السجن للجدعان
بعد أن أنهيْت خدمتي الوطنيّة كضابطٍ بالقوات المسلحة المصرية عام 1996 عدت لاستلم عملي الأصلي بوزارة الصحة فصدر قرار تعييني بمستشفى العيون "بدمنهور" .. وبالفعل بدأت في ممارسة العمل والقيام بالنوبتجيّات اللازمة .. ومن ضمن هذه النوبتجيّات كنت مسؤولاً عن نوبتجيّة الكشف على عيون نزلاء سجن "دمنهور" العمومي كل يوم ثلاثاء من كل أسبوع .. فكنت أصل المستشفى أولاً لأوقع بحضوري ثم استقل سيّارتي إلى هناك وأمكث في عيادة العيون لأناظر المساجين الذي يشتكون من أي أعراضٍ بعيونهم.
وأذكر أن أول مسجون كشفت عليه في السجن كان رجلاً معتاد الإجرام ومسجل خطر (كان اسمه "سليمان الاحمر" على غرار "إبراهيم الابيض" ويبدو إن الإجرام له تصنيفٌ بالألوان كحزام الكاراتيه) دخل عليَّ العيادة فوجدني شاباً نحيفاً لم أتعدَ الثلاثين عاماً – مرجّع شعري لورا - حليق الذقن – أنيق الملبس – يفوح مني عطر الوان مان شو – ذو حذاءٍ لامعٍ نظيف .. أي أن بي جميع مواصفات الشاب الفرفور (على حد تفكيره) وأغلب اشتراطات الدكتور المحترم الغلبان (على حد ظنه) فحاول أن يبادر بمسك زمام اللقاء لفرض شخصيته الإجرامية على شخصٍ غريرٍ مثلي فدخل حجرة الكشف وهو يزمجر نافثاً الهواء من منخاريْه كتنينٍ مجنّح أو على الأقل كثورٍ هائج ولكز الجندي الذي كان يصحبه في جنبه وهو ينظر إليَّ نظرةً صفراء ساخرة ذات مغزى وطفق يقول بصوتٍ أجش:
- ما توعى يا دفعة كده شويّة ..
مالك متبّت فيَّ كده ليه؟ .. هو انا ح اهرب .. ولّا يمكن ح آكل الضَكطور الأوزي
ده؟
وللحق فقد كان شكله مرعباً: ضخم الجثة كالخرتيت الأفريقي – الشعر الكثيف يغطي أغلب مناطق جسمه الظاهرة كالغوريللا الجبلي – ندوب عميقة تتقاطع على وجهه كيفما اتفق - تنطبق عليه جميع بنود نظرية "لومبروزو": صغير الرأس, ذو جبهةٍ منحدرةٍ للخلف, غليظ الحاجبيْن, غائر العينيْن, أجدع الأنف, كثيف الشارب, مكتنز الشفتيْن, بارز الفك السفلي, مستدير الذقن, ذو ذراعيْن طويليْن للغاية, ... إلخ, .. وبرغم ذلك فقد تمكّنت من استجماع رباطة جأشي وتذكّرت نصيحة قادتي بالجيش عندما قالوا أن أكثر من 75% من شخصيّة الفرد يستمدها من صوته العالي (خصوصاً هنا في "مصر") فبادرته صائحاً بصوتٍ غليظٍ عال:
- إيه الدوْشة اللي انت عاملها دي يا جدع
أنت؟
فتخلّص المسجون من قبضة حارسه وسحب كرسيّاً
ووضعه أمام مكتبي وقال وهو يجلس متحدياً نظراتي الحادة نحوه:
- عايز اكشف يا باشا.
- مين سمح لك تقعد؟ .. قوم فِز يا مسجون.
ويا للدهشة فقد تراجع هذا الوحش وقام من
فوْره وخفّض من صوته وقال بنبرةٍ واهنة:
- لا مؤاخذة يا باشا .. أصلي كنت عايز
أكشف عيون.
- أنا مش باشا يا حبيبي .. لِم نفسك بدل
ما ابعترك .. (قلتها وأنا أزدرد ريقي الجاف متوجساً خيفة من رد فعل الرجل) .. مال
عينك فيها إيه؟
- واجعاني يا بــ .. يا ضَكطور .. عايز
اشيلها.
- إنت مجنون يا راجل انت؟ .. هوَّ اللي
عينه توجعه يشيلها؟ .. للدرجة دي الإجرام بقى في دمكم وهانت كل حاجة عندكم كده.
