فيمتوثانية من "بنسلفانيا"
ف دنيا فانية (1)
طرق الكيميائي
"أحمد طويل" باب مكتب رئيس القسم بكليّة العلوم ثم دفع الباب برفق وولج
داخل الغرفة الفخمة ذات الأثاث الفاخر والمكتب الوجيه الذي يجلس خلفه رجلٌ جليلٌ
ذو مهابةٍ على مقعدٍ وثير، ودار بينهما هذا الحوار :
- صباح الخير يا
دكتور "رفيع".
- صباح النور يا
"أحمد".. أقعد.
- سيادتك قريت موضوع
البحث بتاعي ف الدكتوراه.
- آه.
- طب إيه رأي سعادتك؟..
أتّكل على الله؟
- آه.. إنت تتّكل
على الله وتشوف لك موضوع تاني أحسن.
- آآآآ.. وده ما له
يا فندم؟
- مش حلو.. وكمان مش
مفهوم.
- إزّاي بس؟
- يا ابني لازم
تختار موضوع رسالة الدكتوراه بتاعتك في حاجة تفيد البلد اللي ليها أفضال عليك.. الحكاية
مش سد خانة وخلاص.
- يا افندم الموضوع
ده حيوي جداً للبلد وللعالم كلّه.. ده هوَّ ده المستقبل اللي جاي.. صحيح احنا لسّه
ف سنة 69 بس الموضوع ده ح يبقى حجر الأساس للكيميا الفيزيقيّة ف القرن الواحد وعشرين.
- إنت زي ما تكون
بتتكلّم مع واحد كفتجي.. أنا عارف أكتر منّك إن علوم الليزر انتشرت ف العالم
المتقدّم كلّه.. بس احنا هنا يا أفندي ف "مصر" يعني عايزين قرن كمان
علشان نلحق بركب التقدّم.
- وفيها إيه لمّا
نبقى روّاد وسبّاقين ف المجال ده؟.. تخيّل حضرتك الانقلاب اللي ح يحصل لو أبحاثي
نجحت وقدرت إني أصوّر واراقب حركة الذرّات داخل الجزيئات أثناء
التفاعلات الكيميائيّة عن طريق تقنية الليزر السريع في جزء من مليون مليار جزء من
الثانية.. والجزء ده أو الوحدة الزمنية دي ح اسميها "فيمتوثانية".
- لأ.. أنا من رأيي
تسمّيها "سوْسن".. ها ها هاه.. يا ابني بلاش عَبَط.. ح تضيّع عمرك ف وهم
وكلام فاضي.. يا ابني دي الدنيا فانية.
- يعني إيه؟
- يعني تسمع الكلام
المفيد علشان تاخد الدكتوراه على خير وتعيش عيشة أهلك.. إنت الماجستير بتاعك كان ف
إيه؟
- كان ف علم الضوء.
- عظيم.. اعمل رسالة
الدكتوراه عن.. آآآآآ.. مثلاً عن مسار الشعاع المنكسر داخل المنشور الثلاثي وعلاقته
بالقاعدة ولا مؤاخذة.. أو.. آآآآآ.. آه.. دي أسهل.. دراسة مقارنة بين طول الموجة والتردّد
الكهرومغناطيسي للونين البمبة والفوشيا.. ها؟.. إيه رأيك؟
- ح افكّر.
- ماشي يا خويا.. فكّر
براحتك.. بس خد بالك.. فترة قيدك كمعيد ح تنتهي السنة دي.. يعني لازم أوافق لك على
موضوع الرسالة في خلال شهرين زي ما اللوايح بتقول.. وزي ما الدكتور
"سليمان" الله يرحمه وافق على تعيينك قبل ما يموت علشان حيا الله طلعت
أوّل الدفعة فأنا من حقّي قانوناً إني أكتفي بمدّة خدمتك دي واجيب مكانك العاشر ع
الدفعة لو حبّيت.. وترجع تتعيّن ف مصلحة الصرف الصحّي زي ما كنت.. اتفضّل شوف
مصلحتك.
- حاضر.. بعد إذنك.
- آه.. واعمل حسابك..
ح تدّي كل محاضرات السكاشن العملي والنظري بتاعة سنة تانية وتالتة.
- طب و"حمدي"
راح فين؟.. ما هو معيد زيي.
- لأ مش زيّك.. ده
خاطب بنت خالة ابن عم سلفة عديل العميد ذات نفسه.. ومحتاج يأجّز كام أسبوع كده
علشان بيشطّب شقته وبيفرش العفش.. ده غير أجازة الجواز.. عندك اعتراض؟
- أمري لله.. حاضر.
