صورة واحد داعية ديني (5)
-
واللهِ انا مستغرب
ازاي انت ماشي على رجليك لحد ده الوقت .. ده يدل على إنّك راجل مبروك وربّنا راضي
عنّك .. وبعدين حكاية الموت دي بتاعة ربّنا .. الوقت اللي احنا بنتنبّأ بيه ده
بيبقى افتراضات وحسابات طِبيّة نظريّة مش أكتر .. إنما الموت ده بتاع ربّنا ..
وبعدين مين عارف؟ .. اللي يخلّيك لغاية ده الوقت من غير شلل قادر يشفيك .. ما فيش
حاجة بعيدة عن ربّنا.
-
طيّب .. لله الأمر
من قبل ومن بعد .. لله الأمر من قبل ومن بعد .. شكراً يا دكتور .. السلام عليكم.
وانصرف "عبد الظاهِر" من منزل
طبيبه وقد اسودَّت الدُنيا في عيْنيْه، وحار فيما يجب عليه فعله إزاء هذه المُصيبة
التي حلّت على كاهله، ولم يعُد لقصره في "القاهرة" بل ذهب لمسجده القديم
في القرية وأمر العاملين به بفتحه فقد كانت الساعة قد تعدّت العاشرة مساءً وطلب
منهم أن يذهبوا هم ليناموا ويتركوه وحيداً في المسجد حيث يُريد أن يختلي بنفسه حتّى
صلاة الفجر.
وقضى الليْل كلّه يستعرض حياته وما دار فيها
وكيف عاشها وفيمَ استغلّها، وكان – هذه المرّة – ينظر للأمور نظرة المُحايد الذي
يحكُم على الأمور بغير غرضٍ أو هوى، فأدرك أنه لم يكُن يفتئِتُ على الله ولم
يستهِن بجلالته فحسب بل تجاوز كل الحدود واستحل كل الحُـرُمات وسمح لنفسه بأن
يستغل الدين الإسلامي السمح في غير محلّه كأبشع ما يكون الاستغلال، وبكى من فرط
ندمه كما لم يبكِ من قبل وتاب وأناب وعقد العزم على أن يُصحِّح أخطاءه وخطاياه من
قبل أن يأتي يوْمٌ لا بيعٌ فيه ولا خِلال، وحَلَّ عليه الفجر فأمَّ الناس وأطال في
قراءة الآية التي تقول: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى
اللَّهِ تَوۡبَةً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمۡ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمۡ سَيِّئَاتِكُمۡ
ويُدۡخِلَكُمۡ جَنَّاتٍ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا الأَنۡهَارُ يَوۡمَ لا يُخۡزِي
اللَّهُ النَّبِيَّ والَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمۡ يَسۡعَى بَيۡنَ
أَيۡدِيهِمۡ وبِأَيۡمَانِهِمۡ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتۡمِمۡ لَنَا نُورَنَا
واغۡفِرۡ لَنَا إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَىۡءٍ قَدِيرٌ".
الإثنيْن:
في الصباح كان "عبد الظاهر" قد وصل
لقصره المنيف وجلس إلى مكتبه وأخذ يُجري عدّة مكالماتٍ تليفونيّةٍ هامّة:
-
السلام عليكم ورحمة
الله وبركاته .. إزيّك يا حاج .. أنا الحمد لله كويّس .. أبداً أصلي كنت عايزك في
موضوع كِده .. خير إن شاء الله .. كنت عايزك تشيل البضاعة بتاعتك من عندي .. لأ ما
حصلش حاجة .. أنا أصلي خلاص ح ابطّل اشتغل ف تجارة البخور دي .. باقول لك ما فيش
حاجة .. هوّ كده وخلاص .. يا سيدي مش عايز فلوسي خلّيها لك .. ما اعرفش .. ما ليش
دعوة .. ماشي .. الإسبوع الجاي بالكتير .. ما تآخذنيش لو عدّى يوم كمان أنا ح ارمي
البضاعة ف الترعة اللي قُدّام الجامع .. السلام عليكم.
-
السلام عليكم ورحمة
الله وبركاته .. معلهش يا أخت "فاتن" صحّيتك من نومِك بدري .. لأ مش
رسمي ولا حاجة .. بس بِدّي أقول لِك إنِك تنسي أي حاجة بينّا .. ما فيش سبب ولا
حاجة .. كفاية على قَد كده .. يا ستّي خلّينا اخوات احسن .. ما عملتيش حاجة غلط
انا اللي الغلط راكبني من ساسي لراسي .. الكلام ده مش ليكي لوحدِك .. ياريت تتّصلي
بكل واحدة فيهم وتبلّغيهم بالكلام ده .. متشكِّر .. سلام عليكم.
