الفصل السادس (2) | نهاية العالم
وعلى المستوى الإعلامي
فقد ساد الهدوء تماماً جميع الأوساط بعد أن جمّدت الآلة الإعلاميّة من إطلاقها
للشائعات والخبريّات المغرضة واقتصرت الشاشات والصحف على نشر كل ما هو صحيح وحقيقي
دون تكلُّفٍ أو تجميل، وزادت البرامج والمقالات الدينيّة التي تدعو الناس إلى
مراعاة الأخلاق والتضرّع في العبادة وآداء المناسك والصلوات وعدم إهدار الوقت
القليل الباقي من العمر على توافه الأشياء واغتنام ما تبقّى من فرصٍ سانحةٍ شحيحة
لعمل الخير تجاه الناس.
وعلى النطاق
الاجتماعي فقد أصاب السمو والرقي المجتمعات فجأة فتراهم وقد ابتعدوا تماماً عن
أفعال الشر والآثام بل انتشر بينهم الحب والصفاء ومكارم الأخلاق فسيْطرت المشاعر
الجيّاشة والأحاسيس المرهفة وحسن المعاملة والبر والإحسان بيْن الأهل والزملاء والأصدقاء
والجيران وبادر المتخاصمون بالمسامحة والمصالحة، فانعدمت الجريمة والفساد وزادت
الروابط الأسريّة والصداقة والإخلاص وأصبحت العلاقات الاجتماعيّة بين الناس ثريّةً
تسودها المحبّة والوئام.
وفي الاتجاه العلمي
فقد تمّ الكشف دون مقابل عن مجموعةٍ من الاختراعات المفيدة للبشريّة، وتسامحت
شركات البرامج الحاسوبيّة للناس في حق استغلال تطبيقاتها مجاناً، وتسابقت شركات
الأدوية في توزيع منتجاتها من الأدوية المخزونة على المرضى دون دفع الثمن وكذلك
كشفت عن سر تركيبات عقاقيرها لتحارب الأمراض فيما تبقّى من زمن قبل قيام الساعة، فحدثت
طفرةٌ هائلة في استغلال التِقنيات الحديثة وتحسّنت الحالة الصحيّة والمزاجيّة
للإنسان وانهزمت الأمراض والأوبئة.
و أمّا الدوائر
الثقافيّة فقد اهتمت أكثر بالمضمون دون الإلتفات كثيراً إلى الشكل الخارجي لنشر
المعرفة اللازمة بجميع المجالات، وتخلّى المؤلفون والناشرون عن حقوقهم الماديّة في
توزيع الكتب والدوريّات الورقيّة والإلكترونيّة المنشورة ليطلع عليها أغلب الناس، فزاد
الوعي الثقافي وارتقى الفكر في زمنٍ قياسي.
وعلى المحيط الرياضي
فقد عادت الرياضة لتسعى إلى الهدف الأساسي من القيام بها من تنافسٍ شريف يدعو إلى
الكمال البدني والنفسي دون البحث عن مكاسب ماديّة فانية، فترى اللاعبين المتنافسين
وهم يبتسمون أثناء مبارياتهم ومسابقاتهم بغض النظر عن الفائز، فارتفعت الروح
الرياضيّة وأسهمت هذه المنافسات في تهذيب النفوس قبل تقوية الأبدان وساعدت في
التقارب والصداقة بين الشعوب لا التنافر والعداوة بيْنها.
وهكذا اقترب العالم
أو كاد من الملامح المثاليّة النموذجيّة للمدينة الفاضلة كما رسمها في خياله
الفيلسوف الاجتماعي المسلم "أبو نصر محمّد بن محمّد الفارابي" في رحلة
بحثه عن الكمال والتي دوّنها في كتبه وظلّت البشريّة تحلم بها منذ أكثر من ألف عام،
وابتعد العالم أو كاد من القَسَمات القبيحة للمدينة الفاسقة الفاسدة الجاهلة
المتبدّلة الضالّة التي كانت ترتسم على وجه الأرض.
حدث هذا كلّه ما بين
ليلةٍ وضحاها وكأنّ مشاكل العالم بأسره أكثر يسراً من مشكلة "نشوى" التي
ظلّت يوميْن كامليْن قائمةً نائمة لا تبرح منزلها منهمكةً في التفرُّغ للتفكير في
حلٍ مناسب يخرجها من هذه المعضلة، وعندما أعياها التفكير وأضناها السهر وتأكّدت من
قرب نهاية العالم ونهايتها معه قرّرت أن تعترف لأخيها الأكبر "باسم"
بحقيقة أمرها مع "عماد" عسى أن يشاركها أخوها حملها الثقيل ويعينها في
مصيبتها، ولم تضيّع "نشوى" وقتها فحزمت أمرها وقامت من فوْرها متّجهةً
لمنزل "باسم" الذي لزم بيته هذه الليلة بعد إلغاء سهراته المعتادة عقب
الإعلان عن أن قيام الساعة بعد أيّام.
وفي غرفة الصالون
المغلق بابها بمنزل "باسم" انفردت به "نشوى" وروت له باكيةً حكايتها
مع "عماد" بالتفصيل وهو واجمٌ مصدوم فلم يكن ليتوقّع من أخته الصغيرة
البريئة هذا السلوك المشين، وما إن انتهت أخته من اعترافها إلّا وهبّ واقفاً واندفع
نحوها وانهال على وجهها بالصفعات واللطمات وهو يصمها ويلعنها بكلماتٍ تحشرجت في
حلقه من المفاجأة المدوّية وتجاوزت لسانه المعقود بصعوبة فخرجت من فمه بصوتٍ خفيض
وكأنها تحرص على ألّا تصل لمسامع أحد خوفاً من الفضيحة والعار:
- يا فاجرة.. بقى
انتي يطلع منِّك كل ده؟.. أنا لازم اموّتِك واخلص من عارِك يا سافلة يا منحطّة.
- سامحني يا أبيه..
"عماد" خدعني وضحك عليّ.. والظروف كانت اقوى منّي.
- ظروف إيه اللي
تخلّيكي تعملي المصيبة دي.. إنتي عارفة اللي عملتيه ده إسمه إيه؟
- واللهِ كنت فاكراه
إنسان كويّس وبيحبّني.. وعمري ما اتخيّلت إنه بالندالة دي.
- الله يخرب بيتِك..
ضيّعتي نفسِك وضيّعتينا معاكي يا ضايعة.
- أنا آسفة واللهِ
يا أبيه.. أنا أهون عليّ اموت ولا اسمع منّك الكلام ده.
- هوّ انتي لسّه
شفتي حاجة.. ده انا ح انسّل لحمِك نسايل نسايل.
وعاود
"باسم" هجومه بيديْه صفعاً ولطماً وبرجليّه ركلاً ورفساً على أخته التي
كـوّرت نفسها علي الأرض في أحد أركان الغرفة محاوِلةً منع هذه الضربات من الوصول
إليْها وهي تبكي وتتأوّه في صوتٍ مكتوم، وبعد برهة يسيرة استنفذ "باسم" طاقته
فكفّ عن الضرب وتداعى على أحد المقاعد القريبة وهو يضع يديْه فوق رأسه وكأنّه
يحميها من وقع الصدمة أو يمنعها من الانفجار من هوْل المفاجأة.