1984 (3)
بتنهيدة عميقة ولاإرادية، لم يمنعه حتى قربه
من شاشة الرصد عن زفرها وهو يبدأ عمل يومه، سحب ونستون جهاز التسجيل باتجاهه ثم
نفخ الغبار عن مهتافه. لبس نظارتيه، وأخرج أربع لفافات صغيرة من الورق وثبتها
بمشجب، وكانت هذه اللفافات قد أُلقيت من الأنبوب الهوائي الموجود إلى يمين طاولته.
في حجيرة مكتبه كانت هنالك ثلاث فتحات:
عن يمين جهاز التسجيل أنبوب هوائي صغير للرسائل المكتوبة . وعن يساره أنبوب أكبر
للصحف. وفي الحائط الجانبي، في متناول يد ونستون كوة كبيرة مستطيلة الشكل ومغطاة
بشبكة سلكية. وهذه الأخيرة كانت للتخلص من الأوراق التالفة . كان هناللك آلاف أو
عشرات الآلاف من هذه الكوى المتشابهة داخل البناء، ليس في الغرف فحسب، بل حتى على
مسافات قصيرة قي الممر. لسبب ما كان الناس يسمونها قبور الذاكرة . فعندما كان يعرف
المرء أن هنالك وثيقة تَقرر إتلافها، أو حتى عندما يرى قطعة ورق تالفة ملقاة هنا
أو هناك، كان تلقائيًا يقصد أقرب قبور الذاكرة ويرفع غطاءها ثم برمي بها داخلها،
حيص يحملها تيار من الهواء الدافيء إلى أفران ضخمة مخفية في تجاويف البناء.
حلّ ونستون لفافات الورق الأربع وتفحّصها.
كانت كل واحدة منها تحتوي على رسالة من سطر أو سطرين فقط باللغة المختصرة ،
وهيليست لغة جديدة فعليًا ولكنها تتألف في معظمها من مفردات من اللغة الجديدة.
تستعمل في الوزارة للأغراض الداخلية . وكانت تجري على النحو التالي:
الزمان، 17-3-84، خطاب للأخ الكبير نقل
مغلوطًا إلى افريقيا. نقّحه.
الزمان، 19-12-83، التوقعات3، ي ب، الربع
الرابع، 83، أخطاء مطبعية، دققوا الإصدار الحالي.
الزمان 14-2-84، وزارة الوفرة، حصل خطأ
بالشوكولا، تحققوا.
الزمان 13-2-83، نقل أمر اليوم لـ غ ك خاطئ
جدًا، لا تشيروا إلى أشخاص، أعيدوا للكتابة وأتلفوا الأوراق السابقة.
بقليل من الرضا نحّى ونستون الرسالة الرابعة
جانبًا، إذ كانت معقدة وعلى درجة من الأهمية تجعل من الآنسب إرجاء معالجتها إلى
الآخر. أما الرسائل الثلاث الأخريات فقد كانت أمورًا روتينية الطابع، بينها واحدة
توحي بوجوب الخوض قي غمار قوائم أرقام مملة .
أدار ونستون ((أرقامًا خلفية)) على شاشة
الرصد طالبًا أعدادًا معينة من مسحوقة ((التايمز)) . انزلقت الصحيفة من الأنبوب
الهوائي بعد بضع دقائق فقط.وكانت الرسائل التي تلقاها تشير إلى مقالات أو فقرات
إخبارية سيتعين لسبب أو لآخر تعديلها ، أو على حد قول العبارة الرسمية، تصحيحها.
فعلى سبيل المثال نشرت صحيفة ((التايمز)) في عددها الصادر في السابع عشر من مارس
أن الأخ الكبير، في خطابه الذي ألقاه قبل يوم، تنبأ أن جبهة جنوبي الهند ستظل
هادئة ، فيما ستشن أوراسيا هجومًا وشيكًا على شمال أفريقيا . ولكن ما حدث هو أن
القيادة العليا الأوراسية قد شنّت هجومها على جنوب الهند وليس على شمال افريقيا .
