خبر
أخبار ملهلبة

إخدع نفسك أولاً لتخدع الآخرين | إكذب بصدق



إخدع نفسك أولاً لتخدع الآخرين | إكذب بصدق



"قُل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً .. الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً" .. صدق الله العظيم .. أرى – والله أعلم – أن هذه الآية القرآنيّة تنطبق على السيّدة "فيفي عبده" التي تحسب أن عملها كراقصة هو عملٌ شريفٌ بالأساس وتظن أن الثروة التي جمعتها جاءت عن طرق الكد والاجتهاد والجهاد بضميرٍ وإتقان حتى بارك الله لها ورزقها الملايير (وليست الملايين فقط) .. وربما تنطبق هذه الآية على الراقصة "دينا" أيْضاً التي كانت قد صرّحت بأن الرقص نعمةٌ من الموْلى – سبحانه عمّا يصفون – ورِزقٌ رزقها الله به وسوف يحاسبها حساباً عسيراً إن لم تستغل تلك النِعمة أو تُبرِز هذا الرِزق أمام عباده تعالى .. كما قالت الراقصة "نجوى فؤاد" أن الرقص الشرقي موهبةٌ كتبها الله لها .. أمّا الراقصة "سامية جمال" فأفصحت عن أن الرقص الشرقي ليس مهنة هز أردافٍ ونهودٍ فقط بل هو موهبةٌ ربّانيّة وأن من واجبها أن تقوم بتدريس مبادئ وأصول الرقص في جميع أنحاء العالم حتى تترك من بعدها أجيالاً بعد أجيال تتقن الرقص وتحبّه بتجرّد دون انتظار العائد من ورائه .. أمّا الممثّلة "رانيا يوسف" فقد ذهبت أبعد من ذلك حين عقّبت على بروز مؤخّرتها في فساتينها الفاضحة بقوْلها أن الله – استغفر الله العظيم – أنعم عليها بتلك المؤخّرة الجميلة فوجب عليها إظهارها للناس تأسيساً على قوْله في مُحْكّم آيته "وأمّا بنعمة ربّك فحدّث" .. أعوذ بجلاله من هذا الافتئات على الله والتجديف في حقّه عز وجل.

والأمثلة كثيرة لم تسَعها ذاكرتي المحدودة القاصرة .. ولكنها تتشابه في الأسلوب والغاية .. فبخلاف الراقصات هناك اللصوص الذين يكذبون على أنفسهم ويبرّرون سرقاتهم بأنهم يأخذون حقّهم عنوةً من ذلك المجتمع الفاسد .. وتجّار المخدرات الذين يرون أنهم يستحقون ثرواتهم لأنهم يخاطرون بحريّتهم وحياتهم أثناء تهريبهم لهذه الممنوعات .. والأطباء سارقو الأعضاء البشريّة موقنون بأنهم يأخذون ما يمتلكه شخصٌ سليم لينقذوا به حياةَ شخصٍ آخر مريض .. وحُرّاس المقابر الذين ينبشون القبور ويبيعون ما بداخلها من جثث المتوفّين لطلبة الطب وهم يصدّقون أنهم بذلك يساهمون في تعليم أطباء المستقبل وهم في سبيلهم لعلاج الأعِلّاء والسُقماء .. والمرتشون الذين يخدعون أنفسهم على أساس أنهم يتعبون لتخليص مصالح الناس ولكن برسومٍ إضافيّة يستحقّونها .. والبلطجيّة الذين يوهمون ضميرهم بأنهم يأخذون حق الضعفاء من الأقوياء بقوّة ذراعهم .. والتجّار الذين يغالون في أسعار بضائعهم بحجّة أنها بضائع جيّدة وكأن البضائع الرديئة هي الأساس .. والفنّانون الذين يمارسون الفن الهابط ويبتذلون مواهبهم في الإسفاف والتهتّك والمجون وهم يخادعون أنفسهم باعتقادهم بأنهم يُسعدون الناس ..  إلخ إلخ.    

