الفصل الأول (3)
وبقي الحال بينهما على ما هو لمدّةٍ تزيد على
التسعة أشهر : هي تتحاشى النظر ناحيته وهو يتمسّك بوعده تجاهها رغم العديد من
المواقف التي جمعتهما معاً في مكانٍ واحد، وظلَّ ما في قلبيْهما كما هو؛ بل تنامى
الحب فيهما وتضاعف أكثر من ذي قبل وزاد البُعد بينهما في تأجّج مشاعر الشوْق
واشتعال أحاسيس الوَجد، إلى أن جاء آخر يوْمٍ في امتحاناتهما فجمعتهما لجنةٌ واحدة
في الامتحان الشفوي لمادّة "الكيمياء الحيويّة" فدخلا لنفس المدرّس الذي
اقتسم بينهما سؤالاً واحداً وكأنه يعرف ما بينهما فأبليا بلاءً حسناً ممّا دعى
المدرّس على أن يُثني عليْهما فخرجا من مكتبه وهما مسروران لأنهما حازا على درجةٍ
عالية ولأنهما - وهذا هو الأهم - سنحت لهما الفرصة من جديد أن يتصارحا قبل أن
يفترقا في الأجازة السنويّة، واستهلّ "كريم" حديثه مع "بسمة"
قائلاً :
- مبروك .. وبالنجاح إن شاء الله.
- الله يبارك فيك .. ومبروك ليك انت كمان.
- "بسمة" .. أنا عايز اتكلّم معاكي
دقيقتين بس.
- إتفضّل اتكلّم واحنا ماشيين .. أنا سامعاك.
- أنا مسافر البلد ومش عارف ح اشوفِك إمتى ..
وخايف تفضلي فاهماني غلط.
- بُص يا "كريم" .. أنا ح اوفّر
عليك كلام كتير .. أنا فهمتك الفترة اللي فاتِت صح جداً .. إنت صدقت ف وعدك ليَّ
وبطّلت تكلّمني .. بس انا كنت باراقبك من بعيد لبعيد .. لقيتك شاب مجتهد في دراستك
.. وبتعامل زمايلك الولاد والبنات بمنتهى الاحترام .. وما بتسيبش أي فرض يفوتك
وبتصلّيه ف مسجد الكليّة .. وما لكش ف الكلام الفاضي بتاع الشباب السيس دول ..
علشان كده كبرت ف نظري جداً واتأكّدت إنك إنسان محترم ومؤدّب وما كدبتش عليّ ف كل
اللي قلته .. مع إنك طلعت ما بتفهمش حاجة لمّا قلت إنك مش قد المقام والكلام
الفارغ ده .. أنا عمري ما فكّرت بالطريقة دي.
- صحيح يا "بسمة"؟ .. الحمد لله ..
أنا ده الوقت استريّحت جداً وبقيت ف منتهى السعادة .. خلاص .. مش عايز م الدنيا
حاجة تاني .. أنا عارف إني كنت غلطان لمّا كتبت لِك الجواب ايّاه .. وعارف كمان إن
رد فعلِك كان طبيعي جداً زي أي بنت مؤدّبة وده احترمته فيكي جداً .. بس تقولي إيه
.. كنت حمار .. ما صدّقت إن فيه باب اتفتح بيني وبينك واتصرّفت بهبالة .. أصلي
فلّاح غشيم وما عنديش خبرة أو تجارب مع بنات تانية .. وانتي أوّل حب ف حياتي.
- يا سلام! .. بقى ما عرفتش بنات قبل كده؟
- واللهِ العظيم عمري .. طب أقسم بالله
العظيم أنــ.....
- خلاص خلاص .. مصدّقاك.
- يعني سامحتيني.
- سامحتك .. بس مش ح اخد منك كراريس محاضرات
تاني .. هههههه.
- هههههه .. لا .. أنا تُبت خلاص.