لذلك كان من الضروري إعادة كتابة الفقرة الموجودة في خطاب الأخ الكبير بالشكل الذي
يظهر اأه تنبأ بما وقع فعلاًً. كما أن «التايمز» في عددها التاسع عشر من كانون
الأول (ديسمبر) قد نشرات التوقعات الرسمية لإنتاج أصناف مختلفة من السلع الاستهلاكية
في الربع الأخير من العام 1983 ، والذي كان قي الوقت نفسه الربع السادس من الخطة
الثلاثية التاسعة . أما عدد لليوم فقد احتوى على بيان بالإنتاج الفعلي الذي تبيّن
من خلاله أن التوقعات كانت خاطئة إلى حد كبير في كل جوانبها. وكانت مهمة ونستون
تصحيح أرقام التوقّعات الأصلية وجعلها تتفق مع الأرقام الجديدة . أما بالنسبة إلى
الرسالة الثالثة فقد كانت تثير إلى خطأ صغير جدًا يمكن تصحيحه قي غضون دقيقتين.
فمنذ فترة وجيزة تعود إلى شباط (فبراير)، ىنمت وزارت الوفرة قد أصدرت وعدًا (أو
حسب العبارة الرسمية «تعهدًا قاطعًا») بأنه لن يكون ثمة تخفيض في حصة الشوكولا
خلال عام 1984. هذا بينما كان ونستون على معرفة بأن حصة الفرد من الشوكولا سيتم
تخفيضها فعلاًً من ثلاثين غرامًا إلى عشرين بنهاية الأسبوع الحالي . ومن ثم كان
يتوجب عليه هو استبدال كلمة «الوعد» المشار إليها في البيان بكلمة «تحذير» من
احتمال اللجوء اضطرارًا لتخفيض حصة الشوكولا في وقت ما من نيسان (أبريل) .
وحالما انتهى ونستون من معالجة هذه الرسائل،
أرفق تصحيحاته بالأعداد الخاصة بها من «التايمز» ثم دفعها في الأنبوب الهوائي .
وبعدئذ، وبحركة يبدو أنها لا إرادية جعّد الرسائل الأصلية وأية ملاحظات كان قد
دوّنها بنفسه ، ثم رمى بها جميعًا في أحد قبور الذاكرة لتلتهمها النيران .
أما ماذا كان يجري في المتاهة غير المرئية
حيث ينتهى الأنبوب الهوائي فأمر لم يكن ونستون يعرفه بصورة مفصلة ، وإنما كان فقط
يلم به إلمامًا عامًا. فحالما يتم تجميع ومقارنة كافة التصحيحات التي يصدف أن تكون
لازمة في عدد من أعداد «التايمز»، يعاد طبعه من جديد، ويتم إتلاف النسخة الأصلية
ووضع النسخة المصححة في ملفات المحفوظات محلها. ولم تكن عملية التبديل المتواصلة
هذه تطبق على الصحف فحسب، بل كانت تطال أيضًا الكتب والدوريات والنشرات والإعلانات
والأفلام وأشرطة التسجيل وأفلام الكرتون والصور وكذا كل أنواع الأدب أو الوثائق
التي يمكن أن تحمل مضامين سياسية أو أيديولوجية . فيومًا بيوم وربما دقيقة بدقيقة
يتم تحديث الماضي بما يجعله يتوافق والحاضر. وهكذا، فإن كافة تنبؤات الحزب يتسنى،
بالدليل الوثائقي، إظهارها باعتبارها صائبة. كما أن كل فقرة إخبارية أو أي إبداء
لوجهة نظر تنعارض مع مجريات الحاضر كان لا يسمح لها بالبقاء ضمن أي سجلات.
