إيطاليانو- جوليانو/زَكيـَّانو- فَهْميانو
أَنْهَى "زَكي دانيال"
– أحد الشباب المصريّين النابهين – دِراسَتَهُ الفَنيَّةَ في مَجالِ ميكانيكا النَسيجِ
وحَصَلَ عَلَى دِبْلومِ الصَنايعِ بتَفَوُّقٍ واسْتَطَاعَ الحُصولَ عَلَى تَأْشيرةٍ
سياحِيَّةٍ "لإيطاليا" وبَدَأَ قَبْلَ السَفَرِ في تَعَلّم اللُغَةِ
الإيطاليَّةِ حَتَّى سَمَّاهُ أَصْدِقاؤُهُ "زَكي الإيطاليانو"، وسافَرَ
عَنْ طريقِ البَحْرِ لأَنَّهُ الأَقَلُ تَكْلِفَةً وتَعَرَّفَ في السَفينَةِ التي
أَقَلَّتْهُ عَلَى بَحَّارٍ إيطاليٍ وَعَدَهُ بأَنْ يُساعِدَهُ عَلَى بِدْءِ حَياتِهِ
هُناك، وعِنْدَما وَصَلَ "زَكي" إلى "نابولي" تَوَسَّطَ لَهُ
البَحَّارُ ليُلْحِقَهُ بالعَمَلِ في إحْدَى مَكاتِبِ التَوْكيلاتِ البَحَريَّةِ
بالميناءِ كَعامِلٍ لنَقْلِ البَضائِعِ كَما أَوْجَدَ لَهُ شِقَّةً صَغيرَةً مُتَواضِعَةً
بالحَيِ القَديمِ الشَعْبي.
واسْتَمَرَّتْ أَحْوالُ
"زَكي" كَما هيَ طوالَ سَبْعَةِ أَشْهُرٍ لا تَغَيُّرُ فيها سِوَى اكْتِسابِهِ
لِمَزيدٍ مِنَ الخِبْراتِ وإتْقانِهِ للُغَةِ الإيطاليَّةِ وادِّخارِهِ لِبَعْضِ
المالِ والأَهَمُّ تَقْنينُهُ لِوَضْعِهِ مِنْ سائِحٍ إلى مُقيمٍ بَعْدَ أَنْ اسْتَخْرَجَ
- عَنْ طَريقِ أَحَدِ المُحامينَ - تَصْريحاً بالإقامَةِ وتَصْريحاً آخَراً بالعَمَل،
وكانَ طوالَ هَذِهِ الشُهورِ يَتَحَيَّنُ الفُرْصَةَ المُناسِبَةَ ليَعْمَلَ في مَجالِ
دِراسَتِهِ فَما إنْ حَصَلَ عَلَى الإقامَةِ الشَرْعيَّةِ والإذْنِ بالعَمَلِ
حَتَّى سَجَّلَ اسْمَهُ في أَحَدِ مَكاتِبِ التَوْظيفِ بَحْثاً عَنْ عَمَلٍ بأَحَدِ
مَصانِعِ النَسيج، وأَتاهُ الرَدُّ سَريعاً بَعْدَ إسْبوعَيْنِ فَقَطْ فَقَدْ وَفَّرَ
لَهُ المَكْتِبُ وَظيفَةَ عامِلٍ بمَصْنَعِ نَسيجٍ صَغيرٍ في مَدينةِ
"جوليانو" في إقْليمِ "كامبانيا" بمُقاطَعَةِ "نابولي".