واسمحوا لي – كطبيب – أن أقوم بتحليلٍ نفسي لما ذكرته من نماذج ترتع في مجتمعنا المصري بل العربي كله تأسيساً على قوْل الحق: " يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون .. في قلوبهم مرضٌ فزادهم الله مرضاً ولهم عذابٌ أليمٌ بما كانوا يكذبون" .. صدق المولى وأوْفى.

·       لماذا يخدع الناس أنفسهم؟

يضلّل الناس أنفسهم طوال الوقت للحصول على مزايا اجتماعيّة وتحقيق أغراضٍ شخصيّة وتبرير أخطائهم أمام المجتمع الذي يعيشون فيه كي يستطيعوا أن يتكيّفوا ويتعايشوا معها تجنباً للصراع مع ضميرهم الذي يؤنّبهم بسبب هذه الأخطاء من وقتٍ لآخر فيهربون بذلك من القلق والتوتّر الذي يصاحب هذا الصراع .. فيكذب الشخص منّا على نفسه أوّل الأمر وهو غير مقتنع بهذا الكذب ومدرِك تماماً أنه كذبٌ وخداع ثم بمرور الوقت ومع تكرار نفس الكذب يصدّق تلك الأكاذيب ويعتمدها في أعماقه كحقائقٍ مُسَلَّمٍ بها .. فيعتقد أنه أكثر ذكاءً من الآخرين وأنه أرقى ذوْقاً منهم وأعظم اجتهاداً وأجَلّ أخلاقاً ولا يرتكب أخطاءً أو على الأقل يرى نفسه في تصنيفٍ أو منزلةٍ مختلفةٍ عن غيْره وأن له خصوصيّةً أكثر تميّزاً منهم .. وقد طرح عالم الأحياء الأميريكي "روبرت تريفرس" (خلال كتابته لتمهيد كتاب "الجين الأناني The Selfish Gene" لعالِم سلوك الحيوان البريطاني "ريتشارد دوكينز") تفسيراً جديداً وهدفاً أساسيّاً لخداع الشخص لنفسه ألا وهو أننا نخدع أنفسنا كي نتمكن من خداع الآخرين.

·      ما هي العوامل التي تؤثّر في خداع النفس وتحدّد درجته؟

1.    التنشئة الاجتماعيّة للمخادع وانتسابه لأي شريحة في المجتمع.

2.    طبيعة المخادع وميوله الشخصيّة مثل حُبّه وموهبته في الكذب ومستوى ثقته بنفسه ومدى قدرته على إقناع الآخرين بما يقوله من تبريرات ودرجة إبداع خياله في ابتكار الأسباب والسيناريوهات العقلانيّة لأكاذيبه .

3.    تعليم وثقافة المخادع ومقدار ما تعرّض له من قمع معرفي أو حصار ثقافي.

4.    درجة تديّن المخادع ومدى التزامه بالأخلاق.

·       ما هي الحيل والأساليب النفسيّة اللا شعوريّة التي يستخدمها الشخص لخداع النفس؟

إن خداعَ النفس عمليّةٌ نفسيّة في المقام الأوّل يقوم المخادع من خلالها ببعض الحيل والأساليب النفسيّة بهدف زيادة حبكة أكاذيبه وبعث الطمأنينة في نفسه والاحتفاظ بمقدارٍ أكبر من الثقة الزائفة في نفسه .. وإليكم بعضٌ من هذه الحيل والأساليب اللا شعوريّة .. ولمزيدٍ من الإيضاح لكل حيلةٍ من هذه الحيل سوف أضرب مثالاً لراقصةٍ من وحي الخيال (فنحن بصدد الحديث عن الراقصات الآن):

1.    تعزيز الذات والثقة بالنفس: فالمخادع يعتد بنفسه كثيراً ويبالغ في تقدير صفاته الجيّدة وينظر لنفسه نظرةً برّاقة تخلو من العيوب .. فالراقصة مثلاً تعتبر نفسها من النماذج المضيئة في الحياة فهي تُجيد وتجتهد في أداء عملها بمنتهى الكفاءة (رغم الصعاب والعراقيل والمعاناة) لأنها شخصيّةٌ دؤوبة تعمل بضمير وتراعي الله – استغفره تعالى – في لقمة عيشها ليكرمها ويزيد في رِزقها.

