(24) السحر
ساد سكونٌ مُؤلِمٌ
بغيضٌ كذلك الذي يسبق العاصفة، وأخيراً قطعته "عائشةٌ" قائلةً لـ"ليو"
بصوْتٍ عذب:
- لا تخجل ياسيّدي وضيْفي .. حقّاً لقد
كان المنظر رائعاً بديعاً .. منظر اللبؤة والأسد.
فقال "ليو"
بالإنجليزيّة:
- ما هذا الهذيان؟!
فتحوّلت "عائشةٌ"
إلى "أوستين" وقالت:
- لقد فضحتكِ العلامة البيْضاء التي بين
شعركِ .. فقد أضاءت حين انعكس عليها ضوء القمر .. حسناً حسناً .. الآن تنتهي حفلة
الرقص .. انظروا .. ها قد انطفئت المشاعل وانتهى كل شيءٍ بموْقفٍ غراميٍ رائع ..
حقّاً .. لم يدُر بخلدي یا "أوستين" أنك ستعصين كلمتي ولا تغادري هذه
الديار.
فتأوَّهتْ الفتاة
التَعِسة وقالت:
- لا تسخري مني .. اقتليني إذا شِئتِ
- لا .. لا .. لا يحسن أن يذهب المرء توَّاً
من شفتيْ الحُب الحارَّتيْن إلى فم القبر البارد.
وأشارت إلى تابعيها،
فانقضّا على الفتاة وأمسكاها من ذراعيْها، فلم يحتمل "ليو" ذلك، فزأر
زئير الليْث الهصور، وانقضَّ على أقرب الرجليْن وطرحه أرضاً، ثم وقف فوْقه، وقد
تقلَّص وجهه وتهيّأ للنضال، فضحكت "عائشةٌ" وقالت:
- أحسنت یا ضیْفي .. إن ذراعيْك ما زالتا
قويَّتيْن رغم مرضك .. أتوسَّل إليك أن تُطلِق سراح الرجل ليُنَفِّذ إرادتي .. سوف
لا يؤذي الفتاة .. هلمّوا بنا إلى غُرفتي لأن من دواعي سروري أن أرحِّب هناك
بالفتاة التي اصطفيْتَها من دون النساء.
وإذ وصلنا جميعاً إلى
مقصورة "عائشة" شعرتُ بانقباضٍ شديد، وتولّاني شعورٌ غامضٌ بأنني سأشهد
فاجعةً مُحزِنة، وجلستْ "عائشةٌ" فوْق أريكتهـا، وأمرت الجميـع بالانصراف
فلم يبقَ غير خادمتها المُقرَّبة ونحن الثلاثة وقوفاً، وقالت "عائشة":
- هل لك أن تُخبِرني یا "هولي"
کیف اشتركت في تدبير ذلك المنظر الذي رأيته الليْلة؟! .. قُل الصِدق .. وحذارِ أن
تكذب.
فقلت بقلق:
- لا شأن لي بذلك .. فقد وقع الأمر صُدفةً
أيتها الملكة.
فقالت ببرود:
- إني أصدِّقك .. إذن فالذنب كله ذنب
الفتاة.
فهتف "ليو":
- وأي ذنبٍ هناك؟! .. إنها تزوَّجت بي طِبقاً
لعادات أهل هذه البلاد .. فإذا كانت الفتاة قد ارتكبت أمراً فأنا شريكها فيه .. وحَقَّ
عليَّ القصاص.
أصغت "عائشةٌ"
إلى "ليو" ببرود، ثم تحوَّلتْ إلى "أوستين" وقالت:
- هل لديكِ ما تقولينه أيتها الفتاة؟ ..
لمـاذا عصيْتِ أوامري؟
أدركت الفتاة
المسكينة ما سيصيبها على يديْ ملكتها الطاغية، ومع أنها كانت تُدرِك أنها لا
تضارعها قوّةً واقتداراً إلّا أنها أبدت من البسالة ما أثار إعجابي، إذ وقفتْ
ثابتة الجنان واستمدت من بأسها قوّة، فرفعت صدرها وقالت بصوْتٍ جهوريٍ رنّان:
- لقد خالفتُ أمركِ يا "هي" لأن
حُبّي أعمق من القبر .. وحياتي بدون هذا الرجل هي الموْت بعيْنه .. أمَا وقد عرفتُ
الآن أنني سأفقد هذه الحياة بسبب غضبكِ فإنه يسرّني أن أُلاقي الموْت بعد أن تزوَّدتُ
منه بعناقٍ وقُبلةٍ أخيريْن.
