تحقيق (5)
وكان عاكفاً على عمله بالإدارة عندما طرق
أذنيْه صوْتٌ وهو يسأل قائلاً:
-
أين السِت "لُطفيّة"؟
رفع رأسه بقوّةٍ وفزع فرأى أمامه الشاب
المجهول الذي اقتحم الإدارة غداة ليْلة الجريمة. وأحدث ظهوره المفاجئ دهشةً عامةً
أما سؤاله فأذهلهم، وتكهرب "عمرو" من الرأس إلى القدم، ها هو الشيْطان
الخفي، حتى الحذاء لم يغيّره، أين كان؟، ولماذا جاء؟، وماذا یعني بسؤاله؟، وفي لحظاتٍ أغلق عم "سلیمان"
باب الحجرة ووقف وراءه متحفزاً، أمّا الرئيس فسأل القادم:
-
مَن أنت؟
فتجاهل سؤاله وعاد يسأل:
-
أين السِت "لُطفيّة"؟
-
ولِمَ تسأل عنها؟
-
ذاك أمرُ يعنيها
وحدها.
-
ولكن مَن أنت؟
فأجاب بحياء:
-
لا أهمية لذلك.
-
أَلَمْ تسمع بما وقع للسِت "لُطفيّة"؟
-
خيرٌ إن شاء الله!
-
لِمَ لَمْ تزُرها في
بيْتها؟
-
لا علم لي بمكانه.
-
أَلَمْ تعرف بأنها قُتِلَت
منذ عشرة أيام؟
فارتسم الذهول في وجهه وتمتم:
-
قتلت؟!
-
أَلَمْ تقرأ الصُحُف؟
-
أنا لا أقرأ الصُحُف؟
-
على أي حال فالمحقّق
يرغب في مقابلتك.
-
أنا؟ .. لماذا؟
-
طبيعي أن يرغب في
استجواب جميع مَن كانت لهم علاقة بالفقيدة.
صمت الرجل مليّاً حتى أفاق بعض الشيء مِن وَقْع
الخبر ثم قال بهدوء:
-
إني على تمام
الاستعداد للقائه .
*****
ها هو ذا الشبح، ها هو الحلم، جاء يسعى على
حذائه الأبيض، أي قَتْلٍ وأي مناورةٍ يلعب بها؟، وقد استُدعي عم "سليمان"
للمواجهة، وعن عم "سلیمان" علمت الإدارة بأنباء الرجل، علمت بأنه يُدعى "محمود
الغر" وأنه سوّاق تاكسي، وقد تعاقدت الفقيدة معه – قبل زواجها بعام – لاستغلال
تاکسي تملكه، وحرصت من بادئ الأمر على سريّة الموضوع لكوْنها موظّفةً من ناحية
ولأنها أخفت صفقة التاكسي عن أهلها حتى لا تسأل عن مصدر المال الذي ابتاعته به،
فكانت تَلقى السائق في الجراج، وظلَّ الرجل على جهله بمسكنها ولكنها دلّته على مكان
عملها ليهتدي إليها في الطوارئ، ولَمّا وقع الطارئ ذهب للقائها في الإدارة صباح ليْلة
الجريمة، فلَمّا لم يجدها اضطر للتصرّف بمفرده فسافر بأسرةٍ عربيّةٍ إلى "الإسكندريّة"
ولبث في خدمتها هناك حوالي الأسبوع أو أكثر، وانتظرها في ميعاد اللقاء المعتاد
ولكنها لم تحضر فذهب إلى الإدارة مرة أخرى لمقابلتها، وتم التحقّق من أقواله واختُبِرَت
بصماته ثم أُفرِج عنه.
دار رأس "عمرو" .. ها هي الأمور
تتعقّد كما لم تدُر له في حسبان، وها هو ينحدر في تيه، وشَد ما ندم على كتابة
رسالته المذهلة، ولكن واقعة التاكسي حقيقةٌ لا شك فيها، "إني أحتقر تصرّفاتك؟"
.. وكيف استجابت؟ .. قالت برزانةٍ مرعبة:
-
لیکن رأيك ما يكون
ولكنك تحبني.
فقال بحنق:
-
تبيعين نفسكِ لوَحْشٍ
بسیّارة!