فالتاريخ كله كان بمثابة لوح تم تنظيفه لإعادة النقش عليه بما تستلزمه مصلحة
الحزب. وحينما يتم الانتهاء من عمل ما، فإنه يصبح من المتعذر تمامًا على أيٍّ كان
الإتيان ببرهان على أن ثمة تزييفًا قد جرى . وكان أكبر الأقسام ضمن دائرة السجلات،
والذي يكبر بكثير ذاك الذي يعمل به ونستون، يتألف من أشخاص مهمتهم هي تعقب وتجميع
كافة نسخ الكتب والصحف وأية وثائق حلمت محلها أخرى وبارت يتعين إتلافها . وهناك
مجموعة من أعداد «التايمز»، والتي ربما بسبب تغيير في التحالفات السياسية أو نبوءة
كاذبة وقع فيها الأخ الكبير، قد تمّت إعادة كتابتها عشرات المرارت وما زالت محفوظة
في ملفاتها حاملة تاريخها الأصلي دون أن تظهر أي نسخ أخرى تناقضها. وحتى الكتب
أيضًاً كان يتم استردادها وإعادة كتابتها المرة تلو المرة، ثم إعادة طباعتها بصورة
مغايرة دون الإشارة إلى أي تغييرات جرت عليها. بل وحتى التعليمات الخطية التي كان
يتسلمها ونستون والتي كان يتخلص منها فور الانتهاء منها ، لم تشر من بعيد أو قريب
لأي عمليات تزييف يتعين القيام بها. وكل ما كان يشار إليه داومًا هو مجرد هفوات أو
أخطاء مطبعية أو اقتباسات مغلوطة يلزم تصحيحها توخيًا للدقة.
ولكن ونستون كان يعتبر، وهو يعيد ضبط أرقام
وزارة الوفرة، أنذلك ليس تزييفًا، بل مجرد استبدال تفاهات بتفاهات. فمعظم المواد
التي كان يتعامل معها لم تكن تمتّ بصلة لما يحصل على أرض الواقع . فالإحصائيات
كانت وهمية في نسسخها الأصلية شأنها شأن نسخها المعدّلة . وفي كثير من الأحيان كان
من المفترض أن تختلقها اختلاقًا من مخيلتك. فعلى سبيل المثال كانت توقعات وزارة
الوفرة قد قدرت إنتاج الأحذية الربع سنوي بمائة وخمسة وأربعين مليون زوج من
الأحذية، بينما كان الإنتاج الفعلي اثنين وستين مليونًا . ولدى إعادة كتابة
التوقعات، خفّض ونستون الرقم إلى سبعة وخمسين مليونًا مفسحّا بذلك المجال للادعاء
لاحقّا بأن ثمة فائضًا في الحصة المقررة . وعلى أي حال، فإن اثنين وستين مليونًا
لم تكن أقرب إلى الحقيقة من سبعة وخمسين مليونًا أو من مائة وخمسة وأربعين
مليونًا، ومن الممكن ألا يكون قد تم إنتلج أي أحذية على الإطلاق. بل وعلى الأرجح،
لم يكن أحد يعرف ما تم إنتاجه أو حتى يبالي بمعرفة ذلك. فكل ما كان يعرفه المرء عن
إنتاج الأحذية هو أرقام فلكية لا توجد إلا على الورق، في الوقت الذي كان زهاء نصف
سكان أوقيانيا حفاة ، وهكذا كان شأن كافة الحقائق المسجلة، صغيرة كانت أم كبيرة.
فكل شيء يتلاشى في عالم من الظلال إلى حد يصبح معه حتى تاريخ السنة أمرًا مشكوكًا
فيه.
رفع ونستون ناظريه عبر القاعة . في الحجرة
المقابلة لمكتبه على الجانب الآخر كان ثمة رجل ضئيل الجسم، دقيق الملامح، ذو ذقن
سوداء، يُدعى تيلوتسون، يعمل بدأب، واضعًا على ركبتيه صحيفة مطوية، ومقرّبًا فمه
من مهتاف جهاز التسجيل. وكان يبدو من هيئته أنه يحاول الاحتفاظ بما يقوله سرًا،
بينه وبين شاشة الرصد . وعندما رفع رأسه لاحظ أنّ ونستون ينظر إليه، فبادله بنظرة
عداء .