فدوَّتْ في جوانب
المقصورة صرخةٌ مُروِّعةٌ تنطوي على الغضب الشديد، وحوَّلتُ رأسي على الأثر فرأيْتُ
"عائشةً" قد انبعثتْ واقفةً ويدها مبسوطةٌ وهي تُشير إلى "أوستين"،
فلزمتْ الفتاة الصمت فجأة، وبدت عليها سيماء الخوف القاتل، فانتفخ أنفها وامتقعت
شفتاها وجحظت عيْناها، وأمّا "عائشةٌ" فقد رفعت صدرها وظلَّت باسطةً
ذراعها وجسمها ينتفض، وراحت تُحدِق في وجـه غريمتها، فلم تلبث أن رفعت "أوستين"
يدها إلى رأسها وصرخت صرخةً مُؤلِمة، ودارت على نفسها مرّتيْن ثم هوت فوق الأرض
الصخريّة جُثّةً هامدة، فأدرکتُ أن "عائشةً" قد صرعتها بقوَّتها السِحريّة.
ومكث "ليو"
لحظةً لا يُدرِك ما حدث، ولكنه لمّا تبيّن حقيقة الأمر انقلبت سِحنته ووثب نحو "عائشة"،
ولكن يبدو أنها كانت تترقَّب شيْئاً من ذلك إذ لم تلبث أن بسطتْ يدها مرّةً أُخرى
فتراجع الشاب وهو يترنَّح، ولوْ لم أبادر بإسناده لسقط فوْق الأرض.
وأخيراً قالت "عائشةٌ"
بصوْتها العذب:
- أرجو صفحك يا ضيْفي إذا كنتُ قد آلمتك
بإنفاذ عدالتي.
فصاح "ليو"
غاضباً:
- أصفح عنك أيتها الشيطانة؟! .. لا بُد أن
أدق عنقكِ إذا استطعت.
فقالت دون أن تتأثَّر
بغضبته:
- لا .. لا .. أنت تجهل كل شيء .. لقد
حان الوقت الذي أُكاشِفك فيه بالحقيقة .. إنك حبيبي "کاليكراتس" القوي
الجميل .. لقد انتظرتُك ألفيْ عامٍ یا عزیزی .. وها قد جئتَ إليَّ أخيراً .. وأمّا
هذه المرأة (وأشارت إلى جُثّة "أوستين") فقد أرادت أن تقف بيني وبينك
فكان جزاؤها الموْت.
فقال "ليو":
- هذه فِرية .. فإن اسمي ليس "كاليكراتس"
وإنما أنا "ليو فنسي" .. أمّا جدّي فهو الذي يُدعى "كاليكراتس"
أو على الأقل هذا ما أعتقده.
- آه .. هأنت قد ذكرتَ الحقيقة .. تقول أن
جدَّك "كاليكراتس" .. إذن إعلم أنك أنت هو "كاليكراتس" .. وقد
وُلِدتَ من جديد وعُدتَ إليَّ .. إنك سيّدي العزيز.
- لستُ "كاليكراتس" .. ثم إنني
أُفضِّل أن أكون سيّد شيْطانةٍ من الجحيم
على أن أكون سيّدكِ.
- أتقول ذلك يا "کاليكراتس"؟!
.. لا ریْب أنك نسيتني لطول فراقنا .. ولكن؛ ألا تراني جميلةً يا "كاليكراتس"؟
- إنني أكرهكِ أيتها القاتلة .. ولا أريد
أن أرى وجهكِ .. فماذا يهمّني من جمالكِ .. أقول إنني أكرهك.
فقالت "عائشةٌ"
بصوْتٍ رقيقٍ يَشِفُّ عن السُخرية:
- ومع ذلك فستزحف بعد هُنيْهةٍ تحت قدمي
وتُقسِم أنك تحبّني .. وسيكون ذلك أمام جُثّة الفتاة التي تُحِبّك .. انظر إليَّ
الآن يا "كاليكراتس".
ثم خلعت الوِشاح و أبرزت
قوامها الممشوق المُعتدِل وجمالها الرائع، وراحت ترنو إلى "ليـو" بعيْنيْها
الساحرتيْن . فانبسطت أسارير الشاب وهدأت ثائرته تحت تأثير نظرتها، ولم يلبث أن
تحوَّل غضبه إلى دهشةٍ ثم إلى إعجابٍ فرغبة، وكان كلّما ناضل أو قاوَم أرسلت إليه
من عيْنيْها نظراتٍ نفّـاذةٍ حتى سقط في النهاية.
وأمّا أنا فشعرتُ
بالغيرة تنهش قلبي والجنون يطيش بلُبّي، بيْد أنني تغلَّبتُ على حواسي ولا أدري
كيف، وبدأت أفكّر في نهاية تلك المأساة المروِّعة، وقال "ليو" وهو يلهث:
- يا إلهي!! .. هل أنتِ امرأة؟!
فأجابت وهي تمد نحوه
ذراعيْها العاجيّتيْن وتبتسم له ابتسامةً فاتنة:
- نعم امرأة .. وعروسك أيضاً يا "كاليكراتس".
