هل صدق قوْل الراقصة اللوْلبيّة: "ذهب فاروق وجاء فواريق"؟
قرأتُ – في أحد
الجرائد – ما قاله الملك "فاروق" للصحفي البريطاني "نورمان
برايس" ضمن حوارٍ نُشِرَ في صحيفة "ذا صَنداي هيرالد" عام 1953 ..
واندهشتُ للغاية وعجبتُ بشِدّة وتحيّرتُ كثيراً للتفاوت بين موْقف الملك (الذي رفض
تركيب تكييفات لقصر "عابدين" مقر السُلطة وذلك في آخر حُكمه الميْمون)
وبين موْقف ضبّاط ثورة 23 يوليو 1952 (الذين سعوا لتركيب تكييفات أغلى ثمناً لنفس
القصر وذلك في أوّل حكمهم الرشيد لـ"مصر" المحروسة والمهروسة والمفروسة
أيضاً).
وكان مبعث اندهاشى
ومصدر عجبي ومدعاة حيرتي ما كنت أظنّه من أن الملك "فاروق" (كأي ملكٍ في
الدُنيا) كان يتَّصِف بالرخاوة والليونة والنعومة مع وفرة البذخ والإسراف والتبذير
لأنه تربّى في القصور الملكيّة حيث الرفاهية والتَرَف والسعة .. وأن ضُبّاط
الثوْرة (كباقي الضُبّاط في العالم) كانوا يتَّسِمون بالقساوة والصلابة والخشونة
مع كثرة الزُهد والاقتصاد والتوْفير لأنهم عاشوا في الثكنات العسكريّة حيث
التقشُّف والشَظَف والضيق.
ولكني حين تفكَّرتُ
قليلاً أيقنت أن تبرير هذا الفارق يبدو معقولاً ومنطقيّاً حين تقارن بين مَن شبعت
نفسه مِن أسباب العيشة المُريحة وبين مُحدَثي النِعمة الذين تبرّموا من الحياة
المُضنية خصوصاً لو كانوا من ضِعاف النفوس التوّاقين للسُلطة والمتطلِّعين إلى
الاغتراف من المال العام .. وصدق "عليٌ بن أبي طالب" حين قال:
"عاشِر نَفْساً جاعت بعد شبعٍ فإن الخيْر فيها أصيل، ولا تُعاشِر نَفْساً
شبعت بعد جوعٍ فإن الخيْر فيها دخيل" .. وصَحَّ قوْل الشاعر "عبد العزيز
السلمان" في كتابه "موارد الظمآن لدروس الزمان":
"تَجَنَّبْ
بُيُوتَاً شُبِّعَتْ بَعد جُوعِهَا ... فإنَّ بَقَاءَ الجُوعِ فيها مُخَمَّرُ
وَآوِي بُيُوتَاً
جُوِّعَتْ بَعْدَ شِبَعِهَا ... فإنَّ كَرِيمَ الأَصْلِ لاَ يَتَغَيَّرُ".
كما وصف أحد الشعراء
المجهولين ذلك الأمر عندما نَظَم هذيْن البيتيْن الرائعيْن:
"إيَّاكَ
إيَّاكَ أَنَ تَرجُو امْرأً حَسُنَتْ ... أَحْوَالُهُ بَعْدَ ضُرٍّ كَانَ قَاسَاهُ
فَنَفْسُهُ قَرَّتْ
(ظلَّتْ كما هي) مَا زَادَتْ ومَا نَقَصَتْ ... وذلِكِ الفقرُ فَقْرٌ ما تَنَاسَاهُ".
وأنا – سيّدي القارئ
– لا أقصد من هذا المقال أن أُدلِّل على أن الملك "فاروق" كان ملاكاً
يسعى في حُكمه لصالح المصريّين على حساب راحته .. كما أنني لا أرمي إلى شيْطنة
أولئك الضُبّاط الذين انقلبوا عليه وقبضوا على مقاليد الحُكم من بعده .. فهم
جميعاً (الملك والعسكر) – في نظري – لم يُقيموا للشعب المصري وزناً ولم يعملوا
أبداً إلّا لصالحهم وصالح مَن والاهم .. وبالتالي فليس هناك أسخم من سِتّي إلّا
سيدي .. فلم ينفعنا الحُكم الملكي ذو التاج كما لم يحوَّق معنا الحُكم العسكري ذو
النسر .. وأظن أننا نرى عدم وجود فارق بين المملكة الأردنية والجمهوريّة السوريّة
فمن حُفرة لدُحديرة يا قلب لا تحزن .. ولا اختلاف بين المملكة المغربيّة
والجمهوريّة التونسيّة فمن مُصيبة لبلوة يا قلب لا تبكي .. فالممالك العربيّة
تُشبِه الجمهوريّات العربيّة فمن طوبة لخرية يا قلب لا تلطم .. وطول ما النفوس
مريضة والأنانيّة متغلغلة والنوايا سوداء والضمائر خَرِبة فسيظل "أحمد"
زي الحاج "أحمد" ولن نصل أبداً إلى نصف ما وصلت إليه مملكة
"بريطانيا" أو جمهوريّة "فرنسا".
