ما بين الملك والجيش والإخوان
- يا راجل مَلَكيّة إيه وزِفت إيه .. ما هو اللي ما يعرفش يقول عدس .. ده كان عصر الاستبداد والعبوديّة .. "مصر" ما عاشتش عدل ومساواة غير في عهد الجيش .. الجيش بس هوّ اللي حاسس بالناس الغلابة .. ما هو الجيش من الشعب والشعب للجيش .. ربنا يديمها نِعمة علينا ويحفظها من الزوال.
- تصدّقوا انتم الاتنين بهايم .. يغور حُكم ده وحُكم ده .. ما فيش إلا الإخوان وبس .. طول عمرهم عارفين ربنا وبيتّقوه في الشعب المسكين .. بس للأسف ما أخدوش الفرصة .. آه بس لو كانوا فضلوا في الحكم شويّة .. كان زمان "مصر" دي كلها حريّة وعدالة .. بس تقول إيه شعب غبي بيحب خَنّاقه.
دي آراء تلات أصدقاء مصريين كانوا قاعدين
معايا ع القهوة .. كل واحد مصمّم على رأيه .. ولمّا سألوني عن رأيي ما رضيتش أقوله
لهم علشان ما يزعلوش مني .. وبرضه مش ح اقوله لكم يا إخوتي القرّاء علشان
ما اخسركمش .. لإني باعتز بصداقتكم وجمايلكم فوق دماغي .. كفاية عدد الزيارات اللي
عدّى التِلت مليون حتى الآن في أوّل تلات سنين من عُمر مجلّة "ابن أبي صادق" ..
أظن ابقى ساقع قوي لو زعّلتكم مني .. عموماً أنا ح احكي لكم حكاية واقعية من
تاريخنا الحديث وحاولوا تستشفّوا منها أنهو طرف كان أحسن لحكم "مصر المحروسة": المَلَكيّين ولّا
العسكريّين ولّا الإخوان .. يا ريت اللي عنده طقطان كبير ومرارة واسعة ولبانة زرقا
وقدر يكمّل الحكاية للآخر يكتب لي هوَّ مع مين في تعليق صغيّر رفيّع قد كدهو ..
خلّيكم شجعان وما تخافوش .. اتكلّموا براحتكم .. اتكلّموا .. ما ياخدش الروح إلّا اللي خالقها ..
وطبعاً إنتم عارفين إننا بنعيش أزهى عصور الحريّة والديمقراطيّة .. ولّا انت عندك
رأي تاني يا كابتن يا اللي قاعد ع اللابتوب بتترعش هناك .. وانتي يا ست الكل يا اللي ح تقفلي الموبايل ف وِشّي وتخُشّي تنامي .. ممممما تخخخخخافففففوووووش
.. اتكللللللموا .. اتكللللللموا .. هوَّ انا مالي باررررررتجف كده ليه يا
خوووووويا.
ملحوظة : مرفق مع البوست فيديو مؤثّر جداً للرئيس السابق "محمد نجيب" تم تصويره في 1984 قبل وفاته بأسابيع .. عندما سُئل عن موضوع هذه الحكاية تذكّر ما حدث بكل ألم فانهار باكياً ولم يستطِع استكمال شهادته بسبب عذاب الضمير فكان آخر ما قاله في هذه المقابلة: "أنا جِبت الاثنين المحكوم عليهم بالاعدام وقعّدتهم جنبي علي مكتبي وجِبت لهم قهوة وشاي .. إف إف إفففف .. آلام .. آلام .. آلاااام .. آلاااااام ....." .. اللهمّ ارحم رؤساء "مصر" المتوفين وتجاوز عن أخطائهم .. اللهمّ اهدي رؤساء "مصر" الأحياء للحق وارجعهم للرشاد وادفع عنهم بلاءك وابتلاءك .. اللهمّ قوِّنا على قول ما نعتقده حقاً وما نراه صواباً مقتدين بـ"شُعيْبٍ" (عليه السلام) حين قال عنه تعالى: "قال يا قومِ أرأيْتم إن كنتُ على بيّنةٍ من ربّي ورزقني منه رِزقاً حسناً .. وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريدُ إلّا الإصلاحَ ما استطعت .. وما توْفيقي إلّا بالله عليه توكلتُ وإليه أُنيب".