كان ونستون لا يعرف من هو تيلوتسون هذا ولا
العمل الذي يقوم به . فالناس في دائرة السجلات كانوا لا يميلون للتحدث عما يُسنَد
إليهم من مهام. ففي القاعة الطويلة الخالية من النوافذ، وحجراتها المصطفة على صفين
وحفيف الأوراق الذي لا ينتهي وهمهمة الأصوات التي تهمس أمام أجهزة التسجيل، كان
يعمل عشرات الموظفين الذين لم يكن ونستون حتى يعرف أسماءهم ، مع أنه كان يراهم
يوميًا يروحون ويجيئون سراعًا في الممرات أو يلوحون بالإشارات في أثناء «دقيقتي
الكراهية». ولكنه كان يعرف أن في الحجرة المقابلة لحجرته ، تعمل المرأة ذات الشعر
الرملي ، التي تعكف يوميًا على تعقب ومحو ما يرد في الصحف من أسماء لأناس تمّت
إزالتهم من الوجود، ومن ثم ينبغي اعتبارهم وكأنهم لم يكونوا أبدًا. وكان في ذلك
شيء من الملاءمة لحالتها ، إذ كان زوجها قد لاقى ذلك المصير قبل سنتين. وعلى بُعد
بضع حجرات كان هنالك شخص هادئ، غير فعال، ويبدو كأنه يعيش في عالم من الخيال، يدعى
إمبلفورث، وذو أذنين مغطاتين بشعر كثيف ويتمتع بموهبة مدهشة ر التعامل مع القوافي
والأوزان. كان إمبلفورث يعكف على إنتاج نسخ محرفة ، أو نصوص نهائية كما كانت تسمى،
من القصائد التي أصبحت تتعارض مع أيديولوجية الحزب ، ولكن لسبب أو لآخر كان ينبغى
استبقاؤها في موسوعة المختارات الأدبية. وهذه القاعة التي تضم خمسين عاملاً أو ما
يقارب هذا العدد، كانت قسمًا فرعيًا واحدًا، أو خلية مفردة ضمن المنظومة الضخمة
المعقدة لدائرة السجلات. بينما كان يوجد فوق وتحت، مجموعات كبيرة من العاملين
المنهمكين في كم هائل من أعمال لا يمكن تخيلها. فهناك قاعات الطباعة الضخمة
بخبراتها واستديوهاتها المجهزة بشكل جيد من أجل تزييف الصور. وهنالك قسم البرامج
الإعلامية بمهندسيه ومنتجيه وفرق الممثلين الذين اختيروا خصيصًا لمهاراتهم في
تقليد الأصوات ، كما كان ثمة جيوش من الكتّاب المراجعين الذين تقتصر وظيفتهم على
وضع قوائم بالكتب والدوريات التي ينبغي مراجعتها. وكان هنالك مستودعات ضخمة حيث
تخزن الوثائق المصححة فضلاً عن الأفران المخفية والتي يجري فيها إتلاف النسخ
الأصلية. وفي مكان أو آخر، مجهول الاسم، كانت هنالك العقول المدبرة التي يناط بها
التنسيق بين الجهود وإرساء الخطوط العامة للسياسة التي تقرر ما يجب الاحتفاظ به من
الماضي، وما يجب تزويره أو محوه .