وربما صادف التوفيق
الراقصة "تحيّة كاريوكا" عندما قالت عبارتها الشهيرة: "ذهب فاروق
وجاء فواريق" والتي كانت سبباً في اعتقالها لمدة تزيد قليلاً على الثلاثة
شهور .. واحتراماً لها كراقصة في زمن الفن الجميل الذي يرعاه الزعيم الخالد أبو
"خالد" ("جمال عبد الناصر") واستجابةً لضغوط القوّة الناعمة
الطريّة المهلبيّة للأُمّة المصريّة فقد تم الإفراج عنها لتعود لممارسة عملها
الهام ودورها المرسوم لها وسط النُخبة الفنيّة بعد أن تعهَّدت بالابتعاد عن
استخدام لسانها الزالف فيما هو مكروه.
كما أطلق الصُحفي المشاغِب (حيث كان كثير الاعتقال قبل الثوْرة بسبب مقالاته الناريّة ضد الملك) والشهير آنذاك "أبو الخير نجيب" ذلك المانشيت الصحفي الذي توَّج مقاله: "طردنا ملكاً واستبدلناه بعشرة ملوك" .. وكان يقصد بالعشرة ملوك أعضاء مجلس قيادة ثوْرة يوليو .. وقد كتب هذا المقال إبّان أزمة مارس 1954 التي شهدت صراعاً على كرسي الرئاسة بين "محمد نجيب" رئيس الجمهورية حينئذٍ و"جمال عبدالناصر" زعيم الضباط الأحرار (أطلق عليهم البعض "الضبّاط الأشرار" ولكني أرى أن وصف "الضبّاط الأحرار" كان أكثر دِقّةً لأنهم كانوا "أحراراً" فيما يفعلونه بالبلد) والذين قاموا بالثوْرة البيْضاء المُبارَكة .. ولم يكتفِ الرجل بذلك العنوان المُثير بل انضم لنداء الرأي العام الذي طالب الضُبّاط بالعودة إلي ثكناتهم وتَرْك الحُكم للشعب برئاسة رئيسٍ مدني .. ولأنه لم يسبق له أن رقص في الملاهي والكباريهات ولم يستغل تضاريس جسمه المثير في خدمة الفن الجميل ولأنه رفض التعاون مع الحكّام الظلمة على حساب تغييب وعي الشعب ولأنه كان ذا مخٍّ تخين ولم يرضخ لمحاولات استمالته وتنييم ضميره ولأن الصحفيين ليس لهم ظهراً يحميهم لكوْنهم خارجين عن مظلّة القوى الناعمة المخمليّة فقد تم تقديمه للمحاكمة العسكريّة التي قضت عليه بالإعدام شنقاً .. ثم خُفِّفت العقوبة إلى السجن المؤبَّد رأفةً من الزعيم الأب الحنون "ناصر" حبيب الملايين .. وقد أفرج عنه بعد ذلك الرئيس المؤمن "أنور السادات" (كتّر خيره) بعد 19 عاماً فقط بعد أن تم إجباره على اعتزال العمل الصحفي ومنعه من كتابة أي حرف في أي سطر في أي مقالة في أي صفحة في أي جريدة في أيّتُها دوْلة .. وقد شوهد الرجل يوم وفاته – مرتدياً أسمالاً بالية – وهو واقفٌ في طابور الجمعيّة الاستهلاكيّة ليستجدي شراء فرخةٍ مُجَمَّدةٍ رخيصةٍ هزيلةٍ تقبع في قاع كرتونةٍ مستوْردة .. وعندما خرج من الجمعيّة – مزهوّاً بانتصاره وظفره بتلك الغنيمة وهو يُمنّي نفسه بوجبة زَفَرٍ شهيّةٍ بعد طول غياب – فوجئ وهو يعبر الشارع المُزدحِم (بالمُهَمَّشين من أمثاله) بسيّارةٍ مُسرِعةٍ أطاحت به وبالدجاجة وطرحته أرضاً غارقاً في دمائه الزكيّة .. وأخيراً أغمض عيْنيْه في راحةٍ وهدوءٍ بعد أن تجمّع حوْله الدهماء .. وعقب أن تأكّدوا من صعود روحه لبارئها (بعد طلوع روحه في الدنيا من الملك ومن العسكر على حدٍ سواء) قاموا بتسجية جثمانه الضعيف النحيل ببعضٍ من صفحات الجرائد التي طالما صال وجال بمقالاته فيها .. وشهد عابرٌ من المارّة بأن الصفحة التي غطّت وجه الفقيد وتلطَّخت بدمه كان عنوان المانشيت الرئيسي فيها: "العالم كله يُشيد بحريّة الصحافة في مصر"!!!