"أرواح بلا قبور" | الغابة الميّـتـة (2)
وعاشت "إيفيت" بعد ذلك أقل من سنةٍ
عانت فيها الكثير بعد أن اكتشف الأطبّاء وصول خلايا الورم السرطانيّة إلى الكبد والرئتيْن
والكليتيّن والنخاع قبل استئصاله مع عيْنيْها، وماتت "إيفيت" تاركةً
زوْجها "باراك" يصارع الشعور بالذنب ولوْم الذات على وقوفه متفرّجاً على
زوْجته وهي تذوي شيْئاً فشيْئاً حتّى لاقت مصيرها المحتوم، فأصيب بانهيارٍ عصبي
ثمّ بحالةٍ طويلة من الإكتئاب كان يتمنّى خلالها الموْت واللحاق بحبيبته الراحلة التي
دفنها بقبرٍ من الرخام الأسود بحديقة منزله الريفي المشرف على "الغابة
الميّتة"، وما إن تعافى تماماً واسترد أعصابه وحالته النفسيّة المعتادة حتّى
قرّر أن يهب نفسه ويكرّس حياته إلى مكافحة هذا المرض الملعون مهما كلّفه الأمر من
مالٍ وجهدٍ ووقت، فانتقل إلى مدينة "ملبورن" حيث يوجد بها مركز أبحاثٍ
لمكافحة مرض السرطان فالتحق به واشترى منزلاً ريفيّاً في إحدى الضواحي البعيدة عن
المدينة والذي كان مجاوراً للغابة الميّتة.
وتخصّص "باراك" في الأبحاث الدائرة
حوْل مرض "ميلانوما" العين واجتهد كثيراً حتّى استطاع أن يعرف خبايا هذا
المرض وآليّة تحوّل الخلايا السليمة إلى خلايا سرطانيّة وطبيعة المواد الكيميائيّة
والأدوية التي يمكنها أن تتدخّل في هذه الآليّة وتعطّلها فتمنع تكوّن الخلايا
السرطانيّة وتكافحها، ولكن "باراك" واجه مشكلةً عويصة في إجراء تجارب أبحاثه
فقد كان من مبادئ البحث العلمي وخطواته المتعارَف عليْها إجراء تجارب الدواء
الجديد على الأنسجة المراد تجريب الدواء فيْها - وهي هنا العيْن - المستَخلَصة من
الحيوانات التي يتم الحصول عليها وقتلها بطرقٍ أخلاقيّةٍ سليمة ثمّ بعد ذلك من
البشر المتبرّعين بتلك الأنسجة لصالح البحث العلمي بعد وفاتهم، فبعد أن أتمّ
"باراك" تجاربه على أعين الحيوان في يسرٍ وسهولة توقّفت تجاربه تماماً
نظراً لعدم وجود متوفّين متبرّعين بأعينهم، وأحالت هذه المشكلة أحلامه إلى سراب وضاع
أمله في الانتقام لحبيبته من هذا المرض الفتّاك، ولكن هيْهات هيْهات أن يقف شيءٌ
في طريق طموحاته وآماله التي يعيش الآن من أجلها ويحيا فقط ليحقّقها فقرّر قراراً
خطيراً : قرّر أن يحصل بنفسه على الأعين البشريّة من بعض الناس الذين يراهم غير
ذوي قيمة بعد أن يقتلهم، وبرّر لنفسه هذه الجريمة النكراء بأنّ هدفه من ذلك أسمى
من حياتهم التافهة وأنّ استفادة البشريّة جمعاء أعظم من قتل حفنة أشخاص لا تأثير
لهم ولا وزن في المجتمع، بل أقنع نفسه بأنّه كما سيفيد الإنسانيّة فإنّه سيفيد
هؤلاء الأشخاص لأنّه سيحوّلهم من نكرةٍ بلا فائدة إلى شهداءٍ للعلم والمعرفة.
ولم يضِع "باراك" وقتاً طويلاً في
التفكير والتبرير فشرع في التنفيذ دون إبطاء، وكان هدفه الأوّل أحد الشحّاذين
المسنّين الذين لا مأوى لهم في مدينة "ملبورن" فأجزل له في العطاء أوّل
يوْم ثمّ دعاه للغداء معه في اليوْم التالي دون أن يعرّفه بنفسه وفي اليوْم
الثالِث اقترح عليْه بأن يأخذه ليعيش معه في كوخٍ ملحق بمنزله الريفي ووعده بأنّه
سيتحمّل جميع مصاريفه وعلّل "باراك" له أفعاله تجاهه بأنّه يشبه أباه
الذي مات ويريد أن يكرمه، فصدّق الشحّاذ "باراك" ورافقه حتّى منزله
الريفي حيث أكرم "باراك" وفادته وظلّ يغدق عليْه بالطعام والشراب والفيتامينات
والأدوية وقطرات ومراهم العيْن ليجهّزه جيّداً لما يريد لأنّ الشحّاذ كان ضعيفاً
صحيّاً ومصاباً بالتهاباتٍ كثيرةٍ بعيْنيْه، وعندما أصبحت صحّة الشحّاذ جيّدة وشُفي
من التهابات عيْنيْه قدّم له "باراك" عصيراً به أقراصٌ مخدِّرة وسط
تشكّرات ودعوات الشحّاذ الذي تم تخديره من فوْره فأسرع "باراك" فاستأصل
عيْنيْ الشحّاذ ووضعهما في برطمانٍ به مادةٌ حافظةٌ للأنسجة ثم حمل جسده ووضعه داخل
برميلٍ ضخمٍ من البلاستيك المقوَّى ثم غمر الجثّة بكميّاتٍ كبيرة من حمض
الهيدروكلوريك الذي يأكل الأنسجة ويحوّل بقايا الجثّة إلى ما يشبه المومياء دون
انبعاث رائحة عفونةٍ منها، وانتظر "باراك" حتّى حلّ الليْل وفرغ الحمض
من عمله وانتهى تصاعد الأبخرة الناتجة عن تآكل أنسجة الجثّمان من داخل البرميل ثمّ
أحكم غلق البرميل جيّداً وو دحرجه ببطءٍ وحرص حتّى وصل إلى "الغابة
الميّتة" فحفر حفرةً عميقة وأسقط بداخلها البرميل ثم ردم الحفرة ليخفى معالم
جريمته.
ومكث "باراك" منكبّاً على إجراء
تجاربه العلميّة على عيْنيْ الشحّاذ لفترة ثلاثة أيّامٍ متواصلة لم يذهب إلى عمله
ولم يذُق فيها الطعام والنوْم والراحة إلّا قليلاً، وفي مساء اليوْم الرابع وجد
نفسه محتاجاً إلى متبرّعٍ آخر أو قل ضحيّةٍ أخرى ولكن بشرط أن تكون في صحّةٍ جيّدة
وفي عمر الشباب حتّى لا يضيع وقتاً في تجهيزها للتجارب، فارتدى ملابسه وترك منزله
متّجهاً إلى "ملبورن" حيث دخل إحدى الحانات وتعرّف على إحدى الغانيات وقدّم
لها الشراب وأغراها بالمال حتّى ترافقه إلى بيْته حيث رحّب بها وقدّم لها ذلك
العصير المخدِّر وكـرّر معها ما فعله بالشحّاذ.