نكسجي وافتخر
في أوائل كل عام تهل علينا ذكرى ثورة يناير (التي يسميها محبّو الاستقرار نكسة يناير) .. كل عام وأنتم جميعاً - مؤيّدون ومعارضون لها - بخير .. تلك الثورة التي انصهرت فيها كل طوائف الشعب ربما لأوّل وآخر مرّة في تاريخ مصر المعاصر .. فعندما شاركتُ في بعض المرات القليلة بمظاهرات ساحة القائد إبراهيم وميدان التحرير مع زوجتي وابنتي وابني ومرتين فقط في المستشفى الميداني وحدي فوجئت بمدى الترابط والتلاحم بين المسيحيين والمسلمين والأطباء والمهندسين والمعلّمين والمحامين والمحاسبين والعمال والفلاحين وحتى أفراد الشرطة والجيش .. الجميع لُحمة واحدة .. كانت أيّاماً خالدة لا يقدّرها إلا مَن عاشها .. أيّاماً مرّت علينا كالحلم الجميل .. ما زلت أشتم رائحة عبقها المليء بالدخان والبارود والدموع والعرق والدم.
وعندما تغيّر نظام الحكم من نظام
قمعي ديكتاتوري عسكري إلى نظام حر ديمقراطي مدني وجرت انتخابات حرة نزيهة
بالفعل كان ينتظرنا الطمع في السلطة من جانب الإخوان ومن جانب الأفراد المستقلّين في
الانفراد بالرئاسة (لو تذكرون رفض العوّا وأبو الفتوح وحمدين والحريري وخالد علي
والبسطويسي الائتلاف في مجلس رئاسي واحد يسيّر حكم البلاد بالشورى وفضّل كل منهم
الترشح منفرداً فتقتتت الأصوات) ممّا جعل الشعب مكرهاً في النهاية على الاختيار بين
شفيق ومرسي .. واضطر عاصروا الليمون لاختيار الأقل سوءاً أو الأصغر ضرراً أو أحسن
الوِحشين.
وعندما جاء الإخوان لم يفوزوا بالانتخابات الحرة في الرئاسة فقط بل في مجلس النوّاب ومجلس الشورى والمجالس المحلية والنقابات المهنية ومجالس إدارات الشركات أيضاً .. وذلك لأن الشعب كان متعطشاً للتغيير ونكايةً في الوجوه القديمة التي ساعدت مبارك في الحكم .. ولكن للأسف فبرغم أن الإخوان امتلكوا كل مقاليد الأمور في أيديهم وكان باستطاعتهم التغيير للأفضل في كل شيء إلا أنهم اهتموا بجماعتهم أكثر مما اهتموا بصالح الوطن وأصابتهم النرجسية والكِبْر في كل تصرفاتهم وتنكّروا لشركائهم في الثورة وعزلوهم تماماً عن المشاركة في حكم البلاد وانهمكوا في نشر أتباعهم في جميع مفاصل الدولة دون خبرة كما تركوا المفسدين في أماكنهم دون أن يتخذوا معهم أي إجراءات رادعة .. وعندما اضطروا ليستعينوا بمَن هو ليس تابعاً لهم ذراً للرماد في عيون معارضيهم اختاروا أناساً بناءً على المظاهر وإبداء الولاء دون موضوعية أو أحقية .. بالإضافة إلى فشلهم عملياً في حل بعض المشاكل الجماهيرية كالأمن والغذاء والكهرباء وقد ساهم في ذلك الفشل عناصر الدولة العميقة المناهضة لثورة يناير والتي جعلت الحياة جحيماً لأفراد الشعب حتى يشعروا بالتدنّي في أحوالهم ليقعوا في فخ الحنين لعهد مبارك بجانب مساعدة الإعلام المتآمر الذي حرّض الناس ضد الثورة وجعلها سبباً لكل مصائب البلد .. وبالفعل تحقق لهم ما أرادوا فقد انتفض الشعب في 30 يونيو عندما شعر بخطر الإخوان الذين استنسخوا نفس أسلوب مَن سبقوهم ولعبهم بالقوانين لصالحهم كما حدث في الإعلان الدستوري لمرسي .. ولم يصبر الشعب أكثر من عام خوفاً من تمكّن الإخوان من السلطة واستحالة خلعهم أو تنازلهم عنها خصوصاً وقد ظهر مدى تمسّكهم بالرئاسة عندما رفض محمد مرسي الدعوة إلى انتخابات مبكرة والتصق بالشرعية التي جائت به ضارباً عرض الحائط بسخط أغلبية الشعب التي انقلبت عليه .. ولو كان دعا لانتخابات مبكرة لَتأكّد الشعب من زهد الإخوان في السلطة ولَمَا خسروا كل ما اكتسبوه بعد الثورة ولَمَا أعطوا العسكر الفرصة للتنكيل به وبجماعته ولَمَا انتكست الثورة.
وأسوأ نتيجةً انتهت بها الثوْرة هي أن الشباب
صار ساخطاً على أحوال البلد وأصابه اليأس وفقد الانتماء وأصبح يحلم بالهجرة من هذا
الوطن المنكوب .. بجانب المحاولات المستميتة من الجهات الرسمية لتغييبه بالمخدرات
والتعصب الكروي والأغاني المبتذلة والفن الهابط والإباحية الجنسية والتعليم القاصر
والإعلام العميل .. ولم ينجو سوى قلّة قليلة من الشباب الواعي الوطني.
باختصار .. كانت25 يناير ثورة شعبيّة بمعنى الكلمة (وليست مجرد حركة أو انتفاضة) ولكنه تم إفشالها وتفشيلها (ولم تولد فاشلة لأنها نجحت أول الأمر في إسقاط نظام حكم البلاد آنذاك) .. ولكنها فشلت بالفعل حين تكالب عليها الجميع محاولين اقتطاع ما استطاعوا منها عندما استغلها الإخوان المسلمون والسلفيون والسياسيون ورجال الأعمال وعاشقو النفوذ والشهرة بل والعسكر أيضاً .. كلٌ لتحقيق مآربه وأطماعه في صدارة المشهد السياسي والقبض على السلطة دون مراعاةٍ لمصلحة البلاد فضاعت تضحيات شهداء ومصابي الثورة وانقسم الشعب على نفسه وضد بعضه بعضاً ووصلنا إلى ما نحن فيه الآن .. وقَدَرُنا أن نستكمل حياتنا وننهيها كما فعل آباؤنا دونما نرى أي بارقة أملٍ في استعادة أمجادنا التي توقّفت منذ آلاف السنين .. وكل ثورة وانت طيّب يا شعب يا طيّب.