-
السلام عليكم ورحمة
الله وبركاته .. إزيَّك يا مِتر .. كنت عايزك تيجي لي شويّة النهار ده .. طبعاً
خير .. كُل اللي ييجي من عند ربّنا كويّس .. أصلي عايز املّيك الوصيّة بتاعتي ..
الله يكرمك ويطوّل ف عُمْرك انتَ .. يا راجل ماحَدِّش عارف أَجَله إمتى ولا ضامن
الموت م الحياة .. لا والله .. لمّا تيجي ح اقول لك .. آه باقول لك .. عايزك كمان
قبل ما تيجي لي تعدّي على إدارة اللجنة الانتخابيّة وتبلَّغهم بإني مُتنازِل عن
التقدُّم للانتخابات .. يا عم ما فيش حاجة .. لمّا تيجي بَس .. مش انت معاك توْكيل
مني .. اتصرَّف .. يعني إيه مُهلَة؟ .. مش ح ينفع خالص؟ .. لأ .. ما كُنتِش اعرف
إن وقت الانسحاب عدّى .. خلاص خلاص .. أنا لو ربّنا ادّى لي العُمْر ح ابقى اروح
البلد بُكره وابلَّغ أهل البلد بقراري ده وانصحهم ينتخبوا الحاج "مهران"
بدالي .. طيّب .. ما تتأخَّرش .. السلام عليكم.
و بعد أن انتهى "عبد الظاهر" من
بعض المكالمات الأخرى التي كان يُحاوِل فيها أن يُقوِّم نفسه ويُصلِح عثراته ويُنقِّح
من سقطاته حتّى يُلاقي مصيره المحتوم ويُقابِل الله وهو تائبٌ عسى أن يغفر له؛ دخل
عليه أحد الخدم وأبلغه بأن رجلاً يُريد مقابلته لأمرٍ هام، ولكن الإمام لم تكُن
لديه الرغبة في مقابلة أحد فطلب منه أن يقول للرجل أي شيءٍ يعفيه من مقابلته إلّا
أن الخادم عاد وقال للإمام أن الرجل يُلِّح في مقابلته لأمرٍ فيه حياةٌ أو موْت،
فسمح الإمام على مضضٍ بدخول الرجل وإذا به مُوظَّف مركز الأشعة الذي سلّم له
المظروف أمس وكان معه مظروفٌ آخر هذه المرّة، وقال الرجل وهو يزدرد ريقه الجاف
بصعوبة:
-
لا مؤاخذة يا شيخنا ..
أنا جاي لك على مَلا وِشّي .. أصل النهار ده وانا باسلِّم الأشعة لمراة الشاب
المشلول اللي فضيلتك شُفته عندنا امبارح ده لقيت الظرف بتاعُه مكتوب عليه قُدّام
التشخيص "نورمال ستادي" .. يعني الأشعة طبيعيّة .. قُلت لنفسي أكيد فيه
حاجة غلط إكمّن الشاب ده بيعمل أشعة عندنا كل شهر علشان يتابع حالته .. وانا عارف
إن عنده وَرَم ف المُخ .. وافتكرت إني لمّا جيت اسلِّمك الظرف بتاعك امبارح ما
رضيتش ازعَّلك واقول لك إن التشخيص مكتوب ع الظرف "برين تيومار" يعني
ورم في المخ .. قُمت على طول وراجعت ع الشُغل تاني اكتشفت الغلطة الفظيعة اللي انا
وقعت فيها امبارح .. أصل فضيلتك لمّا غيّرت دورك مع الشاب ده نسيت ابدِّل الأسامي
ف الكمبيوتر .. علشان كده الأشعة بتاعته اللي فيها الورم اللي ف المخ طلعِت بإسمك
واستلمتها انت .. والأشعة الطبيعيّة بتاعتك اللي ما فيهاش حاجة ف المُخ طلعِت
بإسمه وكان ح يستلمها هوَّ .. بس ربّنا سَتَر وقدرت الحق اصلّح غلطتي قبل ما حَد
يحِّس وجيت اخد الظرف اللي ادّيتهولك امبارح وادّيك الظرف الصَح بعد ما صلّحت
الاسم وقبل ما حضرتك تعرِض الأشعة على الدكتور بتاعك .. واللهِ أنا باشتغل في
المركز بقى لي سبع سنين أوّل مرة تحصل مني غلطة زي كده .. معلهش سامحني .. وأرجوك
ما تجيبش سيرة لحَد ف المركز بالحكاية دي أحسن يقطموا رقبتي.