وانصرف
"أحمد" وقد احمرّ وجهه من الغضب والحنق على الأوضاع المتردية بجامعته وقرّر
أن يبحث عن مستقبله في مكانٍ آخر أو بلدٍ آخر يقدّر قيمة العلم والعلماء.
وبعد عدّة سنوات نجح
"أحمد" أن يحوز درجة الدكتوراه من جامعة "بنسلفانيا" ثم حصل
على جنسيّة "الولايات المتحدة الأمريكيّة" التي آمنت به ورعته وتبنّت
أبحاثه إلى أن نجح فيما فشل فيه "بمصر" فساهم في تحقيق فتح عظيم في مجال
العلم واستفادت منه البشريّة جمعاء في مجالاتٍ عديدة واستحق عن جدارة عدّة جوائز
عالميّة أكبرها جائزة "نوبل" في الكيمياء فذاع صيته ووصلت سمعته
العلميّة أخيراً إلى وطنه "مصر" بعد أن لفظته جهلاً وعمداً.
وعندما علم
المسؤولون في "مصر" بإنجازاته بدأوا في التقرّب له والتزلّف إليه طامعين
في مشاركة هذا العالم النابه مجده الذي حارب وحده لتحقيقه ؛ فتمّت دعوته لزيارة
بلده الأوّل "مصر" لتقليده أرفع الأوسمة والقلادات، وهكذا عاد الرجل مع
زوْجته إلى بلده التي صفح عنها بعد عشرين عاماً فكان أوّل ما يفعله بعد نزوله من
الطائرة هو تقبيل أرض المطار الذي دخل مبناه وقد جاشت مشاعره بالحنين والشوْق
خصوصاً بعد أن رأى جمعاً حافلاً من الجماهير المصريّة تحتشد خارج صالة كبار
الزوّار فقال لزوْجته بصوْتٍ متهدّج وهو يغالب دموعه :
- شايفة يا
"ريما".. ما كنتش متخيّل إن الناس فرحانة بيّ للدرجة دي.
- إزّاي بقى!.. دول
ولاد بلدك.. وأكيد فخورين باللي حقّقته ف بلاد برّه.
- أنا ده الوقت بس
حسّيت إني كنت غلطان ف حقّهم لإني كنت بعيد عنهم الفترة دي كلّها.
- خلاص.. إحنا فيها..
من هنا ورايح نيجي "مصر" كل سنة.
- كل سنة إيه!.. ده
انا بافكّر اقعد هنا على طول.. ح الاقي فين كل الحب ده؟
- معقولة وح تسيب
شغلك برّه بعد اللي وصلت له ده؟
- كفاياني بقى تعب وشقى..
الناس دول ليهم حق عليّ.. أنا من واجبي إن أفضل وسطهم واعمل حاجة للبلد علشان أرد
جمايلهم عليّ.
- قرّب كده نشوف
اليفط اللي شايلينها.
- ح تعرفي تشوفيها
من هنا؟.. أنا ما معاييش النضّارة.. كاتبين إيه؟
- فيه يافطة كبيرة
مكتوب فيها : "نوّرتم وطنكم مصر".
- فيهم الخير واللهِ..
"مصر" منوّرة بأهلها دايماً.
- ويافطة تانية
مكتوب عليها : "فوزكم شرف لنا جميعاً".
- أنا جسمي قشعر وحاسس
إن الدمعة ح تفر من عيني.
- وكمان واحدة كبيرة
بتقول : "الليلة عيد ع الدنيا سعيد".
- ها ها ها.. وحشتني
خفّة دمّهم ولاد الإيه.. إيه تاني؟
- بعدين أكمّل لك
أحسن وصلنا الجوازات.. هات باسبورك.
- أهُه.
- مساء الخير يا
حضرة الظابط.
- مساء النور.. إسمحي
لي بجوازات السفر.
- اتفضّل.
- هممم.. تمام تمام..
خلاص كده.. اتفضلوا.. يمين على طول.. ح تاخدوا الشنط من ع السير وتتفتّشوا.
- بس صالة كبار
الزوّار من هناك.. عند الزحمة دي.
- وحضرتك إيه علاقتك
بالفي آي بي؟
- ما هو انا ابقى
الدكتور "أحمد طويل".
- إتشرّفنا.. وبعدين؟
- أنا اللي أخدت
جايزة "نوبل".. عارفها؟