ورَغْمَ صِغَرِ المَصْنَعِ
فَقَدْ صَمَّمَ "زَكي" عَلَى أَنْ يَجْتَهِدَ ويَبْرَعَ في عَمَلِهِ ليُثْبِتَ
كَفاءَتَه، ولَمْ يَكْتَفِ بأَداءِ المَطْلوبِ مِنْهُ في حُدودِ وَظيفَتِهِ فَقَطْ
بَلْ كانَ يَقومُ - مجاناً - بأَعْمالٍ إضافيَّةٍ عَديدَةٍ كانَ قَدْ مارَسَها في
"مِصْرَ" مِنْ قَبْلُ كَأَعْمالِ السِباكَةِ والكَهْرُباءِ وباقي أَعْمالِ
الصِيانَةِ الدَوْريَّةِ لمُرْفَقاتِ المَصْنَعِ مِمَّا وَفَّرَ كَثيراً مِنَ المالِ
فَلَفَتَ نَظَرَ صاحِبِ المَصْنَعِ وبَدَأَ يَرْصُدُ أَعْمالَهُ ويُراقِبُ تَصَرُّفاتِهِ
ويَخْتَبِرُ سُلوكيّاتِهِ فَوَجَدَهُ مُجْتَهِداً أَميناً خَلوقاً، وذاتُ يوْمٍ
لاحَظَ "زَكي" أَنَّ جُدْرانَ المَصْنَعِ مُتَّسِخَةٌ كَئيبَةٌ فاشْتَرَى
عَلَى حِسابِهِ الخاصِّ عُبُوَّاتٍ كَثيرَةً مِنَ الطِلاءِ وانْتَهَزَ يَوْمَيْ
الأَجازَةِ الأُسْبوعيَّةِ في المَصْنَعِ ليَدْهِنَ الجُدْرانَ بالكامِلِ مِمَّا جَعَلَ
صاحِبَ المَصْنَعِ يُكافِئُهُ مُكافأَةً مُجْزيَةً ولَكِنَّهُ رَفَضَ المُكافَأَةَ
أَوْ حَتَّى أَخْذِ ثَمَنِ الطِلاءِ مُعَلِّلاً ذَلِكَ بشُعورِهِ بأَنَّهُ يَعْتَبِرُ
المَصْنَعَ مَصْنَعَهُ ويَكْفي ما للمَصْنَعِ مِنْ فَضْلٍ عَلَيْهِ فأكْبَرَ صاحِبُ
المَصْنَعِ هَذا التَصَرُّفَ النَبيلَ مِنْ "زَكي" وقَرَّبَهُ مِنْهُ أكْثَرَ
وصارَ يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ في كُلِّ كَبيرةٍ وصَغيرَة، ولَمْ يُفَوِّتْ "زَكي"
الفَرْصَةَ فكانَ عِنْدَ حُسْنِ ظَنِّ الرَجُلِ فازْدَهَرَتْ أَعْمالُ المَصْنَعِ
وزادَتْ إنْتاجِيَّتُه.
وبَعْدَ فَتْرَةٍ طَلَبَ
صاحِبُ المَصْنَعِ مِنْ "زَكي" أَنْ يَأْتيَ لَهْ بميكانيكيٍ لإصْلاحِ سَيَّارَةِ
ابْنَتِهِ التي تَعَطَّلَتْ بِها في أَحَدِ الشَوارِعِ النائِيَةِ فَرَدَّ عَلَيْهِ
"زَكي" بأَنَّهُ لَيْسَ هُناكَ داعٍ للميكانيكي فالمِصْريُّونَ يعَرِفونَ
في كُلِّ شَئٍ وذَهَبَ هوَ إلى الابْنَةِ وكانَ اسْمُها "إيميليا" فَأَصْلَحَ
عَرَبَتَها ثُمَّ أَوْصَلَها إلى مَنْزِلِها فَأُعْـجَبَتْ بِهِ وأَخَذَتْ تَتَرَدَّدُ
عَلَى مَصْنَعِ أَبيها بِحُجَجٍ مُخْتَلِفَةٍ وتَخْتَلِقُ الأَسْبابَ لِتَرَى هَذا
الشابَّ المِصْريَ الوسيمَ الذي طالَما سَمِعَتْ أَباها يَحْكي عَنْهُ قَبْلَ أَنْ
تَعْرِفَهُ، وتَوَطَّدَتْ العِلاقَةُ بَيْنَ "زَكي" و"إيميليا"
وانْقَلَبَ الإعـْجابُ إلى حُبٍ وهَيام، وسُرَّ صاحِبُ المَصْنَعِ كَثيراً
عِنْدَما طَلَبَ مِنْهُ "زَكي" الزَواجَ مِنْ ابْنَتِهِ ولَمْ يَتَرَدَّدْ
لَحْظَةً في إعْلانِ تَرْحيبِهِ ومُبارَكَتِهِ لِهَذِه الزيجَة.
