الغابة الميّـتـة (1)
أشرقت شمس الصباح على بحيْرة "الصخرة
الزرقاء" التي تبعد مائة كيلو متر عن مدينة "ملبورن" بجنوب
"أستراليا" فأسرع "باراك" بإنهاء ما بدأه من عمل فردم الحفرة
التي حفرها بأرض الغابة التي تشرف على أحد الخلجان المتطرّفة للبحيْرة والتي
تُعرَف باسم "الغابة الميّتة" نظراً لاحتوائها على الآلاف من الأشجار
التي ماتت بعد أن غرقت تحت مياه الفيضانات التي شهدتها البلاد قبل أن يُبنى السد
على ضفاف البحيْرة.
وعندما انتهى "باراك" من ردم حفرته
تماماً تلفّت حوْله فوجد الغابة الموحشة وقد لفّها الضباب من كل جانب فتعسّرت
الرؤية في غداة ذلك اليوْم البارد من أيّام الشتاء، فسار الرجل في تؤدّةٍ تجاه
بيْته الريفي المنعزل وهو يصفّر بفمه في لا مبالاة جارّاً جاروفه الثقيل خلفه
راسماً خطاً على التربة النديّة حتّى ألقاه أمام الباب قبل أن يدخل البيْت ويتداعى
على أقرب مقعدٍ من المدفأة التي كان حطبها المشتعل يُصدِر كصيصاً وفرقعةً مكتومة،
وطفق "باراك" يشعر بالحرّ فقام وخلع معطفه وتمدّد على الأريكة وراح
شريطٌ من ذكرياتٍ عمرها تسع سنواتٍ يمرّ في مخيّلته فرأى مشاهداً من حياته الماضية
تمرّ سريعاً أمام عيْنيْه :
||||| كان مشهداً جميلاً يوم تخرّجه بمرتبةٍ
عاليةٍ من كليّة الطب مع زملائه حين أقسموا قَسَم "أبوقراط" وتعهّدوا بالإلتزام
بأخلاقيّات وواجبات المهنّة كأطبّاء، وبعد فترة بدأ "باراك" يمارس عمله
كطبيبٍ للعيون بإحدى مستشفيات "سيدني" وأنهى دراساته العليا في زمنٍ
قياسي، وفي أحد الأيّام جاءت له مريضةٌ اسمها "إيفيت" تعاني من إحمرارٍ
بعيْنيْها وتشويشٍ بالنظر واضطرابٍ بالرؤية فتعجّب "باراك" من أن تعاني
هاتان العيْنان الزرقاوان الجميلتان من أمراض وعندما أتمّ كشفه عليْها شخّص حالتها
بأنّها إلتهابٌ فيروسي بقزحيّة العين ووصف لها علاجاً ناجعاً لذلك ولكنّها تردّدت
عليه أكثر من مرّةٍ تزعم فيها استمرار معاناتها من نفس الأعراض وكان كل مرّةٍ
يناظر فيها "باراك" حالتها يجدها في تحسّنٍ مستمر فاستشفّ أنها ربّما
تدّعي عدم الشفاء لتُكْثِر من مقابلته والجلوس معه بعضاً من الوقت وربّما ينتابها
نفس الشعور بالراحة والألفة عندما يجتمعان معاً، ولم يضيع "باراك" وقته
في التردّد فدعاها لقضاء أمسية يوم السبت معه في إحدى المطاعم الكبيرة في
"سيدني" ثمّ اصطحبها لإحدى الحانات حيث صارحها بشعوره نحوها وصارحته
بحبّها واتفقا - في عقلانيّة شديدة - على أن يقتربا من بعضهما أكثر ويأخذا وقتاً
كافياً لمعرفة ما يجهلا عن بعضهما وألّا يتعجلا في ارتباطهما حتّى يصدّق العقل
بتوقيعه على ما كتبه القلب في أوّل صفحةٍ من عهدهما معاً.
واستمرّت علاقتهما شهوراً تأكّد فيها كلٌ منهما
من إحساسه نحو الآخر ومن انسجامه مع طباع رفيقه في درب الحياة فتزوّجا في حضور
معارفهما وأقارب "باراك" فقط حيث كانت "إيفيت" وافدةً على
"استراليا" من "الولايات المتّحدة" بعد وفاة أبويْها في حادث
سيْرٍ فانقطعت صلتها - الضعيفة أصلاً - بأقاربها، وعاش الزوْجان في سعادةٍ وهناء.
وبعد سنتيْن عادت شكوى "إيفيت" من
عيْنيْها للظهور مرّةً ثانية على سطح الأحداث ولكنّ "باراك" الذي صار ذو
خبرةٍ أكثر في مهنته طمأنها وأعطاها نفس العلاج السابق الذي لم يؤدّي إلى أي
تحسّنٍ فاضطر "باراك" أن يعرضها على أستاذه في المستشفى علّه يكتشف ما
استعصى عليه وفشل في معالجته، وجاء رأي الطبيب الأستاذ مخيّباً لآمال
"باراك" فقد شخّص الأستاذ مرض "إيفيت" بأنّه ورمٌ خبيثٌ اسمه
"ميلانوما" أصاب الطبقة الوسطى لكرة العيْن التي تسمّى "مشيمة العيْن"
وطلب عمل أشعاتٍ على العيْنيْن فجاءت النتيجة غريبةً ونادرة حيث تبيّن إصابة
"إيفيت" بهذا الورم الخبيث في كلتا عيْنيْها وليس عيْناً واحدةً فقط كما
هو شائع، كما تبيّن أيْضاً أن الورم وصل مرحلةً متأخّرة بعد أن تمكّن من العيْنيْن
وتغلغل في باقي أنسجتهما، وأحس "باراك" بالذنب لفشله في التوصّل لحقيقة
مرض زوْجته منذ الوهلة الأولى فقد كان من الممكن القضاء على الورم نهائيّاً لو
تمّت مكافحته وهو في مراحله المبكّرة ولكن الشفاء الكامل الآن بات من المستحيل.
ومرّت شهور لم يُهزَم فيها المرض اللعين أو
حتّى يتقهقر رغم محاربته بالأدوية الغالية والعلاج الكيماوي المرهق وجلسات الأشعة
ذات الأعراض الجانبيّة العديدة ؛ بل زادت حدّته ونما حجمه حتّى أدّى إلى أن تفقد
"إيفيت" نظرها تماماً واضطر الأطبّاء أن يتّخذوا قراراً حاسماً باستئصال
كرتيْ العيْن كاملتيْن خوْفاً من انتشار المرض المباشر إلى الأنسجة المجاورة أو
انتشاره عبر الدم والغدد الليمفاويّة، وأصبحت "إيفيت" الجميلة عمياء
ترتدي نظّارةً سوْداء ليْل نهار لتداري بها تجويفيْ محجريْ عيْنيْها المفقودتيْن واللتيْن
تم استخراجهما ووضعهما في برطمانٍ من الزجاج لإيداعه بمتحف المستشفى للحالات
النادرة.