(22) اذهبي يا امرأة
ساد السكون بيننا هُنيْهة، وكانت دلائل
السعادة ترتسم على وجه "عائشة"، بيْد أنها لم تلبث أن رفعت رأسها فجأة،
وتلاشت من وجهها تلك الدلائل، وحلَّت محلَّها علامات القسوة والجمود، ثم قالت:
-
لقد كِدتُ أنسى تلك
المرأة "أوستين" .. فما علاقتها بـ"كاليكراتس"؟ .. أهي خادمةٌ
أم ....؟
وكفَّتْ عن الكلام وقد اضطربت نبرات صوْتها،
فهززت كتفيَّ وقلت:
-
إن ما أعلمه هو أنها
تزوَّجت به جرياً على عادات "أُمّة حجر".
تقلَّصت سحنتها وبدا عليها الغضب، ثم قالت:
-
إذن فقد قُضيَ الأمر
.. يجب أن تموت .. وأن تموت في التوْ.
فذُعِرتُ وسألتُها:
-
بأيّة جريرة؟! .. إنها
لم تقترف جُرماً لم تقترفيه أنتِ يا "عائشة" .. إنها تُحب الرجل .. وقد
سرَّه أن يفتح لها مغاليق قلبه .. فما هي زِلَّتها؟
فهتفت بحِدَّة:
-
ما أحمقك يا "هولي"
.. تقول ما هي زِلَّتها؟! .. يكفي أنها تقف حائلاً بيني وبين مَن أُحب .. إنني
واثقةٌ من أن في وسعي أن آخذه منها .. هل تحسب أن رجلاً في الدنيا يمكنه مقاومتي إذا
أطلقت قوَّتي من عِقالها؟! .. لقـد قُلت
أن هذه المرأة ستموت .. فإني أخشى إذا تركتها على قيْد الحياة أن تستميل قلبه ..
وذلك ما لا أحتمله قط .. ستموت هذه
المرأة .. هذا لا شك فيه.
وقد نطقتْ بالعبارة
الأخيرة في لهجةٍ تَشِـف عن العزم، فصِحتُ قائلاً:
-
کلّا .. كلّا .. هذا جُرمٌ أي جُرمٍ يا "عائشة" .. إن الإنسان لا
يجني من الشر غير الشر .. فخيْرٌ لك أن تُمسِكي عن فعله.
فتطاير شرر الغضب من
عيْنيْها، وهتفت:
-
أمن الشر أيها الأحمق أن يُزيلَ الإنسان العقبات التي تعترض سبيله إلى
تحقيق أمانيه؟! .. إذن فإن حياتنا سلسلةٌ مُتَّصِلةٌ من الجرائم .. لأننا نُحطِّم أشياءً
كثيرةً في كل يوْمٍ كي نعيش .. والحياة للأقوى دائماً .. أمّا الضعيف فمصيره إلى
الانحلال والهلاك .. إنك تقول أن الشر يُولَّد الجريمة .. وهُنا تتجلَّى حاجتك إلى
الخبرة والمعرفة .. فطالما تولَّد الخيْر من الشر والعكس بالعكس .. وقد يكون غضب
الطاغية نعمةً على عددٍ كبيرٍ من الناس ممَّن يأتون بعده .. كما يُحتَمَل أن تجر
طيبة قلب رجلٍ الاستعباد على قوْمه .. والإنسان مُسيَّر في هـذه الحياة وليس بـمُـخَـيَّر
.. فيد القدر هي التي تدفعه إلى إتيان هذا أو ذاك .. وللظروف حُكمها في تكييف تلك
الأعمال .. إن الأضداد جميعاً كالخيْر والشر والحب والكراهية .. فقد تقترن في كثيرٍ
من الأحيان .. وقد لا ينفع أحدهمـا بدون الآخر يا "هولي" .. فلا يجب إذن
أن نقول أن هذا أحسن وذاك ردىء أو أن الظُلمة مكروهـةٌ والنـور مُبهِجٌ للنفس
مادامت هناك أعين ترى الخيْر شرّاً والظُلمة أبهج من النور .. فهل اقتنعت یا "هولي"؟
أدركت أنه من العبث
مناقشة هذه المرأة التي لو طُبِّـقَت آراؤها لقضت على جميع المبادىء المُتَّبعة المعروفة، بيْد أن
حديثها أرسل الذُعر إلى قلبي، ولكنه لم يُثنني عن رغبتي في إنقاذ "أوستين"
من الكارثة التي تُهدِّدها على يد منافستها الطاغية، فقُلتُ مُتَوَسِّلاً:
-
أليس في قلبكِ شيءٌ من الرحمة نحو هـذه المخلوقة التي ستستوْلين على مكانها؟!
