(15) "هي" تريد رؤيتك
كان أوّل ما فعلته أن اغتسلت وأبدلت ثیابی،
ثم جلست في انتظار تطور الحوادث، ولكن سرعان ما شعرت بجوعٍ شديد، وعجبت هل سيتركنا
هؤلاء القوم نموت جوعاً!، ولكن ما هي إلّا هُنيْهةً حتى أُزيح الستار، وظهرت من
خلفه فتاةٌ بكماء أشارت إليَّ أشارةً ذات مغزى فهمت منها أن الطعام قد أُعِدَّ لنا،
فسِرتُ في أثرها إلى الغُرفة المجاورة.
وهناك وجدت "جوب" قد سبقني إليها،
وكانت مساحة هذه الغرفة ضِعف مساحة الغُرفة التي أُعِدَّت لنوْمنا، وكانت تمتد على
أحد جوانبها منضدةٌ صخريّةٌ عرضها ثلاثة أقدامٍ وارتفاعها سِتّة تلتصق قاعدتها بأرض
الغُرفة الصخريّة، وكانت كل منضدةٍ تختلف عن الأخرى، فالمنضدة التي إلى يسار
الداخل تُستَعمَل للتحنيط بلا شك، إذ كانت مُفرَّغةً من الوسط على شكل جسم إنسان،
وكان للرأس مكانٌ خاص وللعنق مكانٌ مُرتفِع، بينما كان بها ثقوبٌ لإزالة المواد
السائلة، وقد تبادر هذا الخاطر إلى ذِهني ممّا رأيته مرسوماً فوق الجدار وقد بدا
أنه رسماً فرعونيّاً، فقد شاهدت رسماً لشيْخٍ ذي لحيةٍ بيضاء وهو يموت، ثم وهو يُحنَّط،
وبعدئذٍ وهو يُدفَن.
وأمّا الصورة الأولى فكانت تُمثِّل الشيْخ
وهو يُعاني سكرات الموْت بينا التفَّت حوْله النساء والأطفال وهم يبكون ويُوَلوِلون،
وأمّا الصورة الثانية فتُمَثِّله أثنـاء التحنيط فكان يُرى وهو مُـمَدَّدٌ فوْق مِنضدةٍ
حجريّةٍ تُشبه التي كانت أمامنا ولعلَّها هي عينها، وحوْل الشيّخ الميّت ثلاثة
رجالٍ أحدهم يحمل قُـمعاً وُضِعَ طرفه المُدَبَّب في قلب الشيْخ، بينا كان الثاني
يحمل في يده وعاءً كبيراً يسكُب منه سائلاً مُعيّناً في القُمع، وأمّا الثالث فكان
يُشرِف على عمل الآخرين، واخيراً كانت الصورة الثالثة تُمثِّل الشيْخ عند الدَفن،
فكانت الجُثّة تُرى وهي جامدةٌ باردة وقد لُفَّت بقماشٍ من الكِتّان ووُضِعت علی أفریزٍ
حجري كذلك الذي نِمت فوْقه عندما كنا ضيوفاً على الشيْخ "بلال"، وكان حوْل
الجُثمان أناسٌ كثيرون يقرعون الطبل.
أخذت عيْني كل هذه الرسومات في لمحةٍ خاطفةٍ
ثم جلست، وتناولنا طعاماً شهيّاً من لحم الضأن المسلوق واللبن والكعك، وقد قُدِّمت
إلينا في أوعيةٍ خشبيّةٍ نظيفة، وإذ فرغنا من تناول الطعام انطلقنا إلى غُرفة
"ليو" لنقف على حالته، وأمّا "بلال" فذهب للمثول بين يديْ "هي"
وتلقّي أوامرها.