وأنعم "ليو "النظر
إلى "هي" وأطال النظر، ولم ألبث أن رأيْتُه يقترب منها رويْداً رويْداً إلى
أن وقعت عيْناه على جُثّة "أوستين" التَعِسة فانتفض وجمد في مكانه وقال
بصوْتٍ أجش:
- كيف أستطيع؟ .. إنكِ قاتلة .. وهي تحبّني.
ولأوَّل مرَّةٍ
تغاضى "ليو" عن حُبّه لـ"أوستين"، فغمغمتْ "عائشةٌ"
في صوْتٍ شجي عذب النبرات:
- لا شيء .. لا شيء مُطلَقاً .. إذا كنتُ
قد أخطأتُ فليكُن لي من جمالي شفيعاً لديْك .. فلم يكُن خطأي إلّا بدافعٍ من حُبّي
لك .. فاصفح عن زلَّتي .. واسدل عليها سِتاراً من النسيان.
وبسطت ذراعيْها إليه
مرّةً أُخرى وهي تهمس:
- تعالَ إليَّ.
وما هي إلّا هُنيْهةٌ
حتى قُضيَ الأمر وسقط "ليو" في شِراك "عائشة" غير عابئٍ بـ"أوستين"؛
تلك الفتاة الوفيّة التي لاقت حتفها وهي تتغنّى بحُبّه، ولعَمري كان الموْقف رهيباً،
ولكن ماذا تراه کان فاعلاً والقوة التي تدفعه نحو تلك المرأة الغريبة أقوى من أن
تتغلَّب عليها أيّة قوَّةٍ بشريّة؟!
نظرتُ إليهما وقد
تلاقت شفاهما فامتلأت نفسي غيرةً وحسداً، وأحسست كأن خنجراً حادّاً قد مزّق قلبي.
وفجأة؛ انسلَّتْ "عائشةٌ"
من بين أحضان "ليو" كالحيّة، ثم انفجرتْ ضاحكةً وأشارت إلى جُثّة "أوستين"
وقالت:
- ألَم أقُل لك يا "كاليكراتس"
أنه لن تمضي هُنيْهةٌ حتى تجثو أمامی؟ .. حقّاً؛ لم يكُن لي أن أنتظر طويلاً هـذه
المرَّة.
فتأوَّه "ليو"
خجلاً وألماً بينا ضحكت "عائشةٌ" مرَّةً أُخرى، ثم أسدلتْ القِناع على
وجهها، وأشارت إلى خادمتها إشارةً ذات مغزى فغادرتْ الخادمة الغُرفة، ثم عادت بعد
لحظةٍ يتبعها رجلان أبکمان، أشارت إليهما الملكة إشارةً أُخرى فحملا جُثّة "أوستين"
التَعِسة إلى الخارج.
وقد راقب "ليو"
هذا المنظر هُنيْهةً ثم غطَّى وجهه بيديْه وشهق من أعماق صدره، وقالت "عائشةٌ"
بلهجةٍ رزينة:
- لقد زالت هذه العقبة الكؤود.
وتبدَّلت أطوارها
فجأة، فرفعت قناعها وشرعت تُغنّي أغنية الفوْز، وكانت أغنيةً
غراميّةً وصفيّةً رائعة، ولكنني مع الأسف لا أذكر شيئاً منها الآن.
وحين فرغت من غنائها
البديع وتلاشت نغمـات صوتها الرخيم لزمتْ الصمت هُنيْهة، ثم قالت:
- لعلَّك تظن أنني أخدعك يا "كاليكراتس"
حين أقول أنني عِشتُ هذه السنين الطويلة .. وأنك وُلِدتَ لي من جديد .. إني أرى
الشك في عيْنيْك .. ولكني أملك بُرهاناً قويّاً محسوساً على صِدْق قوْلي .. وسأُقدِّم
لك هـذا البُرهان في التوْ .. وكذلك أنت أيضاً يا "هولي" .. فليحمل كلٌ
منكما مصباحاً وليتبعني.
فأذعنّا دون تفكيرٍ
أو رويّة، فقد بدأتْ هذه العجائب والمعميّات تثير حيرتنا وتسلبنا الإرادة، وأزاحت "عائشةٌ"
ستاراً كان مُسدلاً فوْق أحد جُدران الغُرفة، فرأیْنا دَرْجاً هبطناه مُسرعين، ثم
انطلقنا في دهليزٍ قصيرٍ لم يلبث أن انتهى بنا إلى بابٍ أُسدِل علیه ستارٌ آخر.
وما أن وقعتْ عيْناي
على هذا الباب حتى عرفتُه في الحال، فقد كان هو الباب عيْنه الذي رأيْتُه ليْلة
تسلَّلتُ من غُرفتي وقادتني قدماي صُدفةً إليه وراقبتُ منه خِلسةً "عائشة"
وهي واقفةٌ بجانب اللهب، وانتفضتُ ولكني لُذتُ بالصمت، ونَفَذَتْ "عائشةٌ"
إلى الداخل‘ فتبعناها وقد سرَّني قُرب وقوفي على سِر القبر.