- أومّال ح اسيبها كده؟
- بس بس .. اخرس خالص .. أقعد ع السرير
ورّيني.
ففوجئت به يجلس على طرف سرير الكشف ويرفع
قدمه اليسرى في وجهي ليريني باطن قدمه القذر وأشار على موضعٍ فيه وانبرى يقول:
- أهِه يا باشا الضَكطور .. عين
بنت كلب مؤذيّة.
- هيَّ عينك نزلت في رجلك يا جدع
انت؟ .. إيه ده؟ .. دي عين سمكة!
- آه .. الله يكرمك خلّصني منها
.. دي مبهدلاني.
- هوَّ انت عشان عندك عين سمكة تكشف عيون يا راجل يا جاهل؟
- أومّال اكشف إيه؟ .. نسا
بلامؤاخذة! .. ما هي عين قدّامك أهِه.
- بس بس بلاش جهل .. خده يا عسكري على زنزانته .. أنا ح احوّل أورنيك الكشف بتاعه على عيادة الجراحة يوم الخميس.
فخرج سيادة المسجون الخرتيت وهو يبرطم ويتمتم
بكلامٍ غائم غير مفهوم ولكنني أحسست بأنه سبابٌ قذر من أسلوبه العدائي.
وعندما عدت آنذاك للمستشفى مرة أخرى لأوقع
بالإنصراف وجدت حارس بوّابة المستشفى يستقبلني قائلاً:
- حمد الله ع السلامة يا دكتور .. فيه
واحد اسمه أستاذ "سعيد الهوني" جا سأل على حضرتك لمّا كنت في السجن.
- أيوه .. ده جاري وبقى له زمان مسافر
"ليبيا".
- ما هو قال لي إنه سأل عليك في البيت
لحاجة ضروري فالجماعة بتوعك إدوا له عنوان الشغل هنا.
- أصل حارس العمارة اللي انا ساكن فيها
قال لي إنه عايز يبيع شقته اللي جنبي بسعر رخيص قوي قلت له خليه يعدي عليَّ وانا
شاري.
- ربنا يوسّع عليك يا دكتور.
- واللهِ يا "محروس" لو خدت
الشقة دي ح تبقى لك حلاوة كبيرة.
- يا مُسهّل.
وعدت من فوري للمنزل للبحث عن الرجل لأتمّم
الصفقة الرابحة فوجدت حارس عمارتي يجلس على الدِكّة الخارجيّة كعادته وعندما ألقيت
عليه السلام فوجئت به ينظر لي شزراً وشفقةً في ذات الحين وقال بصوتٍ مرتعش:
- حمد الله ع السلامة يا دكتور ..
كفّارة .. طلعت م السجن إمتى؟
- نعم يا خويا؟
- واللهِ ما اعرف غير ده الوقت
لمّا رجعت .. ما انت عارف إني بقى لي أسبوعين قاعد ف البلد.
- إنت بتخرّف بتقول إيه؟ .. باقول
لك إيه أنا مش فاضي لك .. عايز اطلع للأستاذ "سعيد" علشان نخلّص في
موضوع الشقة بتاعته.
- ما هو الأستاذ "سعيد"
راح لك المستشفى وقالوا له على كل حاجة.
- قالوا له على إيه إن شاء الله؟
- فيه ممرضة هناك قالت له إنك في
السجن .. ولمّا حب يتأكّد من فرد أمن المستشفى قال له برضه إن سيادتك في السجن ..
ولمّا سأله الكلام ده من إمتى قال له إن النهار ده أوّل يوم لك هناك .. خير؟ ..
حضرتك عملت إيه؟
- أيوه يا غبي النهار ده أوّل يوم
شغل ليَّ في مستشفى السجن .. وهوَّ فين الأستاذ "سعيد" ده الوقت؟
- لسّه واخد باقي عفشه ومسافر
"ليبيا" .. أصله خاف من سيادتك وقال إنه راجل محترم وما ينفعش يتعامل مع
رد سجون أمثال حضرتك.
- ولازمتها إيه "حضرتك"
دي بقى! ..المهم الشقة؟
- باعها للمعلم "صميدة"
الفكهاني اللي عد له الفلوس وقتي وهوَّ واقف واداني كمان قهوتي .. راجل كسّيب
ومحترم .. ما فيهوش بس غير عيب واحد.
- لا حول ولا قوّة إلا بالله ..
خسارة .. وإيه هوَّ العيب ده يا ابو العريف؟
- راجل سييح لا مؤاخذة .. زمان
أهل المنطقة كلهم عرفوا إنك كنت في السجن.