2.    تحفيز الذات: فالمخادع يرسم لنفسه مجموعة من الدوافع التي تشجّعه على الكذب وتجعله متحمّساً لخداع نفسه تمهيداً لخداع الآخرين .. فالراقصة مثلاً ترغب بشدّة في أن يحترمها الآخرون لترى في أعينهم نظرتا الاحترام والتقدير وهما هدفٌ ودافعٌ عظيمان يدفعانها بقوّة لإتقان الكذب وخداع النفس.

3.    أحلام اليقظة: تشكّل أحلام اليقظة الحل السحري للهروب من الواقع المرير الذي يعيشه المخادع فيسبح بعيداً في أحلامه المخمليّة التي يعتبرها حلاً سريعاً لمشاكله العويصة فهو يحقّق في أحلامه ما عجز عن عمله في واقعه .. فترى الراقصة مثلاً تحلم في يقظتها بجمعها للمال الوفير في أسرع مُدّة وتتخيّل نفسها وهي مليونيرة تمتلك عدداً من الملاهي الليليّة التي يعمل بها العشرات من الراقصات والموظّفين والعمّال الذين ينفّذون أوامرها بإشارةٍ من إصبعها وينحني لها الجميع بكل تبجيلٍ وتوقير بعد أن تصبح نجمةً يلهث وراء رضائها الجميع.

4.    الإنكار: حيث يستخدم المخادع هذه الحيلة لتكذيب حقيقته وعدم الاعتراف بها لخلق شعور زائف بالأمان .. فالراقصة مثلاً تُنكِر أن عملها معيوبٌ ومُستقبَحٌ وحقيرٌ بل ومُحَرَّمٌ أيْضاً وتحاول أن تقنع نفسها بأنه تراه فنٌّ حركيٌّ تعبيريٌّ راقٍ لا تشوبه شائبة وربما تراه إثراءً لقيم الجمال والإبداع التي تسهم في تطوّر المجتمع وتهذيبه.

5.    التبرير: يقوم المخادع بالبحث عن أعذارٍ ولَوْ واهيةٍ لأخطائه فهو يرى أنه لا يُخطئ لأنه شخصٌ ذو أخلاقٍ قويمة ولا يسعى لارتكاب الأخطاء .. فالراقصة مثلاً ترى أنها لم تسعَ لأن تعمل بمهنة الرقص سيئة السُمعة ولكنها اضطرّت إلى تلك التضحية لكي تجمع المال الكافي لتُنفق على أمها المريضة وتُربّي إخوتها بعد أن مات (أو تخلّى عنهم) رب الأسرة.

6.    إبدال العدوان: فالمخادع يُلقي باللوْم على الآخرين في الأخطاء التي ارتكبها فهو لا يُخطِئ إلّا لأسبابٍ لا ذنب له فيها بل لأسبابٍ قهريةٍ خارجةٍ عن إرادته اضطر أمامها لارتكاب تلك الأخطاء المُبَرَّرة .. فالراقصة مثلاً لم تمتهن الرقص الخليع بالملاهي الليْليّة إلّا بعد أن أجبرها زوْج أمّها على هذا العمل وأرغمها قسراً على مجالسة مرتادي هذه الملاهي لحثّهم على شراء الخمر.