-
ولكنّك تحبني؟
فصمت صمتاً ذا مغزى لا يخفى، فضحكت وقالت:
-
لا تغتم بتصرّفاتي
ولا بزواجي نفسه ما دام قلبي لك وحدك.
وقال لنفسه بأنه قضى على قلبه بأنه ينقسم إلى
قسمين، تلك العذابات الجهنّمية، التي لم تُقتَلَع من وجدانه تماماً حتى وهما
يذوبان في ضوْء الأباجورة الأحمر، واستقر حذاءٌ أبيض ذو سطح بُنّي على السجّادة
بين الصوان والخوان الحامل للزجاجة والعلبة، وتموّجت تهاويل غشاء الجدران الورقی،
وتفشّت في الجوْ هينماتٌ (أصواتٌ خفيّة) مُنسالةٌ مِن کوْنٍ مجهول، وتخطّت الذروة
عندما راحت تغازل يديْه بنشوَةٍ جنونيّةٍ وتقول له بدلال "اخنقني".
*****
ودخلت "أم سمعة" الشُرفة وهو وحيدٌ
يستجدي نسمةً من ليْل الصيف وقالت له:
-
ضيوف على الباب.
فسألها:
-
تعرفينهم؟
-
کلا .. قالوا "افتحى"
فجئت لأخبرك.
فتح شُرّاعة الباب فرأى وجهاً لم يره من قبل
فغاص قلبه، فتح الباب مستسلماً فدخل الرجل وتبعه ثلاثة، اندفع الثلاثة يفتّشون
وقال له الرجل:
-
معذرةً .. تفتيشٌ
لابد منه .. هاك أمر النيابة.
فسأله بصوْتٍ ضعيف:
-
عمَّ تفتّشون؟
-
آلةٌ كاتبة.
وجيء بالآلة فتفحّصها الضابط وقال:
-
هي التي كُتِبَت
عليها الرسالة.
وبسط أمام عيْنيْه الرسالة التي تطوّع
بإرسالها وسأله:
-
رسالتك؟
فقال يائساً :
-
لا عِلْم لي بشيءٍ
ممّا تتحدّث عنه.
-
متی اشتريْتَ هذه
الآلة؟
-
اشتريْتُها ولم
أسرقها ولست مُطالَباً بتفسير سلوکی.
-
ستُعرَض أنت على عُمّال
المحلّيْن اللذيْن اشتريْت منهما زجاجة الكونياك وعلبة الشيكولاته .. فهل أنت مُصِرٌ
على الإنكار؟ .. ولِمَ تُصِر على الإنكار ما دمت بريئاً؟
وفي سيّارة الشرطة سأل "عمرو"
الضابط عمّا جعله يشك في أمره فيفتّش مسکنه ولكن الرجل ابتسم ولم يجب، وفطن "عمرو"
إلى الخطأ الذي ارتكبه بإرسال الرسالة، فإن كتابتها على الآلة الكاتبة تشي بخوْف
کاتبها من الاهتداء إليْه بمعرفة خطّه، مما يرجّح معه أن خطّه غير بعيدٍ عن متناول
التحقيق، وما يثير – بالتالي – الشبهات حوْل المتّصلين بالفقيدة ومن بينهم زملاؤها
في الإدارة، هكذا استوْجب خطؤه تفتيش مسكنه – ضمن مساكن الآخرين – وهكذا تم العثور
على الآلة الكاتبة، وعُرِف صاحب الرسالة والزجاجة والعلبة.
وقال :
-
ولکنی بریء وكل كلمة
في الرسالة صادقة.
فقال الضابط ببرود:
-
علمنا من بادئ الأمر
بعلاقتك بالقتيلة.
فاعترضت مخيّلته
الممزّقة صورة عم "سليمان" ولكنه قال:
-
اعترفت بذلك في
الرسالة ولکنی بریء.
فقال الضابط بغموض:
-
وأعجبني خيالك!
فقال دون أن يتمعّن معنى قوْله:
-
وأطلقتم المجرم
الحقيقي؟
-
جميع من اشتبهت بهم
أبرياء.
فتساءل بإنكار:
-
فمن القاتل إذن؟
فأجاب الرجل بهدوءٍ وثقة:
-
لم يبقَ إلّا أنت!