أنه من غير المنطقي أن يتم صرف هذه المبالغ الضخمة على بيتٍ من بيوت الله
وترك مَن يَعْمُرُه مِن عباد الله على هذه الحالة من الفقر والاحتياج والعَوَز في مثالٍ
صارخٍ للتعارض بيْن الظاهر والباطن.
على أي حال؛ فقد بدأ
"عبد الظاهر" في اتخاذ الخطوة التالية، فبعد جذب الناس من كل حدْبٍ وصوْب
للمسجد وارتباطهم به يجب عليه الآن أن يجذبهم له هو شخصيّاً ولخطبه ودروسه ولكن
كيف؟، لم يُجْهِد "عبد الظاهر" نفسه كثيراً في العثور على إجابةٍ لهذا
السؤال فقد كان يعرف جيّداً أن الناس يلهثون وراء الخطب الناريّة ذات المذاق
الحرّاق التي تحوي بعضاً من ملح الكلام الذي يهاجم فيه الخطيب الحكّام وبعضاً من
فلفل الحديث عن مصائب الدنيا وكثيراً من بهارات الكلمات التي لا يستطيعون هم إخراجها
من أفواههم ثم لا تهم باقي مكوّنات الخطبة الأساسيّة من صلب الموضوع في الدين أو
الشريعة فهي موجودةٌ في أي كتاب.
و عليه؛ فقد بدأ
الإمام في إلقاء الخطب التي تصادف هوى الناس وتدغدغ مشاعرهم فبدأ في الهجوم على
المحافظ والوزراء وأعضاء الحكومة وأعضاء مجلسيْ الشعب والشورى والمجلس المحلّي وغيرهم
(دون المساس بالطبع من رأس الحُكم بل كان يدعو له من فوْق المنبر ويأمر الناس
بوجوب طاعته وتحريم الخروج عليه) الذين يتباطئون في القضاء على الجهل والفقر والمرض
ويبذّرون أموال الدولة في الاهتمام بظواهر الأمور وإهمال بواطنها، فتارةً يهاجم
سياسة بناء الفيللات والشاليهات الفاخرة في السواحل والمصايف وترك غالبيّة الشعب
بلا مأوى معقول تتوافر فيه الشروط الصحيّة للحياة الكريمة، وتارةً أخرى يهاجم دعم
السلع الفاخرة وأطعمة القطط والكلاب وترك معظم الشعب يتلظّى بنار أسعار السلع والأطعمة
الضروريّة، وتارةً ثالثة يهاجم النظام السياسي للبلاد المسمّى بالديمقراطيّة (حكم
الشعب) التي تدعو لسن قوانين الإجهاض والشذوذ وإباحة الخمور والزنا ويطالب بالعوْدة
لحُكم الله وتطبيق شرعه بحذافيره، وغير ذلك من الأمور التي جعلت الناس يصفونه
بالشجاعة في قوْل الحق وعدم الخشية إلّا من الخالق سبحانه وتعالى، فلم تمض بضعة
أسابيعٍ إلّا وقد علا نجمه وذاع صيته وكَثُرَ مريدوه وتضاعف مستمعوه وأصبح المسجد
وإمامه قبلة كل مسلمٍ في الناحية فلم يجد الناس مكاناً داخل أو خارج المسجد في صلاة
الجمعة بالتحديد من شدّة الازدحام وكثرة الاكتظاظ.
و لكن بعد مدّة سمع
المسئولون بما يقوله "عبد الظاهر" عليهم فاستاءوا استياءً شديداً وشرعوا
في اتخاذ إجراءات عَزْل الشيخ من إمامة المسجد أو حتَّى اعتقاله ولكنهم توجّسوا
خيفةً من شعبيّته الجارفة التي ازدادت كثيراً في الآونة الأخيرة وخشوا أن يصطدموا
بالناس، في حين أن بعض الخبثاء منهم وجدوا أن عليهم استمالته إلى صفّهم حتَّى لا
يهاجمهم بل يحوّلونه بوقاً يدعو لهم ويسبّح بحمدهم وكانوا قد جرّبوا هذه الطريقة كثيراً
من قبل مع غيره وأثبتت نجاحاً منقطع النظير، فبعثوا في طلبه فوافاهم سريعاً فقد
كان متوقّعاً منهم هذه المبادرة بل كان موقناً بأنهم لا صبر لهم على ما يقوله
عليهم، وتم الإتفاق فيما بينهم على التزامه بألا يهاجم من يلتزمون معه بتحديد مبلغٍ
شهري للمسجد (وبالتبعيّة لإمام المسجد فلم تزل الذمّة الماليّة موّحدةً بينهما) بل
يمتدحهم ويثني على أعمالهم، ومَن لا يلتزم بالوفاء بكلمته فلن يفلت من نصل لسانه وسيكون
محور خُطَبه الملتهبة، وهكذا نفذ الإمام إلى عالم الكبار وصار نداً لهم، كما كان
يتوسّط للناس لديهم دون أن يرفضوا له وساطة فأصبح ينجز للناس حوائجهم المستعصية في
زمنٍ قياسي نظير مبلغٍ يتبرّع به صاحب الحاجة للمسجد (وبالتبعية لإمام المسجد الذي
يبذل مجهوداً كبيراً في ذلك).