.. فكِّري قليلاً يا "عائشة" .. إنكِ - كما تقولين - قد حظيتِ بالذي قضيْتِ
أجيالاً طويلةً في انتظاره .. فهل تُريدين أن تحتفلي بعوْدته إليـكِ بقتل فتاةٍ تُحبّه
ومن المحتمل أنه هو أيضاً يُحبّها؟! .. فتاةٌ قد أنقذت حياته لكِ عندما كانت رماح
عبيدكِ تُصوَّب إلى قلبه؟! .. لقد قُلتِ أنكِ اقترفتِ خطأً عظيماً في حق هذا الرجل
في الأيّام الأولى للقائكما .. لإنكِ قتلتِ بيدكِ بسبب "أمنارتس" المصريّة
التي كان يُحبّها.
فقبضتْ على ذراعي بعُنفٍ
وصاحت:
-
من أين لك عِلم ذلك أيها الغريب؟ .. كيف عرفت هذا الاسم؟ .. فأنا لم أذكره
لك.
فأجبت:
-
ربما حلمت به .. فإن الأحلام الغريبة تحوم حـوْل كهوف "خور" .. يُخيَّل
إليَّ أن الحُلم كان حقيقيّاً .. ماذا جنيْتِ جزاء جريمتكِ التي تنطوي على الجنون؟
.. انتظار ألفيْ عام؛ أليس كذلك؟ .. فهل تُريدين الآن أن تُعيدي الكَرَّة؟ .. إنك
لن تجني غير الشر .. لأن الخيْر في بَذْر الخير ولا يجني الشر غير الشر .. والويْل
لمَن يقترف الآثام .. فإذا قتلتِ هذه الفتاة البريئة فستحِل عليكِ اللعنة .. ولن
تجني من حُبّك إلّا عذاب الذِكري وتأنيب الضمير .. ثم كيف يدور بخلدك أن هذا الرجل
سيقبلكِ ويدكِ مُلطَّخةٌ بدماء المرأة التي أحبّته وتفانت في خدمته؟
-
لقد أجبتك على ذلك .. فسواءٌ قتلتك أو قتلتها فلا بُد له أن يُحبَّني يا "هولي"
.. ولن يحول شيءٌ دون تحقيق هذه الأُمنية .. ومع ذلك قد يكون فيمـا قُلتَ شيءٌ من
الصِحّة .. ولذا فسأعفو عن الفتاة .. أنا لستُ قاسيةً لمجرَّد حُبّي للقسوة .. كما
أنني لا أريد أن أُسبِّب لأحدٍ شيئاً من الآلام .. نادِها قبل أن أعدل عن رأيي.
وغطَّت "عائشةٌ"
وجهها بيديْها، فأسرعتُ إلى الدهليز وأنا جذلٌ بنجاحي وناديْتُ "أوستين"،
فـخـفَّـتْ إليَّ وسألتني بلهفةٍ شديدة:
-
هل مات سيّدي؟ .. آه .. قُل أنه لم يمُت.
وأطلقت صرخةً داوية،
ثم رفعت إليَّ وجهها الجميل وقد ابتلَّ بالدموع، فشعرتُ بالعطف عليها والرثاء لها،
وقُلت:
-
كلّا .. إنه لم يمُت .. فقد أنقذت "هي" حياته .. تعالي.
فتنهَّدت من أعماق
صدرها ودخلت إلى الغُرفة، ثم انبطحتْ على وجهها، وجعلت تزحف كعادة "أُمّة حجر"
إذا مـا كانوا في حضرة ملكتهم ذات السطوة والجبروت.
قالت "عائشةٌ"
ببرود:
-
قِفي .. تعالي هُنا.
فامتثلتْ "أوستين"
للأمر، ووقفت أمام "هي" مُطرَقة الرأس، وساد السكون هُنيْهة، وأخيراً
قالت "عائشة" وهي تُشير إلى "ليو":
-
مَن هذا الرجل؟
فأجابت "أوستين"
بصوْتٍ خافت:
-
هو زوْجي.
-
ومَن أعطاكِ إيّاه زوْجاً؟
-
لقد تزوَّجتُ به طبقاً لعادات بلادي أيتها الملكة.
-
إنكِ ارتكبتِ شططاً أيتها المرأة بزواجكِ من هـذا الرجل وهو غريبٌ عنكِ .. إنه
ليس من جنسكِ فليس لكِ أن تُطبِّقي عادات بلادكِ عليه .. اصغي إليَّ: قد يكون إقدامكِ
على هذا العمل جهلاً منكِ .. و لذا عفوْت عنكِ أيتها الفتاة .. اصغي إليَّ مرّةً أُخرى:
عودي من فوْركِ إلى قبيلتكِ ولا تُحاولي أن تُخاطبي هذا الرجل أو تتَّصلي به لأنه
ليس لكِ .. وإيّاكِ والخروج على أوامري وإلّا قتلتكِ في التوْ .. هيّا .. اذهبي.
ولكن "أوستين"
لم تتحرَّك، فصاحت "عائشة":
-
اذهبي أيتها الفتاة.
فرفعتْ "أوستين"
وجهها وقد لاحت عليه علامات القلق والاضطراب، ثم قالت بصوْتٍ مُختنِق:
-
كلّا أيتها الملكة .. لن أذهب .. فهذا الرجل زوْجي وأنا أُحبّه .. أُحبّه
ولن أترکه .. بأي حقٍّ تأمرينني أن أترك زوْجي؟
فانتفضت "عائشة"
واضطربت أنا وقُلتُ لها باللاتينيّة:
-
رُحماكِ يا "عائشة".