وما إن سمع "عبد الظاهر" هذا
الكلام حتَّى استغرق في ضحكٍ متواصلٍ وصل إلى حد البُكاء وسط دهشة المُوَظَّف الذي
سلّمه المظروف الصحيح وأخذ المظروف الآخر وانصرف وهو يتعثّر في مشيَته، ولم يتوقّف
"عبد الظاهر" عن الضحك المُبكي إلّا ليتكلّم في هاتفه وقد أحس وكأن
حِملاً ثقيلاً كالطوْد العظيم قد انزاح عن كاهله وطفق يقول:
-
آلو .. حبيب قلبي ..
معلهش يا حبيبي ما تاخُدش على خاطرك مني .. معلهش .. معلهش .. أصل انا جات لي مُكالمة
وِحشة كده ع الصُبح وجات فيك انت .. لا واللهِ .. مِنّه لله بقى .. واحد قال لي
إنك بتقول عليّ كلام مش ولا بُد .. لأ انت ما تعرفوش .. ما انا استغربت في الأوِّل
وقلت لنفسي مش معقول انت اللي تقول عليَّ كده .. ده احنا واكلين مع بعض عيش وبخور ..
ها ها ها .. ما انا عرفت إنه كدّاب ابن كلب .. طبعاً طبعاً .. زي ما احنا .. ماشي ..
مع السلامة يا شريك الهَنا .. باي باي.
-
آلو .. صباح العسل
اللي عليه قشطة وكريمة .. إنتي صدَّقتي؟ .. وانا اقدر استغنى عنِّك يا عُمري .. يا
شيخة ده انا كنت باهزَّر .. قلت اشوف غَلاوتي عندِك وح تعملي إيه من غيري .. بس
انا مقموص منِّك .. شكلِك كده بايعاني وما صدّقتي اللي انا قُلتُه .. لأ طبعاً ..
أوعي تكوني اتّصلتي بحد؟ .. آه .. ما انا عارف إن كلكم بتصحوا ع العصر .. خلاص ..
اشوفِك الليلة دي .. خُدي بقى البوسة دي موَقَّتاً عُقبال ما نتقابِل .. إمممممه.
-
آلو .. معلهش يا مِتر
مش ح اعطّلك كتير .. إلغي ميعاد النهار ده احسن طلع لي مشوار كده ما كانش على
البال .. لأ لأ .. مش ح اروح البلد النهار ده .. ح اروح اقعُد هناك من بُكره علشان
الانتخابات فاضل لها اربع تيّام زي ما انت عارف ولازم ازِن على ودان أهل البلد
علشان ينتخبوني .. نسيت اقول لك إني عرفت إن الحاج "مهران" طلع ابن كلب ..
يا راجل ده عامل إن تحت القبّة شيخ وفاكِر نفسه يعرف ربّنا .. وحياتك ده
مُتَسَتِّر بالدين وبَس .. طبعاً أنا أحق منه مليون مرّة .. يا سيدي الوصيّة
تستنّى .. الأيّام جايّة كتير والجايّات أكتر م الرايحات .. يلّا سلام.
و لم ينسَ "عبد الظاهر" أن يُجري
بعض المكالمات الأُخرى ليتوبَ عن توْبته ويستدرِك ما كان يعزم عليه من تقويمٍ
وإصلاحٍ وتنقيح، وأَبَى إلّا أن يظلَّ غارقاً لأُذنيْه في مُستنقَع الرذيلة
والعار.
ومرّت الأيّام وفاز "عبد الظاهر"
بالانتخابات بعد أن اكتسح التصويت بجدارةٍ مُستغِلّاً مكانته الدينيّة ومُتستِّراً
بقشرةٍ سميكةٍ من افتعال التَديُّن والصلاح قد تقيه من مصائب الدنيا بعض الوقت
ولكنها – بالطبع – لن تقيه حساب الله كل الوقت، وفي أولى جلسات مجلس الشعب أمسك
"عبد الظاهر" بقُصاصةٍ من الوَرَق وقرأ ما فيها من ظاهر قلبه وتظاهر
بأنه يحفظها عن ظهر قلب وقال بصوْتٍ أَجْوَفٍ يدُلّ على نفسٍ خاويةٍ من الإيمان
وقد كان مُعتاداً على أن يُعطي من طرف اللسان حلاوةً ويروغ كما يروغ الثعلبُ:
- أُقسم باللهِ العظيم .. أن أُحافظ مُخلصاً على سلامة الوطن والنظام الجمهوري .. وأن أرعى مصالح الشعب .. وأن أحترم الدستور والقانون .. فيما لا يُخالِف شرع الله عز وجل وسُنّة رسوله صلّى الله عليه وسلّم وطاعة الأئمّة وأُولي الأمر.