ألفيْنا "ليو" في حالةٍ سيّئة،
وكان قد أفاق من إغمائه وأخذ يهذي، بيْد أنه ما كاد يسمع صوْتي حتى هدأ قليلاً،
فأمكنني أن أعطيه جرعةً من "الكينا"، وقد قضيْتُ مع "ليو"
حوالي الساعة، حتى جاءني "بلالٌ" وأفضى إليَّ بأن "هي" قد
تنازلت وأعربت عن رغبتها في مقابلتي، وهو شرفٌ لا يحظى به إلّا القليلون‘ فتلقيْت
الدعوة ببرودٍ هال الشيْخ "بلال"، ولكنني كنت في الواقع مُضطرِباً من
ناحية "ليو" وما يتهدَّد حياته من خطرٍ عاجل، وفيما كنت أهِمُّ بالسيْر
في أثر "بلال" إذ وقع بصري على خاتمٍ يلمع فوْق أرض الغُرفة فالتقطته، فإذا
به خاتم "ليو" الذي يحمل فَصّاً هو الجُعران الذي عثرنا عليه في العُلبة
الفضيّة التي كانت بين مُخلَّفات "فنسي"، وكان منقوشاً على الجُعران
دائرةٌ بداخلها رسمٌ لأوْزةٍ وحرفٍ آخر هيروغليفي معناهما "ابن الشمس الملكي"
ويبدو أن "ليو" طرح يده وهو يهذي فسقط منه الخاتم فـوق الأرض، وضعت
الخاتم في إصبعي خشية الضياع ثم تبعت الشيْخ "بلال".
سرنا في الدهليز واجتزنا الكهف، ووصلنا إلى
الدهليز المُماثِل في الناحية الأُخرى، وكان يقف على بابه حارسان أشبه بتمثاليْن،
فلمّا وصلنا إليهما أحنيـا رأسيْهما تعظيماً، ووضع كلاهما رُمحه أفقيّاً على جبهته،
فسِرنا من بينهما، وانطلقنا في دهليزٍ مستطیلٍ ساطع الضوْء، لكن ما أن خطوْنا بضع
خطواتٍ حتى التقيْنا بأربعة حُرّاس - رجليْن وامرأتيْن - أحنوا رؤوسهم ثم سجدوا،
ومن ثَمَّ تقدَّمتنا المرأتان، وسار الرجلان خلفنا.
وفي نهاية الدهليز رأيْتُ باباً وقف أمامه
حارسان آخران وسمحا لنا بالمرور، فاجتزنا عِدَّة غُـرَفٍ ودهاليز حتى انتهيْنا إلى
غُرفةٍ كبيرةٍ - طولها نحـو أربعين قدماً وعرضها يقرب من طولها - مضــاءةٍ
بالمصابيح، وقد وقع بصري بداخلها على ثماني نساء صفراوات الشعر جلست كل واحدةٍ
منهن على أريكةٍ وهن يُطرِّزن بإبرٍ من العاج، وجميعهن صُمٌ بُكمٌ أيضاً، وفي
نهاية هذه الغُرفة رأيْتُ باباً أُسدِل عليه ستارٌ كثيفٌ من نسيجٍ مُطَرَّزٍ يُشبِه
الأنسجة الشرقيّة، ووقفت أمامه فتاتان جميلتان، جذبت كلتاهما شِقاً من شِقَّيْ السِتار
في خشوعٍ واحترام، وفجأة خَرَّ "بلال" ساجداً وزحف على يديْه ورُكبتيْه
ولحيته تكنس الأرض كلّما تقدَّم، بينا تبعته إلى الداخل سائراً على قدميَّ، ونظر إليَّ
"بلالٌ" من فوق كتفه وهتف:
-
اركع يا بُني ..
اركع أيّها البابون .. ازحف مثلي .. فإنك ستَـمَثُل الآن بين يديْ "هي" ..
فإذا لم تجدك مُتواضِعاً قضت عليك في الحال.