ولم تكن دائرة السجلات هذه إلا فرعاًا من
فروع وزارة الحقيقة ولم تكن مهمتها الأساسية إعادة بناء الماضي فحسب، بل تزويد
مواطني أوقيانيا بالصحف والأفلام والكتب ، وبرامج شاشة الرصد، والروايات
والمسرحيات، وبكل أنواع الإعلام أو الإرشاد أو التسلية، من التمثال إلى الشعار،
ومن القصيدة الغنائية إلى بحوث علم الأحياء ، من كتب التهجئة الخاص بالأطفال إلى
معجم اللغة الجديدة . ولم يكن على وزراة الحقيقة أن تلبي الاحتياجات المتنوعة
للحزب فحسب، بل عليها أيضًا أن تؤدي الدور نفسه، ولكن بمستوى أدنى، لمصلحة
البروليتاريا. فهناك سلسلة كاملة من دوائر الوزارة المنفصلة التي تتعامل مع أدب
البروليتاريا وموسيقاهم ومسرحهم ووسائل لهوهم بصورة عامة . وهناك تصدر جرائد تافهة
لا تحوي شيئًا تقريبًا إلا أخبار الرياضة والجرائم والتنجيم. وتنتج الروايات
الجنسية ذات الخمسة سنتات وأفلام الإثارة الجنسية والأغاني العاطفية التي يتم
تأليفها بوسائط آلية مثل ذلك النوع من جهاز الكاليدسكوب المعروف بناظم الشعر.
وهناك أيضًا قسم فرعي - اسمه في اللغة الجديدة بّورنوسيك - ويعمل على إنتاج أحط
أنواع المواد الإباحية، وهذه كانت توزع بمغلفات مختومة لا يسمح لأي عضو من أعضاء
الحزب، ما عدا أولئك الذين يعملون فيها، بالنظر إليها .
انزلقت ثلاث رسائل من الأنبوب بينما كان
ونستون يعمل، لكنها كانت تتعلق بأمور بسيطة، واستطاع بالفعل الانتهاء من أمرها قبل
أن يداهمه موعد «دقيقتي الكراهية». وحينما انتهت الدقيقتان عاد إلى حجرته، وتناول
معجم اللغة الجديدة من فوق الرف، وأزاح جهاز التسجيل جانبًا ، ونظف نظارتيه حتى
يفرغ لمهمته الرئيسية في ذلك اليوم .
كانت أمتع الساعات في حياة ونستون هي تلك
التي يمضيها في العمل. صحيح أن معظم العمل كان مملاً ورتيبًا، ولكن كانت هناك مهام
صعبة ومعقدة إلى حد قد ينسى المرء نفسه في غمرتها ، كما ينساها وهو منهمك في مسألة
رياضية ، حيث يُطلب منك عملية تزوير دقيقة وليس ثمة ما تسترشد به غير معرفتك
بمبادىء «انج سوك» وتقديراتك الثسخصية لما يريد الحزب أن يقوله . وكان ونستون يجيد
مثل هذه المهام، حتى أنه كان يُعهد إليه أحيانًا بتعديل المقالاربى الرئيسية في
«التايمز» المكتوية بكاملها باللغة الجديدة. فض ونستون الرسالة وقرأ ما يلي:
الزمان 3-12-83 نقل الأمر اليومي للأخ الكبير
خاطئ جدًا جدًا، عدم الإشارة إلى أشخاص، اكتبه ثانية مصححًا، أرسله إلى فوق، لا
تحفظه.
وفي اللغة القديمة تعني:
أمر الأخ الكبير في جريدة التايمز يوم 3
كانون الأول (ديسمبر) وفيه إشارات لأشخاص غير موجودين فعلاًً. أعد كتابته بشكل
كامل وابعث بالمسودة إلى مرجع أعلى قبل وضعه هي الملف وحفظه.
تفحّص ونستون المقالة المثيرة للاعتراض،
فأمرُ الأخ الكبير كما يبدو كان مخصصًا للإشادة بعمل مؤسسة إذ إذ سي سي، التي كانت
تزود البحارة في القلاع العائمة بالسجائر وبعض الكماليات الأخرى . ذكر أحد الرفاق
ويدعى الرفيق وذرذ وهو من الأعضاء البارزين في النخبة، مثنيًا عليه ومنحه وسامًا
رفيعًا من الدرجة الثانية.
