"وا محمّداه .. وا حجّاجاه .. وا مُعتصماه .. وا عامراه": سابقاً | حالياً: "وا حسرتاه" (2)
وا مُعتصماه:
تحكي كتب التاريخ أن
إمبراطور "الروم" "توفيل بن ميخائيل" جهَّز جيشاً يزيد قُوامه
على مائة ألف جندي وسار به إلى بلاد الإسلام سنة 223هـ، فهاجم المُدُن والقُرى حتى
بلغ "مَلَطْيَة" (مدينةٌ تُركيّةٌ تحمل نفس الاسم حتى الآن)، ودخلها بعد
قتالٍ قصير، وأعمل في العرب المُسلِمين القتل والحرق، ومثَّل بمَن صار في يده من
الأهالي فسَمَلَ أعيُنهم وجدع أنوفهم وقطع آذانهم، كما سبى ما يزيد على ألف امرأةٍ
عربيّةٍ مُسلِمة.
وفرَّ إعرابيٌّ من
هذه الفظائع ولجأ إلى الخليفة العبّاسي "المعتصم بالله بن هارون الرشيد"
واستأذن في الدخول عليه وهو في قصره وأبلغه بالمجازر التي حدثت للمسلمين في
"ملطية" وحكى له عن امرأةٍ عربيّةٍ مُسلِمةٍ صاحت وهي في أيدي الروم: "وا
معتصماه"، فهبَّ "المعتصم" من على عرشه قائلاً: "لبّيكِ .. لبّيكِ"،
وهرول خارجاً وهو ينادي بأعلى صوْته: "النفير .. النفير" مُستدعياً
وزرائه وحاشيته وقادة جيوشه، ثم ركب دابّته على الفوْر وجمع العساكر، ولم يسترِح
حتى خرج على رأس جيْشٍ عظيم، وتجهَّز جهازاً لم يتجهَّزه جيْشٌ من قبل من حيث العدد
(قيل أنه كان يتكوّن من 200 ألف مقاتل، وقيل أيضاً 500 ألف مقاتل) والسلاح وآلات
الحصار والنفط.
وقبل أن يُغادر "المعتصم
بالله" بلاده تساءل: "أي بلاد الروم أمنع وأحصن؟"، فقيل له: "عمورية"
(مدينةٌ عظيمةٌ في هضبة "الأناضول" وسط "تركيا" ولم يبقَ منها
الآن سوى آثارٌ وأطلال) فسار باتجاهها، وفي طريقه فتح "أنقرة" (عاصمة
"تركيا" الآن) بسهولة، ثم اتجه بعدها إلى "عمورية" وحاصرها
خمسةً وخمسين يوْماً حتى سقطت في يده بعد أهم معركةٍ عربيّةٍ استخُدِمَت فيها الدبّابات
والمجانيق والسلالم والأبراج على اختلاف أشكالها وأنواعها، وجاء في خبر هذه الموْقعة
أن "المعتصم" قتل قرابة الثلاثين ألفاً وأسر ثلاثين آخرين، ولم يرجع
قافلاً إلّا بعد أن أخرج الأسرى والسبايا وأطلق سراحهم.
وهكذا زحف الخليفة "المعتصم"
بجيْشه وخاض حروباً عظيمة من أجل امرأةٍ استجارت به في محنتها وهي تقول: "وا معتصماه".
واعامراه:
في القرن العاشر
الميلادي كان الحاجب المنصور "أبو عامر محمد بن أبي عامر" يحكم بلاد "الأندلس"
بتفويضٍ من الخلافة الأُمويّة آنذاك، وكان بينه وبين مملكة "نافارا"
(تقع بين "فرنسا" و"إسبانيا") عهدٌ واتفاقٌ على أن يحمي
"أبو عامر" مواطني هذه المملكة على أن يدفعوا له الجزية، وكان من بنود
هذه الاتفاقيّة شرطاً تلتزم بموجبه المملكة بعدم محاربة جيش المسلمين في "الأندلس"
وبمنعها من أسر أحدٍ من المسلمين أو استبقائه في المملكة دون إرادته.