ومَضَتْ سِنينٌ كانَ
فيها "زَكي" عاكِفاً عَلَى أَفْكارِهِ وأَبْحاثِهِ لِتَطْويرِ آلاتِ النَسيجِ
التَقْليديَّة، وكانَتْ خِبْرَتُهُ في هَذا المَجالِ قَدْ اتَّسَعَتْ كَثيراً بَعْدَ
ما دَرَسَهُ نَظريَّاً في "مِصْرَ" ومارَسَهُ عَمَليَّاً في
"إيطاليا"، وبَعْدَ مَجْهودٍ وتَعَبٍ شَديدَيْنِ تَوَصَّلَ "زكي"
إلى اخْتِراعِ آلَةِ نَسيجٍ غَيْرِ مَكّوكيَّةٍ جَديدةٍ مُطَوَّرَةٍ تَسْتَخْدِمُ
تِكنولوجيا النَسيجِ بتَصْميمِ المُشْطِ المَفْتوحِ الذي يَتَمَيَّزُ بتِسْهيلِ عَمَليَّةِ
إنْتاجِ القُماشِ المُطَرَّزِ والقُماشِ المُتَعَدِّدِ المَحاوِرِ إلى جانِبِ ممَيِّزاتٍ
عَديدَةٍ أُخْرَى لِتَخْفيضِ التَكاليفِ ومُضاعَفَةِ المَرْدودِ مِنْ كِميَّةِ وجَوْدَةِ
المُنْتَج، وبِذَلِكَ أَدْمَجَ "زَكي" عَمَلِيَتَيْ النَسيجِ والتَطْريزِ
مَعاً في آلَةٍ واحِدَةٍ بَدَلاً مِنْ اثْنَتَيْنِ وسَمَّي هَذِهِ الآلَةَ "زَكيـَّانو".
وبِمُساعَدَةِ حَميهِ
اشْتَرَى "زَكي" قِطْعَةَ أَرْضٍ بالمِنْطَقَةِ الصِناعيَّةِ بالمَدينَةِ
وأَنْشَأَ مَصْنَعاً لِتَصْنيعِ وتَجْميعِ آلَةِ النَسيجِ الجَديدَةِ المُتَطَوِّرَةِ
"زكيانو"، واعْتمَدَ عَلَى عُمَّالٍ كَثيرينَ اسْتَجْلَبَ مُعْظَمَهُم
مِنْ "مِصْرَ" التي لَمْ يَنْسَ فَضْلَها عَلَيْه، وكَثُرَتْ طَلَباتُ شِراءِ
"زَكيـَّانو" بِدَرَجَةٍ كَبيرَةٍ اضْطُرَّ مَعَها "زَكي" لأَنْ
يَفْتَتِحَ مَصْنَعاً آخَراً عِمْلاقاً بِمَدينَةِ "نابولي" نَفْسَها ليَكونَ
قَريباً مِنْ ميناءِ التَصْدير.