وبعد ثلاثة أشهر حُلت هذه المؤسسة فجأة. وكان
بوسع المرء الظن بأن وذرذ وشركاءه قد باتوا من المغضوب عليهم ، ولكن لم تصدر أية
إشارة إلى ذلك لا في الصحف ولا على شاشة الرصد. كان ذلك هو المتوقع، لأنه لم يكن
من المعتاد أن يحاكَم السياسيون المنشقون أو حتى يدانون علنًا. فحملات التطهير
الكبرى التي تشمل آلاف الناس وتصحبها محاكمات علنية للخونة ولمجرمي الفكر الذين
أقروا بخسّة ما اقترفوا من جرائم وجرى إعدامهم فيما بعد، لم تكن سوى عيّنات خاصة
للعرض ولا تحدث غالبًا أكثر من مرة واحدة كل سنتين. أما الأمر المألوف فهو أن
الأشخاص الذين يجلبون على أنفسهم غضب الحزب كانوا يختفون من الوجود ويختفي معهم
ذكرهم دون أن يُعثر على أي مفتاح يكشفه سر اختفائهم . وفي بعض الحالات لا يكون هؤلاء
قد ماتوا بعد. وربما يعرف ونستون ثلاثين شخصًا، فضلاًعنه أبويه، ممن اختفوا في هذا
الوقت أو ذاك .
حك ونستون انفه بملقط للورق في يده، بينما
كان الرفيق تيلوتسون ما زال منكبًا على جهاز للتسجيل بصورة توحي بسرية ما يفعله.
ولما رفع راسه ثانية باتجاه ونستون شعر بنظرة عداء تلمع في عينيه. تساءل ونستون
عما إذا كان الرفيق تبلوتسون منهمكًا قي المهمة نفسها التي تم إسنادها إليه . إن
ذلك من الجائز تمامًا . فمهمة على هذه الدرجة العالية من الدقة، لا يمكن أن نعهد
بها إلى شخص بمفرده؛ ومن جهة ثانية إلا أوكلت هذه المهمة للجنة معناه الاعتراف
العلني بوقوع التزوير. لذلك من المرجّح أن يكون هنالك عشرات من العاملين يعكفون
الآن على عمل نسخ لما قاله الأخ الكبير بالفعل. وبعد ذلك يقوم بعض ذوي العقول
المدبرة من أعضاء النخبة في الحزب باختيار هذه النسخة أو تلك، وإعادة تنقيحها عبر
عمليات معقدة من المراجعة مع الإحالات اللازمة، ثم يتم تمرير الكذبة التي وقع
الخيار عليها إلى السجلات الدائمة لتصبح حقيقة .
لم يكن ونستون يدري أي جرم ارتكبه وذرذ، ربما
حدث ذلك بسبب الفساد أو عدم الكفاءة. أو ربما لأن الأخ الكبير كان يرغب في التخلص
من أحد مرؤوسيه الذين يحظون بشعبية جارفة . أو قد يكون لأن وذرذ أو واحدًا من ذويه
قد اشتُبِهَ في أن لديهم ميولاً انشقاقية، أو ربما ، وهو الأرجح ، أن ما حصل قد
حصل فقط لأن حملات التصفيات والإبادة كانت جزءاً ضروريًا من آليارت عمل الحكومة.
المفتاح الوحيد الحقيقي لهذا اللغز يكمن في عبارة «لا تشر إلى الأشخاص» هي ما
تنطوي على إشارة إلى أن وذرذ قد مات فعلاًً. لكن ليس لك أن تفترض دائمًا بأن هذه
هي الحال مع كل الذين يتم القبض عليهم، ففي بعض الأحيان يطلق سراج بعضهم ويمنحون
حريتهم لسنة أو سنتين ثم ينفذ فيهم حكم الإعدام. وأحيانًا كثيرة قد يظهر بعض من
تحسبهم في عداد الموتى منذ أمد طويل ظهورًا خاطًا عبر محاكمة علنية حيث يدلي
بشهادة يورّط بها مئات آخرين قبل أن يختفي، ولكن للأبد هذه المرة . أما وذرذ فلم
يكن يُعَدّ شخصًا على أي حال، وهذا يعني أنه لم يكن له أبدًا أي وجود . وهنا قرر
ونستون أن مجرد قلب اتجاه خطاب الأخ الكبير لن يكون كافيًا، وأن من الأفضل أن
يجعله يعالج مسألة لا علاقة لها أبدًا بموضوعه الأصلي.
