"مصر"
مقبرة المصريّين (2)
- طب وما قلتش ليه
الحاجات الكويّسة اللي المصري بينفرد بيها : الوطنيّة والتديّن والكرم والطيبة وخفّة
الدم والصبر وعمل الواجب وروح العيلة والذكاء والتسامح وعدم الشماتة والنخوة وتقديس
الشرف والقناعة والرضا والشهامة والجدعنة.
- ولوْ.. السيّئات
تغلب الحسنات وتخلّيني أصر على عدم الخِلفة.. يا ستي أنا خايف اجيب عيّل يدعي عليّ
لمّا يكبر علشان جبته ف أم المعمعة دي.. مش كفاية الخازوق اللي احنا واخدينه ف
البلد دي.
- حرام عليك تحرمني
من إحساس الأمومة اللي كل ست بتحلم بيه.. أهو انت بقى اللي أناني وما بتحبّش إلّا
نفسك وسلبي وانهزامي وكمان........
- ياااه.. هوّ ده
رأيِك فيّ؟
- إهئ إهئ.. "عمر"..
أنا باحبّك قوي ونفسي أخلّف منّك ولد.. أرجوك.
- وانا كمان واللهِ
باموت فيكي.. بس مش عايزين الحب ده يعمينا عن الحقيقة المرّة اللي احنا عايشين
فيها.
- خلّي عندك أمل ف بُكره..
الدنيا كلّها ح تتغيّر للأحسن مش "مصر" بس.. ده احنا دخلنا ع القرن
الواحد وعشرين من خمس سنين وبقى فيه حاجات كتير ممكن تعمل انقلاب ف الكون كلّه.. بقى
فيه موبايل وكمبيوتر وإنترنت.. مش ح يبقى فيه شعب قافل على نفسه وعلى أوْضاعه
الغلط.. الناس ف البلاد كلّها ح تعرف قيمة الحريّة اللي بيمارسها الغرب وح يبدأوا
يطالبوا بيها ويصلّحوا من نفسهم.. ما تبقاش ضيّق الأفق وباصص تحت رجليك.
- خلاص.. لمّا ده
يحصل ف "مصر" نبقى نخلّف.
- وافرض إنه حصل بعد
عشرين سنة بعد ما اكون عجّزت.. ح اخلّف إزّاي ساعتها؟.. بأثر رجعي؟
- ................
- طب ح اقول لك على
حل كويّس : مش انت بتعمل معادلة وبعدين ح تعمل زمالة ف الجراحة؟
- آه.. علشان نهِِّج م
البلد دي.
- خلاص.. إحنا نمارس
حياتنا عادي ونخلّف عيّل أو اتنين وندّي نفسنا مهلة خمس سنين كمان.. واللهِ الأمور
مشيت ف "مصر" كويّس وحسّينا إن فيه أمل ف البلد خير وبركة آدينا قاعدين
وماشيين ف حياتنا الطبيعيّة.. ولو - لا قدّر الله - الدنيا ف "مصر"
اتكعبلت أو فضلت زي ما هيّ يبقى ناخد عيالنا ونهاجر "أمريكا" ولّا "استراليا"..
ها.. قلت إيه؟.. ها.. علشان خاطري بقى.. إنت ما بتحبّنيش ولّا إيه؟
- باحبك والله.. بس..
أصل..
- وحياتي عندك.
- أنا خايف ييجي
اليوم اللي نندم فيه على كده.
- إن شاء الله ح
تكون كل حاجة عال العال.. ما تبقاش غلس بقى.
- ماشي يا ستّي.. علشان
خاطرِك إنتي بس.. بس اعملي حسابِك انتي المسؤولة قدّامي عن العيّل اللي جاي وعن
صحّته وتربيته.
- ها ها ها.. وانت
رحت فين يا خويا؟.. ح تخلع من ده الوقتِ.. إن شاء الله ح يتربّى ف عزّك كده لغاية
ما نجوّزه ونشوف أحفادنا.
