يا خي صحّة.. وعافية (3)
وهكذا دواليك ؛ استمرّ
"عزرائيل" في متابعة عمله بكل همّة حتّى تخلّص من حياة أكثر من تسعين
بالمائة من العاملين بالهيْئة التي توقّفت عن العمل تماماً لخلوّها من العدد
الكافي لتسيير العمل، وفرح "عزرائيل" بنتيجة مجهوده المضني فقد توقّف
تساقط جزءٌ من الضحايا بتوقّف عمل هيْئة السكك الحديديّة، ولكنه صادف معضلةٍ أخرى
فقد استعاض الناس عن القطارات باستخدام الموتوسيكلات والتريسيكلات والتكاتك والسيّارات
بأنواعها والحافلات التي ازدحمت بركّابها فزادت حوادث الطرق والمرور لتتضاعف أعداد
القتلى والمصابين، ولكنه لم ييْأس ولم يتسرّب القنوط إلى قلبه فواجه المشكلة
بشجاعة وتتبّع أصولها وفروعها حتّى انتهى به الأمر إلى اكتشاف فساد المنظومة
بأكملها فلم يتورّع عن حصد أرواح المزيد من الآلاف بدايةً من وزير النقل والمواصلات
ونهايةً بالسائقين الذين تفنّنوا في مخالفة القانون ومناهضة أصول القيادة وأخلاقيّات
المهنة، ولم يترك "عزرائيل" أفراد الشعب المصري حتّى عادوا لاستخدام
الدواب والأنعام في النقل والتنقّل فامتنعت الحوادث وغابت الكوارث.
وانتقل "عزرائيل"
إلى مجالاتٍ أخرى لتنفيذ فكرته العبقريّة اللمّاحة: فحصد أغلب مَن يعملون في مجال
الصحّة (الذين يتسبّبون في موْت الناس في المستشفيات ويتقاعسون عن إسعافهم) والصناعة
(الذين لا يتقنون أعمالهم فيُنتِجون ما يضُر الناس ويُهدِّد حياتهم) والزراعة (الذين
يستخدمون المبيدات المسرطنة والمحاصيل الملوّثَة) والسياحة (الذين يهملون التفتيش
على السفن والعبّارات ووسائل الترفيه فيموت بسببهم الآلاف) والتعليم (الذين
يتسبّبون في وفاة التلاميذ تحت بوّابات المدارس وجدرانها المتساقطة وحافلاتها
المتهالكة ووجباتها الغذائيّة المسمّمَة) والشرطة (الذين ينكّلون بالمعارضين والخارجين
عن النظام فيطلقون عليْهم النار ويحرقونهم في عربات الترحيلات والمعتقلات) والجيش
(الذين يهتمّون بالقيادات والضبّاط فقط ويتركون الأفراد والعساكر يعانون من سوء
المعاملة وقلّة الرعاية) والرياضة (الذين يفشلون في تنظيم المباريات فيسقط المئات
من القتلى والمصابين كل فترة) والكهرباء (الذين يتركون الأسلاك ذات الضغط العالي
مكشوفة في الشوارع لاصطياد المساكين أو يقطعون الكهرباء فيموت الأطفال في
الحضّانات والمرضى في المستشفيات وعشرات المختنقين في المصاعد) والثقافة (الذين لا
يراعون التفتيش الدوْري على المسارح ودور الخيالة "السينما" فيحترق المشاهدون أو
تتساقط الأسقف فوق رؤوسهم) أو الخارجيّة (الذين لا يقومون بواجبهم في ترحيل
المواطنين المصريين من المناطق الخطرة في العالم فيتم ذبحهم أو قتلهم بلا ثمن) أو البيئة
(الذين يتركون فوضى التلوّث تعم في البر والبحر والنيل والجو فيموت الملايين بسبب
أمراض الكبد والكلى والصدر والسرطان) أو الإعلام (الذين يوغرون صدور الناس على
بعضهم البعض ويكرّسون للفتنة بيْنهم فيقع منهم القتلى والمصابين في المظاهرات والصراعات)
أو العدل (الذين ينظرون القضايا على مدار سنينٍ طوال يموت فيها من له حقٌ كمداً وحنقاً)
أو الإسكان (الذين يرتشون فيبني ضعاف النفوس المباني التي تنهار فوق رؤوس ساكنيها)
أو... أو... أو...
وفي النهاية - وبعد
أن أسلم الروح أكثر من ثلاثة أرباع الشعب المصري - وجد "عزرائيل" نفسه
لا يقوى على الحراك من فرط ما بذله من مجهودٍ في حصد ملايين الأرواح من المصريّين
فصار يزحف المسكين زحفاً نحو مقرّه بالسماء الثالثة التي ما إن وصلها حتّى تنفّس
الصعداء وردّد الشهادتيْن ورقد بلا حراك على ظهره وغرق في سباتٍ عميق، وعندما
استيْقظ استدعى مساعده "سمائيل" الذي دخل عليه وقد هاله منظر سيّده :
- السلام عليك يا
سيّدي "عزرائيل".