7.    الإسقاط: لا يكتفي المخادع بتبرير أخطائه وإرجاع أسبابها إلى غيره فقط بل يتمادى أكثر ويرمي الآخرين بنفس التهمة (أو التهم) التي يتهمونه بها ويُسقِط عليهم ما يقولونه عنه .. فعندما يتم اتهام الراقصة مثلاً بالمجون والخلاعة وعدم التمسّك بالدين والأخلاق تدافع عن نفسها قائلةً أنها إمرأةٌ واضحةٌ وصريحةٌ وغير مصطنعة ولكنها تعيش وسط مجتمعٍ فاسدٍ ولا أخلاقي يتظاهر بالفضيلة ويتستّر تحت غطاءٍ من الدين.

8.    عدم قبول النقد: فالمخادع لا يتقبّل أي انتقادٍ أو توبيخٍ من الغير بل يهاجم مَن يؤنبه على كذبه وخداعه .. فتجد الراقصة مثلاً تهاجم من ينتقد عُرْيها وإتيانها بحركاتٍ مبتذلةٍ خارجةٍ عن حد الدين والأدب بقوْلها: "إنت مالك .. ما لكش دعوة أنا باعمل إيه .. لو مش عاجباك ما تتفرّجش عليّا .. ما حَدّش غاصبك .. وبعدين العلاقة اللي بيني وبين ربّنا علاقة خاصّة وسِريّة .. الحمد لله فيه بينّا عَمَار .. الدور والباقي عليك إنتَ .. الناس اللي زيّك مش بيفكّروا غير بنصّهم التحتاني وبس .. للأسف خلاص .. ما بقاش فيه أخلاق".

9.    تجميل الصورة: يحرص المخادع على تغيير صورته أمام نفسه وأمام الغير فيهتم كثيراً بأن يظهر كريماً عطوفاً متديّناً ورِعاً كأحسن ما يكون ليُقنع نفسه والآخرين بأنه شخصٌ مثاليٌ غير منقوص .. وتسعى الراقصة مثلاً لأن تنشر عنها الصحف ووسائل الإعلام (ولو حتى عن طريق الدعاية المدفوعة) زياراتها المتكرّرة لدور الأيتام وذوي القدرات الخاصّة وتبرّعاتها الكثيرة في أوْجُه الخيْر المختلفة واختيارها كأمٍ مثالية أو كشخصيّة العام .. ورغم أنها تعلم جيّداً أنها تعصى الله تعالى وتخالف تعاليم دينها بظهور جسدها العاري وإثارة الغرائز ونشر الرذيلة إلّا أنها تحرص على آداء شعائر دينها (كالحج والعمرة) أمام الكاميرات كلّما أُتيحت لها الفرصة ثم تعود بعد أدائها هذه المناسك الروحيّة في الأراضي المقدّسة لتخلع ملابس الإحرام الساترة وترتدي بذلة الرقص الكاشفة دون أدنى خجلٍ من الخالق أو عباده .. وهي كذلك تعلم أن ما كسبته من أموالٍ هي بالتأكيد أموالٌ حرامٌ شرعاً وعُرفاً وجاءت عن طريق المعصية والتخلّي عن الشرف ولكنها مع ذلك لا تتوانى عن الإنفاق في بناء المساجد وتوزيع المصاحف وإقامة برّادات لسُقيا الماء (ماء السبيل) وخلاف ذلك من أوْجُه الصدقات الجارية.

أخيراً: 

قال "أرسطو" أن أسوأ أنواع الخداع هو خداع النفس .. وقال "أحمد خالد توفيق" أن هناك نوعٌ فظيعٌ من خداع النفس اسمه "الشيطان جعلني أفعل كذا" .. وقال "علي بن أبي طالب" (كرّم الله وجهه) أن أكبر خداعٍ للنفس هو محاولة المرء الجمع بين الدنيا والآخرة .. ويقول "ابن أبي صادق" (العبد الفقير لله) أن خداع النفس عند العرب موهبة: تبدأ عندما يعيش الطفل الشقي دور الحمل الوديع البريء أمام والديْه وتنتهى عندما يحترف الحاكم الديكتاتور دور الملاك الرحيم العادل أمام شعبه .. ولله الأمر من قبل ومن بعد.

google-playkhamsatmostaqltradent