أمثال صعيدية عبقرية مهجورة | خلاصة الحكمة والخبرة

(19) حُكم "عائشة"

 

 

أفقتُ من نوْمي في صباح اليوْم التالي وأنا مُهدَّم الأعصاب بادي التعب، فألفيْت "جوب" يُزيل الأتربة التي علقت بثيابي في الليْلة الماضية، وقد سألته عن صحة "ليو" فأنبأني أنها ساءت كثيراً، وعندئذٍ أسرعت بارتداء ثيابي وانطلقت لأراه.

واستفسرت من "أوستين" عن حال الشاب فلم تُجِب، وإنما هزَّت رأسها في أسى وأخذت تبكي، كانت آمالها في نجاته ضعيفةً ولا ريْب، فحزمت أمري على الالتجاء إلى "هي" لتُنقِذه من مخالب الموْت كما وَعَدَتْ.

وفيما كنت أتحدَّث إلى "أوستين" جاء "بلالٌ" ليدعوني إلى مشاهدة محاكمة المُذنِبين الذين حاولوا قتلنا، فحاولت أن أعتذر ولكنه قال أن ذلك أمر "هي" التي يجب أن تُطاع، فسِرتُ في أثره حتى وصلنا إلى كهفٍ كبيرٍ في صدره منصَّةٌ صخريّةٌ مرتفعةٌ فوْقها مقعدٌ خشنٌ من الخشب الأسود مُطعَّم بالعاج وتحته مقعدٌ صغيرٌ خشبيٌ لوضع الأقدام، وكان أمام المنصَّة عددٌ كبيرٌ من الرجال والنساء.

وفجأة؛ سمعت أصواتاً تقول:

-       "هي" .. "هي".

فانبطح الحاضرون على الأرض وجمدوا في أماكنهم، وأقبل الحُرّاس من ممرٍّ على اليسار واصطفّوا على جانبيْ المنصّة، وجاء في أثرهم نحو عشرين من الرجال البُكم يتبعهم عددٌ كبيرٌ من النساء البكماوات يحملن المصابيح، وفي المؤخِّرة سارت "هي" بقامتها الفارعة وثوْبها الأبيض الناصع.

صعدت "عائشة" المنصّة ثم جلست على المقعـد وبادلتني حديثاً قصيراً عن حالي وكيف قضيْتُ الليلة الماضية، وأخيراً تحوَّلت إلى قائد الحرس وأمرته بإحضار الـمُـتَّـهَمين، وما هي إلّا هُنيْهةٌ حتى أقبل عددٌ من الحُـرّاس وهم يقودونهم أمامهم، وكان عددهم حوالي العشرين.

وكانت دلائل الرُعب المستحوذ على قلوبهم الصخريّة باديةً في نظراتهم المُشَرَّدة، واصطفَّ المتهمون أمام المنصّة وتهيّأوا للانبطاح فوق الأرض ولكن "عائشةً" منعتهم من ذلك، وقالت بصوْتها الشجي الرقيق:

-       لا .. قِفوا حيث أنتم .. رُبَّما يحين سريعاً ذلك الوقت الذي تملّون فيه الرقاد.

وضحكت ضحكةً رقيقةً مُصطَنَعة، أمّا المجرمون فقد بدت على وجوههم علامات اليأس والجزع، واستعرضت "عائشةٌ" وجوه المتهمين ثم سألتني برزانةٍ وهدوء:

-       هل تعرف هؤلاء الرجال يا ضيفي؟

فقُلتُ وهم ينظرون إليَّ شزراً:

-       نعم أيتها الملكة.

فقالت بحزم:

-       إذن .. قُص علينا ما حدث.

فأذعنت كارهاً إذ بدأتْ تأخذني الشفقة على هؤلاء البؤساء، فلما فرغت من سرد قصتي قالت هي بصوتٍ هادئٍ جهوريٍ يختلف عن صوْتها العادي:

-       ها أنتم قد سمعتم .. فماذا تقولون أيّهـا الثائرون الهمج؟ .. ألا تستحقّون الانتقام؟  

فبرز من بين المتهمين رجلٌ مُتوسِّط القامة وحاول أن يُـبَـرِّر فِعلتهم، ثم ناشدها الرحمة، ولكنها هزَّت رأسها نفياً، ونطقت بالحُكم الرهيب فقالت :

-       ستؤخذون إلى كهف العذاب وتُسَلَّمون إلى المُعذِّبين .. وعند غروب شمس الغد يُقتَل الذين يبقون منكم على قيْد الحياة كما كنتم تريدون قتل خادم ضيوفي.

وكَفَّت "عائشةٌ" عن الكلام فسرت في المكان تمتمةٌ خافتة، وأمّا المذنبون فخارت قواهم وانبطحوا على وجوههم وراحوا يستعطفون "هي" وهم ينتحبون، وكان جوابها عليهم أن أشارت إلى قائد الحرس وقالت له:

-       نَفِّذْ إرادتي.

 

 

(يتبع)