جمدت في مكاني وتسرَّب الخوْف إلى قلبي
فارتعدت رُکبتاي .. بيْد أن كِبريائي لم تلبثْ أن تغلَّبَتْ على خوْفي فرفضتُ الإذعان،
وسِرتُ بخطواتٍ ثابتة، وعندئذٍ وجدت نفسي في دهليزٍ آخر صغير أُسدِلت على جدرانه
ستائر فاخرة علمتُ فيما بعد أنها من صُنع النساء البكماوات اللاتي مررت بهن، وكانت
هناك مقاعد - من خشبٍ أسودٍ جميلٍ يُشبِه الأبنوس مُطعَّم بالعاج - موضوعةٌ لصق
الجدران، بينا كانت أرض الغُرفة مُغطّاةً بالسجاجيد، ولكن كان المكان خالياً، وأخيراً
بلغنا بهواً ضخماً في آخره عرش الملكة "هي" وعلى مقربةٍ منه بابٌ أُسدِل
فوْقه سِتارٌ ثمين، وعندئذٍ انبطح "بلالٌ" على وجهه، وبسط ذراعيْه أمامه
كأنما فارقته الحياة، وأمّا أنا فتولّاني الارتباك، ورُحت أُقلِّب الطرف حوْلى،
وسرعان ما أدركت أن شخصاً يُراقبني من خلف الستار.
لم أرَ ذلك الشخص، ولكن كنت أشعر بنظراته أو
نظراتها لا أدري، إذ أثَّرت في أعصابي تأثیراً غريباً، ولم يلبث أن تملَّكني خوْفٌ
غامضٌ لا أدرى كُنهه، وساد السكون بينا بقي "بلالٌ" مُنبَطِحاً كالتمثال
وعبير الروائح الذكيّة ينبعث من وراء الستائر.
وأخيراً بدأ السِتار يتحرَّك ببطء، ثم ظهرت
يدٌ بيضاء كالثلج، ذات أصابع رقيقةٍ تنتهي بأنامل دقيقةٍ ورديّة اللوْن، وجذبت
اليد الستار جانباً، ثم سمعت صوْتاً يتكلّم، صوْتاً كتغريد البلابل رِقّةً وشجواً،
قال الصوْت بالعربيّة الفُصحى:
-
لِـمَ يبدو عليك
الخوْف أيّها الغريب؟
أدهشني هذا السؤال، بيْد أنني لم أكَد أُفَكِّر
في إجابةٍ عن سؤالها حتى أُزيح السِتار جانباً بالكامل، وظهر شبحٌ طویلٌ أمامي،
نعم؛ كان شبح امرأةٍ مديدة القامة لفَّت جسمها ووجهها بوشاحٍ رقيقٍ أبيض، كـجُـثّةٍ
كُفِّنَتْ لتُسجى في قبرها، وكانت الغلالة التي التفَّت بها رقيقةً جِدّاً، حتى
لقد استطعت أن أتبيَّن لوْن بشرتها من خلالها، فلم أتمالك أن اشتد اضطرابي واقشعر
بدني.
ومهما يكن؛ فقد أدركت أن الشبح الملتف الماثل
أمامي هو قوام امرأةٍ بديع تَجَسَّمَ الجمال في كل عضوٍ من أعضائه.
عاد الصوْت الساحر يقول مرّةً أخرى:
-
خبِّرني أيّها
الغريب: لِـمَ يبدو عليك الخوْف؟ .. هل ترى في شخصي ما يُخيف؟ .. إذا كنت كذلك فقد
تغيَّر الرجال عمّا كانوا عليه.
ثم أتت بحركةٍ رشيقةٍ ودارت على عقبيْها، ورفعت
إحدی ذراعيْها کي تكشف عن جمالها وسحرها، وظهر شعرها الأسود الذي كان يتدلّى إلى قدميْها
تقريباً فوْق ثوبها الأبيض الجميل، فأجبت بتواضعٍ وأنا لا أعي ما أقول:
-
إنه سحركِ الذي أخافني
أيّتها الملكة.
فقال "بلالٌ" بصوْت خافت وهو لا
يزال مُنبَطِحاً على وجهه فوْق الأرض:
-
أحسنت أيّها البابون
.. أحسنت.