وهكذا تآلف الحبيبان مرّةً أخرى ولكنهما هذه
المرّة اتخذا من الاحترام والتقدير المتبادل أساساً قويّاً يرتكز فوقه حبّهما
الطاهر ويرتكن عليه وِدهما النزيه واستمرا في طريقهما الذي رسمه لهما القدر
فتواعدا على الإخلاص لبعضهما واتفقا في التزامات حبّهما النبيل وتحالفا ضد تصاريف
الدهر وتعاهدا على الزواج وقضاء عمرهما معاً في تآلفٍ وسعادة على ألّا يشغلهما ذلك
عن أن يجدّا ويبرعا في دروسهما، فانقضت سنوات الدراسة الطويلة بسرعة وتخرّج
الاثنان بتفوقٍ وامتياز ممّا شجّع "كريم" على الاتفاق مع
"بسمة" من أجل التقدّم لوالدها لتحقيق أحلامهما المشروعة ووضع علاقتهما
على المسار الرسمي الصحيح وتقنين مقابلاتهما معاً وشرعنة حبّهما في إطار الزواج،
وفوجئ العاشقان بالأب يرفض ترجمة هذا الحب البريء الصادق إلى اللغة الرسميّة
الوحيدة التي يفهمها المجتمع ويقف عقبةً كؤود في طريقهما المرسوم، وحاولت
"بسمة" إثناء والدها عن رأيه ولكنها فشلت فشلاً ذريعاً فقد كان الأب
مقتنعاً بأن "كريم" لا يوافق ابنته من حيث المركز المالي أو الاجتماعي
فهو شابٌ لا غبار عليه من الناحيّة الأخلاقيّة والعلميّة ولكنه لا يرقى إلى مستوى
"بسمة" ولن يلبّي متطلباتها الماديّة التي تعوّدت عليها تحت كنف والدها
الموسر الذي أصرّ إصراراً شديداً على موقفه.
وأبى "كريم" - كأي ريفيٍ أصيل - أن
يكون سبباً في عقوق "بسمة" ونكرانها لفضل أبيها عليها وخروجها عن طاعته
فرفض عرض حبيبته أن يتزوّجا سراً أو بعيداً عن والدها وصمّم على موافقة الأب بكامل
إرادته الحرّة على زواجهما قبل أن يُقدِما على مشوار حياتهما الطويل بهذه الخطوة
الرعناء، ووضع موقف الحبيب والأب مزيداً من الضغط النفسي على "بسمة"
فقطعت علاقتها "بكريم" الذي رأت أنه يتخلّى عنها وقاطعت الأب الذي ظنّت
أنه يحرمها من حقّها في اختيار شريك حياتها برغبتها الذاتيّة، وصارت تتحاشى المكوث
في المنزل مع أباها وتقضي معظم وقتها في العمل ممّا أثار المشاكل بينها وبين أبيها
فتسبّبت بأفعالها في إصابته بالعديد من الأزمات القلبيّة التي هدّدت حياته أكثر من
مرّة خاصةً عندما أعلنت أنها مُضرِبةٌ عن الزواج رافضةٌ لكل من يتقدّم للارتباط
بها دون إبداء أسباب.
ومرّت الأيّام والأسابيع والشهور تترى حتى
جاء الحل من السماء فقد اختار الله عم "كريم" ليكون بجواره في الرفيق
الأعلى ثم لحقه والد "بسمة" بعد فترةٍ ليست بالطويلة فتلاقى الاثنان حيث
يستوي جميع البشر فلا ينظر الله إلى صورهم وأموالهم بل إلى قلوبهم وأعمالهم،
وأصبحت "بسمة" وحيدةً متوحّدة وقد زاد انزواؤها بمفردها حتى بدأ
"كريم" في التقرّب منها مرّةً أخرى بعد معرفته بوفاة أبيها محاولاً أن
يبرّر لها موقفه السليم وأن ينسيها ما شاب علاقتهما من عراقيل وأن يذكّرها بحبّهما
الذي تعاهدا على ألّا يموت، ولم تعاند أو تتردّد "بسمة" كثيراً فلم يزل
حبه ساكناً في قلبها ووجدانها فقبلت تودّد "كريم" وتفهّمت مبرّرات ما
كان منه وبادرت بإحياء غرامهما ووافقت على الارتباط الرسمي بمحبوبها الذي عاد
إليها بعد حرمانٍ وشقاء.
ولم ينقضِ وقتٌ طويل حتى استقل العاشقان قطار الحياة الذي مضى بهما عبر محطاتٍ عديدة: فهذه محطة الزواج والسعادة حيث قضى فيها الحبيبان أوقاتاً بهيجة تكلّلت بإنجابهما ولداً أوّلاً ثمَّ بنتاً بعده بثلاثة أعوام، وتلك محطة العمل حيث تخصّص "كريم" في علاج أمراض الكُلى وعملت "بسمة" كطبية أمراض نساء وتوليد، وهنالِك عدّة محطاتٍ تخلّلتها بعض المشاكل العابرة التي مرّت بهما دون أن تؤثّر في صُلب حبّهما الوطيد الراسخ وأيضاً بعض الفتور الذي ينتاب أي علاقة حبٍ من وقتٍ لآخر وكذلك بعض البُعد الذي يتسبّب فيه انشغال الزوج عن زوجته بالعمل وتناسي الزوجة لزوجها تحت وطأة اهتمامها بولديْها وبعملها أيضاً، ولكن على أية حال لم يتعطّل القطار أو يتوقّف عن المسير بل شقّ طريقه المقدور في دعةٍ وسلام.