الحديد بُلي واحنا لم بُلينا
طوال أربع ساعاتٍ
شاقّة أنهك العمّال أنفسهم في نصب شاشةٍ ضخمة وإقامة خشبةٍ للمسرح من أجل إقامة
مؤتمر انتخابي للدعاية لأحد المرشّحين في انتخابات مجلس الشعب .. ورغم متانة الأعمدة
الحديديّة التي تحمل الشاشة وصلابة العوارض السميكة المقام فوقها المسرح إلّا أنها
جميعاً لم تحتمل سوى دقيقةً واحدةً من الكذب المركّز الذي صدر من مقدّمة المؤتمر
والتي أخذت تعدّد في المزايا العظيمة والسجايا القويمة والعطايا الكريمة لمعاليه فانهارت فجأة وكأنها تعترض على هذا
الكذب البيّن والإفك السافر والتزوير الصارخ.
حينها تعجّبتُ للغاية
وسألتُ نفسي: إذا كان الحديد نفسه لم يحتمل ثوانٍ معدودة من تلك الأكاذيب السياسيّة
والوعود السرابيّة لفردٍ واحدٍ فقط من المنتمين للنخبة السياسيّة في البلاد فما
بال المواطن المصري المخلوق من لحمٍ ودم الذي تجلّد واصطبر وظل واقفاً على قدميْه
دون أن يتداعى أو يسقط منهاراً أمام عقودٍ وعهودٍ طويلة من الكذب السياسي والنفاق
الإعلامي والغش الحكومي والتدليس الرسمي الذي توالى عليه من غالبيّة السياسيين والمسؤولين
والحكّام؟ .. وتذكّرت قوْل "عنترة بن شدّاد":
خُلِقتُ مِنَ الحَديدِ أَشَدَّ قَلباً وَقَد بَلِيَ الحَديدُ وَما
بَليتُ
وهو بيْت الشعر الذي
اقتبسه "شكوكو" فقال بالعاميّة المصريّة الدارجة: "الحديد بُلي
واحنا لم بُلينا".
واسمحوا لي أن أسرد
عليكم بعضاً من العبارات التي قمت بصياغتها بنفسي بناءً على خبرتي الطويلة –
كمواطنٍ مصريٍ منفوخ تحوَّل بقدرة قادر إلى حكيمٍ مُحنّكٍ مفقوع – مع الأكاذيب
والضلالات التي تجرّعتُها من هذه النُخَب السياسيّة المتعاقبة منذ نعومة أظافري في الطفولة وحتى
خشونة مخالبي في الكهولة:
· الكذب في بلادنا ليس استثناءً لكنه من فرط تكراره أصبح قاعدة.
·
تربيْنا ونحن صغار
على أن مَن يكذب يدخل النار .. وعندما كبرنا اكتشفنا أن مَن يكذب يدخل مجلس الشعب.
·
الكذب مهارةٌ تتعلّمها صغيراً .. ومع الوقت والممارسة تتقنها فتصير وزيراً.
·
لا تُحصي كم من
المرّات كذب القادة والزعماء السياسيّون فالأسهل عليك أن تُحصي عدد المرّات التي
صَدَقوا فيها.
·
في الأمم التي
تتقدّم يزيد الكذب في شهر أبريل .. وفي الأمم التي تظل في مكانها يزيد الكذب في
شهر الانتخابات .. أمّا الأمم التي تتأخّر فالكذب يأخذ منحنى الزيادة طوال العام.
·
الزعيم الحقيقي هو
الذي لا يدرك أنه كذّاب لأنه دائماً يكذب بصدق.
·
كلنا نعرف أن الكذب
ولو مرّة يكون وراء إفطار الصائم .. وأن الكذب المستمر يكون وراء إفطار وغداء
وعشاء السياسي.
·
الشخص العادي هو
الذي يُرغَم على الكذب لسببٍ ما .. ولكن رجل الدوْلة هو الذي يتطوّع دائماً بالكذب
حتى بدون أسباب.
·
يؤمن الحاكم إيماناً
راسخاً بأن الكذب لا يُخفي الحقيقة بل يؤجّل كشفها لحين انتهاء حُكْمه.
·
في بلادنا العربيّة
السعيدة المجيدة ذات الحضارات التليدة: لا تُصدِّق الشعوب حاكمها إلّا حين يكذب
عليها.
· عندما ترى شخصاً يتحلّى بالصمت (حتى ولو كان صادقاً) تبدأ بالشك تجاهه وتفكّر فيما وراء صمته .. ولكن هذا الشخص عندما يتكلّم كثيراً (حتى ولو كان كاذباً) فإنه لا يترك لك فرصةً لترتاب فيما يقول ولا يمنحك الوقت لكي تفتّش وراءه .. ولهذا لا يتوقّف القادة والمسؤولون عن إصدار الوعود والتصريحات باستمرار دون توقّف.
· إذا كان حبل الكذب قصيراً .. فإن الحاكم عندنا يحرص على الكذب ليجعل عمره فوق كرسي الحُكْم طويلاً.
· عندما يخرج المواطن ثائراً ويواجه الحاكم بأكاذيبه فإن الحاكم يضحك على المواطن ويتصنّع حسن النيّة ويقول واصفاً هذه الأكاذيب: "بيضاء" .. وبمجرّد أن يسامحه المواطن ويطالبه بالصدق ثم يستدير عائداً لمنزله فإن الحاكم يزهو بخبثه ويرد على مطالب المواطن قائلاً: "حمراء".