وحدث ذات مرّةٍ أن
ذهب رسولٌ من الحاجب المنصور "أبي عامر" برسالةٍ إلى ملك "نافارا"
بخصوص شأنٍ ما من الشؤون بينهما، وبعد أن أوْصل الرسول الرسالة أحب –كعادته – أن يقوم
بجوْلةٍ لزيارة معالم المملكة ويتنزّه – منفرداً بزيّه العربي الإسلامي – في
أنحائها، وبينما هو يجول في ساحات إحدى الكنائس سمع امرأةً تصيح به من وراء
الجدران: "وا عامراه"، وعندما أصاخ السمع هرول وراء مصدر الصوْت فوجد
سيّدةً مُحجّبةً من نساء المسلمين مُحتجَزةً في تلك الكنيسة فتعجّب لوجودها، وحين
سألها عن ذلك قالت له إنها أسيرةٌ في ذلك المكان منذ عدّة سنين وناشدته أن يفك
أسرها ويُنهي معاناتها لأن المنصور "أبي عامر" لا يرضاه أن يعيش
مُتنعِّماً وهي في بؤسٍ وكرب، وهنا غضب رسول الخليفة غضباً شديداً وعاد إلى المنصور
وأبلغه الأمر، فما كان منه – بعد ما سمع هذا – إلّا أن خرج على رأس جيْشٍ جرّارٍ
سيّره نحو مملكة "نافارا" ليكتسحها وينقذ تلك المرأة الأسيرة، وحين وصل
الجيْش إلى مشارف مملكة "نافارا" دب الرُعب في قلب الملك وأسرع لمقابلة "أبي
عامر" قبل أن يغزو المملكة وأبدى له دهشته من تسيير هذا الجيْش العرمرم ُرغم
وجود المعاهدة بين البلديْن ورغم التزام المملكة بدفع الجزية بانتظام، وبعزة نفسٍ –
في غير كِبرٍ – اتّهمه الحاكم المنصور "أبو عامر" بأن المملكة خالفت العهد
واحتجزت أسيرةً مسلمةً في كنيسةٍ تابعةٍ لها، وأسمى له تلك الكنيسة وحدّد مكانها
ومكان الأسيرة، فأنكر الملك علمه بذلك، وأرسل أحد وزرائه لينطلق إلى هذه الكنيسة ويستقصي
الأمر، وبعد حين رجع الوزير ومعه تلك المرأة المسلِمة مصطحباً في رفقته اثنتيْن أُخرييْن
من المسلمات كانتا أيضاً أسيرتيْن مع المرأة، وبرّر الوزير ذلك بأن أحد جنود
المملكة قد أسرهن دون عِلمه وعِلم الملك، وأمر الملك وزيره بعقاب ذلك الجُندي وبهدم تلك
الكنيسة ليسترضي "أبي عامر" وأرسل معه أيضاً كثيراً من الهدايا والعطايا
آملاً صفحه ومسامحته، فعاد جيْش المسلمين إلى بلده ومعه النسوة الثلاثة.
وهكذا ترأّس المنصور "أبي عامر" هذا الجيش الجرّار بنفسه وهدّد
بشن حربٍ ضروس من أجل ثلاث نِساءٍ استنجدت به إحداهن صائحةً: "وا
عامراه".
وا حسرتاه:
- وا حسرتاه على حُكامٍ عربٍ مسلمين
يكتفون بمشاهدة الصهاينة الآن وهم يعتدون على الفلسطينيّين العرب المسلمين
ويوقِعون بهم آلاف القتلى (حتى اليوْم بلغوا أكثر من 23 ألف شهيد منهم سبعة
آلاف امرأة وتسعة آلاف طفل) والجرحى (حتى اليوْم بلغوا أكثر من ستّين ألف مصاب)
دون أن يرف لهؤلاء الحُكّام جفنٌ أو تهتز لهم شعرة.
- وا حسرتاه على شعوبٍ عربيّةٍ مُسلِمةٍ
تقيم الأفراح وتُحيي الليالي الملاح وتلعب مباريات الكفاح وتجني الأرباح وتغرق في
العطر الفوّاح وتنصب المآدب حتى الصباح في "الرياض" و"القاهرة"
و"بيروت" وغيْرها دون أن يقوموا بمسيرةٍ واحدةٍ تُندِّد بانتهاكات الصهاينة
لأعراض الفلسطينيّات في "غزّة" التي أصبحت مدينة أشباح.
- وا حسرتاه على النشامى العرب المُسلِمين
– حُكّاماً ومحكومين – الذين يظنّون أنهم بعيدون في مأمنٍ عمّا يُرتكَب من مذابح
ومآسي في "فلسطين" العربيّة ويجهلون أن دوْرهم قادمٌ قادم إذا ظلّوا على
صمتهم المُهين وعجزهم الخسيس.
- وا حسرتاه على العواصم العربيّة من
"بغداد" شرقاً إلى "الرباط" غرباً التي ترفع رايات
"إسرائيل" الغاصبة لأراضي "فلسطين" ومُقدَّراتها والتي يُستقبل
فيها الصهاينة بكل ودٍّ وترحاب.
- وا حسرتاه على الكلمات التي تموت على
شفاهنا عاجزةً عن الصراخ والاستغاثة فلا نملك سوى أن نقول:
توالت الأيامُ تترى ومضت تلك العهود
حين كان يُجمع الرجال في حشود
وتُسيَّر الجيوش والأساطيل والجنود
لغوْث نسوةٍ وأطفالٍ من مِحَنٍ كؤود
والآن بعد أن تجبَّر الصهاينة اليهود
وقتلوا الفلسطينيّات بالنار والبارود
وهن تستجرن بحكّام العرب الرُقود
ذوي الجلد السميك و إحساس البرود
عُذراً أخواتنا .. عليكن المقاومة والصمود
فإن نساءنا الهاشميّات داخل الحدود
عقمن – منذ زمنٍ – فلم تحملن بـ"مُعتصمٍ" جديد.