فضحكت "هي" ضحكةً عذبةً رقيقة كان
لهـا رنين ناقوسٍ فضّي، ثم قـالت:
-
أرى أن الرجال
مازالوا يعـرفون كيف يخدعوننا - نحن معشر النساء - بالكلمات المعسولة .. آهٍ أيّها
الغريب .. لم يكن خوْفك وليد تأثُّرك بجمالي وإنما مرجعه إلى أن عيْنيَّ كانتا
تستطلعان خفايا قلبك وسبر غوْرك (معرفة ما بأعماق نفسك) .. ولكني سأصفح عن فريتك لأنك
قرنتها بتقريظٍ ظريف .. والآن خَبِّرني كيف جئتم إلى هذه الأرض التي يسكن أهلها
المغاور والكهوف؟ .. ما الذي أتيتم لتشهدوه؟ .. كيف تُجازِفون بأرواحكم فتضعونها
بين يديْ "هي"؟ .. "هي" التي يجب أن تُطاع .. وحدِّثني أيضاً
كيف تعلَّمت اللغة العربية التي أتكلمها وهي لُغةٌ قديمة؟ .. أَمَا تزال هذه اللغة
متداولةً في العالم؟ .. أنت ترى أنني أعيش بمعزلٍ عنه .. بين الكهوف والموْتى ..
لا أعلم من أمره شيئاً ولا لأهتم بمعرفته .. لقد عشت - أيّها الغريب - على ذکریاتي
.. وذكرياتي حبيسة قبرٍ حفرته يداي.
ورنَّ صوْتها رنيناً يُشِبه تغريد البُلبُل،
وحانت منها التفاتةٌ إلى الأرض، فوقع بصرها على الشيْخ "بلال" وهو منبطحٌ
على وجهه، فقالت:
-
أما زلت هُنا أيّها
الشيْخ؟ .. أخبرني: لِـمَ اضطربت الأحوال في قبيلتك .. يبدو أنكم اعتديْتم على
ضيوفي .. بل لقد كان أحدهم يُلاقى حتفه لتوضع القِدر المُحمّاة فوْق رأسه کي يأکله
أولادك الوحوش .. فما معنى ذلك أيّها الشيخ؟ .. ما دفاعك وإلّا أسلمتك للذين يُنفِذِون
انتقامي؟
وكان صوْت "هي" قد ارتفع في ثوْرة
غضبها، وتردَّد مداه في جوانب الغُرفة الصخريّة مُخيفاً يبعث الذُعر في القلوب،
وقد خُيِّل إليَّ أنني أرى عيْنيْها تتقدان من خلف القناع المُسدَل فوْقه، وأمّا "بلال"
المسكين فقد اضطرب وقال بذِلّة:
-
أي "هي":
كوني رحيمةً كما أنتِ عظيمة .. فأنا مازلت خادمك المطيع .. و لا شأن لي بما حدث ..
بل هم أولئك الأشرار الذين يُسمَّون أولادی".
وطفق يقص عليها قصة المعركة كما سمعها مني، وختم
حديثه قائلاً:
-
ولكن البابون والأسد
وخادمهما قاتلوا كالأبطال وصرعوا كثيرين إلى أن وصلت وأنقذتهم .. وقد أرسلت المُذنبين
إلى هُنا - "خور" - ليُحاكَموا إمام
عظمتك.
فقالت:
-
نعم أيّها الرجل
العجوز .. أعلم ذلك .. وسأجلس غداً في القاعة الكُبرى لمحاكمتهم .. فلا تخَف .. وأمّا
إنت فقد صفحت عنك .. ولكن عليك أن تكون أكثر حزماً مع أولادك في المستقبل .. والآن
اذهب!
نهض "بلالٌ" على ركبتيْه بنشاطٍ مُدهِش،
وأحنى راسه ثلاثاً، ثم زحف على بطنه إلى أن غادر المكان.