وانتهى جدلهما
البيزنطي - الذي اعتادا أن يخوضا فيه منذ زواجهما - بانتصار الزوْجة التي فرحت
فرحاً شديداً بما آلت إليه الأمور مع زوْجها، ومرّت الشهور سريعاً حتّى حملت
"سهير" ثم وضعت مولودتها الأولى وأسمتها "أمل" التي ملأت حياة
والديْها أملاً ورجاءً وتطلّعاً نحو مستقبلٍ أفضل في وطنٍ أجمل وأعدل، ولم يكن
ينقضي يومٌ إلّا وغرس الأبوان فيه حب الوطن والناس والأخلاق الحميدة والسلوك
القويم ودماثة الطباع داخل نفس ابنتهما التي نشأت مطيعةً نقيّةً طاهرةً بريئة تكاد
تخلو من العيوب والهفوات التي تتحكّم بمن في مثل سنّها الطفولي، وأدرك
"عمر" خطأه عندما كان يرفض الإنجاب فقد أصبحت "أمل" قُرّة عيْنيْه
وفلذة كبده ورمز الغد الواعد بكل خيرٍ ونَفعٍ له ولبلاده، أمّا "سهير"
فقد كانت ترعى ابنتها في كل صغيرةٍ وكبيرة واضعة نصب عيْنيْها المسؤوليّة الجسيمة
الملقاة عليها في تربيتها الصحيحة وتلقينها الصواب لتنشأ عضواً مفيداً في المجتمع
وتنتشل - مع نظرائها وأندادها - الوطن ممّا هو فيه من عثراتٍ وبلايا، ومع ذلك لم
يتغيّر شيءٌ يذكر من طباع الشعب الفاسدة بل استحكمت وساءت أكثر فأكثر فالله لا
يغيّر ما بقوْمٍ حتّى يغيّروا ما بأنفسهم ؛ ممّا دعا "عمر" إلى التصميم
على الهجرة بعد مضي خمس سنواتٍ على اتفاقه مع "سهير" فسعى لعمل
الإجراءات الصعبة الخاصّة بالهجرة والتي لا يقدر على المضي فيها إلّا كل ذو علمٍ
أو مال فبلاد العالم الأوّل لا يقبلون أن يعيش بينهم غريب إلّا من كان متميّزاً أو
قادراً، وحاز "عمر" على الميزتيْن خلال السنوات الماضية فقد اجتاز جميع
الاختبارات العلميّة التي تؤهّله ليكون طبيباً متفرّداً بين أقرانه في الخارج كما
جمع قدراً وفيراً لا بأس به من المال بعد أن كدّ في عمله وباع أغلب ما ورثه عن
والديْه، ولم يتبقَّ سوى بعض الإجراءات والتدابير الشكليّة والتي لا يتأخّر
إنجازها كثيراً من ناحيته ومن ناحية زوْجته وابنته.
وفجأة حدثت المعجزة ؛
فقد انفجر بركان 25 يناير 2011 واستيقظ الشعب الخامد على يد خيرةٍ من شبابه وصفوته
وانتفض الشعب كلّه معهم ليتخلّص من سوْءاته ويحجب عوْراته وينقّح من سلوكه فظهر
أحسن وأحلى ما في الشعب المصري من صفاتٍ وسجايا، وشعر الناس بأن التغيير آتٍ وأن
الأحلى قادم، ولم يفُت "عمر" و"سهير" ملاحظة ما طرأ على الناس
من تحولٍ واختلاف ما بين عشيّة وضحاها وأصبح حلمهم واقعاً جميلاً : زاد انتماء
الشباب لوطنهم ونفضوا عن كاهلهم حالة اللامبالاة التي كانوا يعيشون فيها أو
بالأحرى تعيش هيّ فيهم فنزلوا الشوارع ينظّفونها من القمامة والقاذورات وقاموا
بطلاء الأرصفة ووقفوا ينظّمون المرور ويحرسون المنازل والمصانع في غياب الشرطة - صار
الناس يبتسمون في وجوه بعضهم البعض وكأنهم معارفٌ أو أصدقاء ويفسحون لبعضهم المكان
ليمرّ غيرهم عبره في إيثارٍ وحب بعد أن تخلّوا عن أنانيتهم وحبهم لذاتهم فقط -
استفاد الناس من أخطائهم السابقة وباتوا يصمّمون على المشاركة في محافل الانتخابات
بعد أن عرفوا أن لرأيهم قيمةً يُعتَد بها وقادرةً على التغيير - تحلّى الناس
بالصبر في وجه الظروف الصعبة وتكاتفوا مسلمون ومسيحيّون ضد من حاول الرجوع إلى
الوراء وأصبحوا يجاهرون بآرائهم دون خوْف - ناهيك عن بعض الإرهاصات الأخرى التي
أشعرت الشعب بقيمة وطنه وجعلت "عمر" يخجل من نفسه لرغبته في الهجرة في
ذلك التوقيت المصيري الذي يمرّ به بلده خاصةً وقد رأى بنفسه العديد من المصريّين
المغتربين في الخارج وهم يعودون لوطنهم ليشاركوا في بناء "مصر" الجديدة
حاملين على أعتاقهم لواء التغيير والإصلاح، وتفاءل "عمر" خيراً بمستقبل
بلاده وحمد الله على أنّه أخّر هجرته ليمكث في وطنه وينعم بالعيش الدافئ بين
أحضانه مع زوْجته وابنته.