وبَعْدَ خَمْسَةٍ وعِشْرينَ
عاماً مِنْ هِجْرَتِهِ إلى "إيطاليا" كانَ "زَكي" قَدْ أَصْبَحَ
مِنْ كِبارِ رِجالِ الصِناعَةِ في مَجَالِ النَسيجِ وكانَ يُساعِدُهُ في ذَلِكَ وَلَدَاهُ
وابْنِتُهُ "مارينا" التي لاحَظَ أَنَّها كَثيرَةُ التَرَدُّدِ عَلَيْهِ
في المَصْنَعِ في الفَتْرَةِ الأَخيرَةِ وتَقْضي وَقْتاً أَطْوَلَ مِنْ أَخَوَيْها
مَعَه، وظَنَّ في أَوَّلِ الأَمْرِ أَنَّه قَدْ اسْتَدَرَّ عَطْفَها لِكَثْرَةِ عَمَلِهِ
وهيَ تُساعِدُهُ لِتُخَفِّفَ عَنْهُ ضَغْطَ العَمَل؛ ولَكِنَّ السَبَبَ الحَقيقيَ
اتَّضَحَ عِنْدَما كَرَّرَ التاريخُ نَفْسَهُ وجاءَتْ "مارينا" المَصْنَعَ
ذاتَ يَوْمٍ مُصْطَحِبَةً مَعَها شابَّاً وَسيماً ذا مَلامِحٍ شَرْقيَّةٍ وقالَت :
- بونْجورنو ميو بادْري.
- بونْجورنو بيللا
فيليا.
- أَقَدِّم لَك صَديقي
"فَهْمي".
- أهْلاً وسَهْلاً..
أَنا مِتْهَيَّأ لي شُفْتَك قَبْل كِدَه.
- أَنا يا فَنْدِم
باشْتَغَل عَنْد سيادْتَك هَنا فِ المَصْنَع.. وانا أَصْلاً خَرِّيج كُليِّة التَعْليم
الصِناعي فِ "بَني سويف" قِسْم تَكنولوجيا الغَزْل والنَسيج.
- آه.. إتْفَضَّل اسْتِرَيَّح.
- "فَهْمي"
يا بابا اتْعَرَّفْت عَليه مِنْ حَوالي شَهْرين.. لَمَّا كان عَنْدَك إنْفِلْوَنْزا
وكُنْت باجي مَكانَك أَتابِع الشُغْل.
- عَلَشَان كِدَه
بتيجي المَصْنَع يوماتي مِنْ ساعِتها.. الظاهِر اللي بينْكُم مِشْ مُجَرَّد شُغْل
وصَداقَة بَسْ.
- بِصَراحَة يا بابا
إحْنَا مُعْجَبين بِبَعْض وساعات بنِتْقابِل بَرَّه الشُغْل.. وأكْتَر حَاجَة عَجَبِتْني
فيه إنُّه شَبَهَك فِ حاجات كِتير.
- عايْزَة تاكْلي بعَقْلي
حَلاوَة.. ماشي.
- لأ صَدَّقْني بجَد
يا بابا.. وعَلَشَان تِعْرَف هوَّ شَبَهَك قَدْ إيه كان عايِز يكَلِّمَك فِ مَوْضوع..
ما تِتْكَلِّم يا "فَهْمي".
- يا "زَكي"
بيه أَنا أَدْخَلْت تَعْديلات عَلَى آلِة النَسيج "زَكيـَّانو" حَ تخَلِّي
تَكْلِفِتْها أَقَل وامْكانيَّاتْها أكْبَر بكِتير.. ولَوْ حَضْرِتَك مُهْتَم بالمَوْضوع
أَنا جايِب لَك مَعايا الرُسُومات الهَنْدَسيَّة أَهِه.
- وَرِّيني كِدَه.. بايِن
عَليك عَبْقَري يا واد انْتَ.. إيه دَه انْتَ كاتِب اسْم الآلَة الجِديدَة فِ الرَسْم
مِنْ تَحْت.
- أَيْوَه.. بَعْد إذْن حَضْرِتَك سَمِّيتْها "زَكـيـَّانو - فَهْميانو".