الحدّوتة أو الحكاية الحقيقيّة دي يا سيدي بدأت في 12 أغسطس 1952 عندما قامت إدارة مصنع "كفر الدوّار للغزل والنسيج" بنقل مجموعةٍ من العمّال من مصنع "كفر الدوّار" إلى مصنع "كوم حماده" (البُعد بينهما 74 كيلومتر تُقطَع في ساعة ونصف) بدون إبداء أسباب مما أثار ثائرة هؤلاء العمّال، وتعاطف معهم زملاؤهم فأعلنوا إضرابهم عن العمل وقاموا بوقفةٍ احتجاجيّةٍ لإعلان مطالبهم لحركة الجيش منددين بحركة نقل العمّال التعسّفيّة وتدنّي الأجور والحوافز وتدهور سكن العمّال، ظنَّ العمّال السُذَّج الغَررة أنه بقيام ثورة 23 يوليو قد أصبح الجوْ العام مناسباً لتحقيق مطالبهم ونيْل حقوقهم لكنهم فوجئوا بمحاصرة قوات أمن "كفر الدوّار" للمصنع تحت التوجيهات المستدامة لنفس القيادات التي كانت موجودة قبل حركة الجيش (اللي همَّ موجودين من عهد المَلَكيّة وكانوا ح يتصرّفوا نفس التصرّف لو بقي الملك مستمراً في الحُكم .. واخد بال سيادتك من موقف المَلَكيّين دول)، وأطلقت القوّات النيران علي العمّال فسقط عاملٌ مقتولاً .. وهو ما دعا العمّال في اليوم نفسه لعمل مسيرة حتى باب المصنع .. وعندما سمعوا بشائعة حضور الرئيس "محمد نجيب" هتفوا: "يحيا القائد العام ... تحيا حركة الجيش".
وعندما تأخّر عليهم "نجيب" – الذي لم يحضر أصلاً – خرج العمّال لانتظاره عند مدخل المدينة، وفي طريقهم مرّت مسيرة العمّال على إحدى نقاط الجيْش وألقى العمّال التحيّة على العساكر مُردِدّين نفس الهتافات المؤيّدة للجيش إلى أن وصلت مسيرة العمّال لأحد الكباري وعلى الجانب الآخر منه وقف الجنود المصريون شاهرين بنادقهم في وجه العمّال، ومن جانبٍ ثالث (الطرف التالت بتاع زمان) لا يعلمه أحدٌ - حتى الآن - انطلقت رصاصةٌ في اتجاه الجيش فراح ضحيّتها أحد العساكر فردَّ الجنود بإطلاق نيران بنادقهم في الهواء، وبدأت معركةٌ حاميةٌ بين الجنود المسلّحين والعمّال العُزَّل (أو تُنطَق أيْضاً العُزْل) حتى من الحجارة ولم تستمر المعركة لأكثر من ساعاتٍ إلى أن تم القبض على مئات العمّال.
وتشكّلت المحاكمة العسكريّة (واخد بالك من كلمة العسكريّة دي) برئاسة "عبد المنعم أمين" أحد الضُباط الأحرار (الذين سُمّيوا أحرارٌ لأنهم كانوا بالفعل أحراراً فيما يفعلونه بالبلد وشعبها) وبعضويّة كوادرَ قضائيّةٍ من الإخوان المسلمين (واخد بالك من كلمة الضُبّاط دي ومن كلمة الإخوان دِكهه)، ونُصِبَت المحكمة في فناء المصنع واتُهِم مئات العمّال بالقيام بأعمال التخريب والشغب بتحريضٍ من المتهميْن الرئيسيّيْن الأوّل والثاني: العامل محمد مصطفى خميس (19 سنة) والعامل محمد عبد الرحمن البقري (17 سنة) اللذيْن اتُخِذا كبش فداء وجُعِلا عبرةً لباقي العمّال رغم أنهما لم يقودا الثائرين بل كانا من ضمنهم فقط، وبدأت أحداث تلك المحاكمة الهَزْليّة التي شهدت تورّط العشرات من المتهمين الأبرياء الذين كانوا يمرّون مصادفةً بالشوارع التي امتدّت فيها المظاهرات وتم القبض عليهم مع العمّال الثائرين بطريق الخطأ لدرجة أن بعض المتهمين كانوا أطفالاً (كان منهم طفلاً لم يتعدَّ آنذاك 11 عاماً)، وظل المتهمان البائسان يصرخان: "يا عالم ياهوه .. مش معقول كده .. هاتوا لنا محامي علي حسابنا حتى .. ده احنا هتفنا بحياة القائد العام .. ده احنا فرحنا بالحركة المباركة .. مش معقول كده"، واستكمالاً للشكليّات فقط فقد نظر القاضي (الإخواني إيّاه) للحضور وقال وهو يتفحّص ويتمحّص فيهم: "هل فيكم من محامِ؟"، وكان "موسي صبري" الصحفي الشهير وقتها حاضراً بغرض التغطية الصحفيّة لوقائع هذه القضيّة وكان حاصلاً علي إجازة الحقوق فاعتبروه محامياً رغم أنه سلك مجال الصحافة عقب تخرُّجه مباشرةً ولم يسبق له قط ممارسة المحاماة على أرض الواقع، وتقدَّم ذلك الصحفي المتمرِّس والمحامي الغرير للدفاع عن المتهميْن بكلمتيْن شكليّتيْن أدانتهما أكثر ممّا دافعت عنهما، وهكذا مضت المحاكمة دون أدلةٍ ولا دفاع لتنتهي في أربعة أيامٍ فقط بالنطق بحكم الإعدام على العامليْن المُفتَرى عليْهما، هذا فضلاً عن عشرات الأحكام بالأشغال الشاقة المؤبدة والمؤقتة والفصل من العمل.