فقالت لي:
-
وإنني لكذلك .. وإلّا لكانت الآن جُثّةً هامدة.
وعادتْ تُخاطِب "أوستين"
فقالت:
-
أيتها الفتاة: إنني آمركِ بالانصراف في الحال قبل أن أصعقكِ حيْث أنتِ.
فبکت "أوستین"
وأخذت تصيح:
-
كلّا .. لن أذهب .. إنه زوْجي .. زوْجي .. لقد تزوَّجته وأنقذتُ حياته .. اقضي
عليَّ إذا شِئتِ وإذا كنتِ تملكين القوَّة التي تُمكِّنكِ من ذلك .. وأمّا أنا فلن
أتخلَّى لكِ عن زوْجي .. كلا .. كلا.
فأتتْ "عائشةٌ"
بحركةٍ سريعةٍ لم أستطِع تتَّبُعها، ولكن خُيِّل إليَّ أنها ضربت الفتاة المسكينة
بيدها ضربةً خفيفةً على رأسها، وإذ نظرتُ إلى "أوستین" تراجعت إلى الخلف
وقد استوْلى عليَّ ذُعرٌ قاتل، ذلك أنني رأيْت فوق شعرها أثراً ظاهراً لثلاث أصابع
بيْضاء كالثلج، بينا رفعت الفتاة يديْها إلى رأسها كأنما أصابها دوار، ذُهِلتُ
عندما رأيْتُ أثر تلك القوَّة غير البشريّة وصِحت:
-
يا للسماء!!
وأمّا "عائشة"
فقد ضحكت ضحكةً قصيرة، ثم تحوَّلت إلى الفتاة التَعِسَة وقالت:
-
أتظنين أيتها الحمقاء أنني لا أملك قوّة الفتك؟ .. انظري إلى هذه المرآة.
وأشارت إلى مرآة "ليو"،
وكان "جوب" قد وضعها فوق أمتعته، واستطردت:
-
"هولي": اعطِ المرآة لهذه الحمقاء لترى ما أصاب رأسها .. ولتعلم
ما إذا كانت لديَّ القوَّة على الفتك أم لا.
فتناولتُ المرآة
ووضعتها أمام عيْني "أوستین"، فنظرت ثم وضعت يدها فوْق شعرها ثم نظرت مرّةً
أُخرى، وحينئذٍ هوت فوق الأرض وهي تنتحب.
قالت "عائشة"
في سخريةٍ لاذعة:
-
والآن؛ هل ستذهبين أم ينبغي أن أُعيد الكَرَّة؟ .. انظري: لقد تركتُ بصمة
ختمي فوْق رأسكِ حتى أتمكَّن من معرفتك إلى أن يصير شعرك كله أشيب مثلها .. فاغرُبي
عن وجهي .. وحذارِ أن تدعيني أرى وجهك مرّةً أخرى وإلّا جعلت عظامكِ أشد بياضا ًمن
علامتي التي تركتها فوْق شعركِ.
فنهضت الفتاة التَعِسة
وهي تترنَّح، وغادرت الغُرفة وهي تبكي بُكاءً مُرّاً.
هُنا؛ تحوَّلت "عائشةٌ"
إليَّ وقالت:
-
لا تنذعر يا "هولي" .. إنني لا أستخدم السحر بل قوَّةً لا تُدرِك
معناها .. ولقد وضعت هذه العلامة على رأس الفتاة لأُلقي الذُعر في قلبها.
ثم استطردت في لهجةٍ
رقيقة:
-
سآمر الخدم أن يحملوا سيّدي "کاليكراتس" إلى غُرفةٍ مجاورةٍ لغُرفتي
لأسهر عليه وأتأهَّب لتحيّته واستقباله إذا ما أفاق من غيْبوبته .. يجب أن تُرافقني
إلى هناك يا "هولي" .. وكذلك خادمك .. لكن حـذارِ أن تُخبر "كاليكراتس"
بذهاب الفتاة .. ولا بكل ما تعرفه عني .. هأنذا أنذرتك.
وتسلَّلت من الغُرفة
لتُصدِر أوامرها، وخلَّفتني لا أكاد أعي شيئاً.
وجاء الخدم بعد هُنيْهةٍ
وحملوا "ليو" وأمتعتنا إلى الجناح الآخر من الكهف، وكانت الغُرفة التي أُعدَّت
لنا خلف مقصورة "عائشة" مباشرةً.
وقد قضيْتُ تلك الليْلة
كأسوأ ما يكون، ذلك أنني رأيْتُ كثيراً من الأحلام المُفزِعة، كان أشدّها وقعاً في
نفسي منظر "أوستين" وهي تنظر إلى الطابع الأبيض المشؤوم في المرآة، ثم
تسلُّلها من الغُرفة وهي تبكي وتُلقي آخر نظرةٍ على وجه حبيبها.