- و.. عليك.. الســ..
لام.
- ما بالك سيّدي لا
تقوى حتّى على رد السلام؟.. أأنت مريض؟
- أحس كأنني مشلول..
وبالكاد أستطيع التنفّس.
- لماذا؟
- استنفذ المصريّون
كل طاقتي.
- فيمَ؟
- في حصد أرواح
الملايين منهم.. ولكن لا بأس فقد قمت بحل مشكلاتهم للأبد.
- كيف؟
- اجتززت أرواح
الفاسدين والمفسدين والغافلين والمهملين والمتراخين والكسولين والمتواكلين والمقصّرين
والمتهاونين والمستهترين وجميع المتسبّبين في وفاة الناس في المصائب والبلايا التي
تقع نتيجة أخطاء العامل البشري.. وبالتالي ندُرت حالات الوفيات ونزُرت مجهوداتنا
التي كنا نبذلها في الماضي.. فلنسترِح بعد طول كد ولنستجم بعد عناءٍ كبير.
- نسترح ونستجم!.. ها....
ها ها.... ها ها ها ها.
- لماذا تضحك يا هذا؟
- أضحك من سلامة
نيّتك وحُسْن طويّتك يا سيدي.. كما أتعجّب من بساطة سريرتك وسذاجة ضميرك.
- لماذا؟
- لإنك رغم ذكائك وحصافتك
وقوّة بصيرتك إلا أنك لم تَخْبُر المصريّين بعد ولم تدرك طبائعهم.
- أفصح بلا مناورةٍ
أو مداورة.. ماذا تقصد؟
- أقصد أن الله لا
يُغيّر ما بقومٍ حتّى يغيّروا ما بأنفسهم.. إن المصريّين في حاجةٍ إلى معجزةٍ من
السماء حتّى يُصلحوا طبعهم وينصلح سلوكهم وتندمل أخلاقهم.. أتظن أن حيلتك هذه
ستخلّصهم ممّا غُرِس فيهم من سلبيّاتٍ ومساوئ طيلة هذه العصور.
- ولِمَ لا؟.. وقد
صحّحت شعوبٌ كثيرة مسارها وصارت توصف الآن بالتقدّم والمثاليّة.
- المصريّون أمّةٌ
عنيدة.. ركنت طويلاً إلى الاستكانة والتواكل.. وتأصّلت فيهم مثالبٌ عديدة وتغلغلت
بينهم نواقصٌ غزيرة رغم أنهم منبع الحضارة والمدنيّة.. فلا أراني أصدّق أنهم
يُشفون من أمراضهم القاتلة بهذه السهولة واليسر.. فأمراضهم وعللهم ليست قاصرةً على
طبقة الحكّام والمسؤولين فقط كما يزعمون هم أو كما تتصوّر أنت.. إنها تشملهم كلّهم
على حدٍ سواء.. أجاء الحكّام منهم أم من خارجهم؟.. إنهم حكّامٌ ومحكومون من نفس
الطينة ومن ذات الخِلْقة.
- هذا رأيك.. وأظنّه
رأياً خاطئاً.. فشباب "مصر" بخيْرٍ دائماً ويستطيع أن يفعل المعجزات شرط
إخلاص النيّة وصدق العزيمة.. إنني أستطيع أن أراهنك على ذلك يا "سمائيل"
وأنا بمنتهى الثقة.
- هممممم.. ولكنني
كسبت الرهان قبل أن يبدأ يا سيّدي.
- كيْف؟
- هل تعلم أنّك بعد
أن نفّذتَ فكرتك وعدتَ هنا ظللتَ نائماً أكثر من خمسة أيّامٍ متواصلة؟
- مَن؟.. أنا؟
- أجل.. ولم أشَأ أن
أوقظك لأتركك تستريح بعد معاناتك مع هؤلاء المصريّين.. وقمت أنا بالعمل كلّه
نيابةً عنك.
- يا ربّي.. ولكن ما
دخل هذا بربحك للرهان؟
- لقد عادت الأمور
في "مصر" لنصابها القديم مرّةً أخرى خلال تلك الأيّام الخمس.. فعاد
الناس لاستخدام القطارات والسيّارات وتشكّلت حكومةٌ جديدةٌ عيّنت مئات الآلاف من
الموظّفين الحكوميّين الذين ما زالوا يصرّون على ارتكاب نفس أخطاء وخطايا سابقيهم
فرجعت نفس الكوارث والحوادث على نفس شاكلتها وربّما أكثر.. لقد قمت بنفسي بحش
أرواح الآلاف من الضحايا في هذه الأيّام فقط.
فأسقط في يد
"عزرائيل" وتنهّد طويلاً ثم زفر بإحباط وأطرق برأسه إلى الوراء وأحس
بفشلٍ ذريع حاول "سمائيل" أن ينتشله منه بقوْله :
- لا تحزن يا سيّدي..
فأنك لستَ عليهم بمسيْطر.. وربّما يصدق حدسك فينقلب سلوكهم مائةً وثمانين درجة.. من
يعلم؟
- ربّما.. الله ورسوله أعلم.