وفي النادي الرياضي بالمدينة تم تجميع باقي العمّال - الذين فلتوا من الاعتقال والمحاكمة الصوريّة - وأُجبِروا علي الجلوس في دائرةٍ كبيرةٍ تحت حراسةٍ مُشدَّدةٍ من جنود الجيش شاهري السلاح لتذاع فيهم الأحكام المرعبة من خلال مكبّرات الصوت وسط ذهول الجميع وبكاء الكثير منهم.
وقد بارك الضبّاط الأحرار (عسكريين برضه) أعضاء مجلس قيادة الثورة الحكم باستثناء "خالد محيي الدين" و"يوسف منصور صدّيق" (رغم أنهما عسكريّان أيْضاً)، فقد كتب "عبد اللطيف البغدادي" (ضابطٌ عضوٌ بمجلس قيادة الثورة) في مذكّراته أنه كان يجب تنفيذ الحكم بالإعدام لمنع تكرار هذه الأحداث وهو نفس موقف "حسين الشافعي" (راخر زميله في المجلس) الذي أعلنه في حوارٍ معه على إحدى الفضائيّات فيما بعد بأنه كان يجب أن يُعرَض العمّال على المحكمة العسكريّة وليست على القضاء الطبيعي العادي بحجّة أن الثورة ظرفٌ استثنائيٌ تاريخي وليست حدثاً عادياً متكرّراً، كما دعا القيادي الإخواني (إخواني أهه .. وسيد الإخوان كمان) الكاتب والباحث والمفكّر "سيّد قطب" إلى تطبيق حَد الِحرابة في محاكمة العمّال وصرّح بأن حركة العمّال ورائها أخطبوط الرجعيّة والاستعمار، في حين قال اللواء (العسكري أيْضاً) "محمد نجيب" في كتابه "شهادتي للتاريخ":
- "إنني التقيت بهما (يقصد خميس والبقري وهو نفس ما قاله في الفيديو المرفق الذي لم يستطِع إكماله لشدّة تألّمه) وكنت مقتنعاً ببرائتهما بل وكنت معجباً بشجاعتهما ولكني صدّقت على حُكم إعدامهما تحت ضغط "جمال عبد الناصر" (عسكري برضه .. وسيد العسكر كمان) الذي كان وزيراً للداخلية آنذاك والذي أقنعني بضرورة رَدْع التمرد وسَحْق هذيْن العامليْن ليكونا عِبرةً لغيرهما من العمّال (بل وباقي الشعب أيْضاً) فلا يجرؤ أحدٌ علي تكرار ما حدث".
ويقال أن "نجيب" أثناء هذه المقابلة كان قد ساوم "خميس" على تخفيف الحكم إلى السجن المؤبد في مقابل قيامه بالاعتراف على رفاقه العمّال وإدانة حركتهم ولكن "خميس" رفض أن ينجو بنفسه مقابل أن يزج بزملائه في أتون تلك المظالم.
ولأن العسكريين والإخوان وربما الملك أيْضاً (إن كان قد بقي في الحكم) ومعهم سائر حكّام "مصر المهروسة" السابقين واللاحقين لم ولا ولن يتفقوا إلّا على مبدأ "خيْر الظُلم عاجله" ولم ولا ولن يحفظوا عن ظهر قلب إلّا كلمات أغنية "قوام قوام يا عب سلام نفّذ الإعدام ف ولاد اللِئام حاكم الكلام بيجيب كلام وقُصْر الايّام أحسن ختام" .. فقد تم في 7 سبتمبر من نفس العام (أقل من شهر على قيام المظاهرات) تنفيذ الحكم بشنق المتهميْن "خميس" و"البقري" حتى الموت في قاعة الإعدام بـ"سجن الحضرة" بـ"الاسكندريّة" تحت حراسةٍ مشدّدة ولم تشفع لهما صرخاتهما: "حرام عليكم .. ح نموت واحنا مظلومين يا ظَلَمة".