كان في وسعه تحويل الخطاب إلى إدانة للخونة
ولمجرمي الفكر، ولكن ذلك سيكون مكشوفًا، كما كان يمكنه أن يختلق انتصارًا تحقق على
الجبهة، أو نجاحًا في تحقيق فائض إنتاج في الخطة الثلاثية التاسعة، ولكن ذلك قد
يعقد السجلات تعقيدًا شديدًا. إن المطلوب هو قطعة من الخيال الخالص. وفجأة خطرت
على باله فكرة جاهزة . إنها صورة الرفيق أوغيلفي الذي مات مؤخرًا في ميدان المعركة
وسط أجواء ملحمية. وما أكثر المناسبات التي كان الأخ الكبير يكرس فيها خطابه
اليومي لإحياء ذكرى أحد أعضاء الحزب عديمي الذكر المتواضعين ليجعل من حياتهم
ومماتهم مثالاً يحتذى به . واليوم يجب الإشادة بذكرى الرقيق أوغيلفي . صحيح أنه لم
يكن هنالك وجود سابق لشخص حقيقي اسمه أوغيلفي، ولكن بضعة أسطر مكتوبة وصورتين
مزيفتين له لكفيلة بأن تجعل له وجودًا.
أطرق ونستون لحظة ثم جذب جهاز التسجيل
باتجاهه وشرع يملي بأسلوب الأخ الكبير المألوف: وهو أسلوب عسكري ومتحذلق في آن.
وبسبب لجوئه لحيلة طرح الآسئلة ثم تقديم الأجوبة الفورية عليها بنفسه ، (مثل
أتدرون أي الدروس يمكن أن نستخلصها أيها الرفاق؟ إن الدرس - والذي يكوّن أحد
مبادىء الاشتراكية الإنجليزية - هو)، فقد كان من السهل تقليده .
في الثالثة من عمره ترك الرفيق أوغيلفي كافة
لعب الأطفال ما عدا الطبلة والرشاوش ونموذج لطوافة. وفي السادسة، أو قبل سنة من
ذلك، إذا تركنا جانبًا بعض قواعد الحساب، التحق بمنظمة الجواسيس، وفي التاسعة أصبح
قائد مجموعة. أما في الحادية عشرة فقد وشى بعمّه إلي شرطة الفكر بعدما استرق السمع
لحديث كان يبدو أنه يتضمن ميولاً إجرامية. وفي السابعة عشرة أصبح منظم مقاطعة في
رابطة مناهضة الجنس، وفي التاسعة عشرة صمم القنبلة اليدوية التي كانت تتبنى
مشروعها وزارة السلام، والتي تسببت أولى تجاربها في مصرع واحد وثلاثين أسيرًا من
أوراسيا عند تفجيرها . وفي الثالثة والعشرين قضى نحبه وهو يؤدي الواجب. فبينما
كانت تلاحقه طائرات نفاثة معادية أثناء تحليقه بطوافته فوق المحيط الهندي حاملاً
وثائق هامة أثقل جسمه بالرشاش وقفز من طوافته إلى أعماق المياه مع ما كان يحمله من
وثائق. إنها نهاية بطولية نموذجيّة ، حسبما يقول الأخ الكبير، لا يمكن أن يفكر
فيها المرء إلا وتثير لديه مشاعر الحسد. بعدئذ أضاف الأخ الكبير بضع ملاحظات عن
الطهر والإخلاص اللذين تمتع بهما الرفيق أوغيلفي في حياته. فقد كان لا يقرب الخمر
ولا يدخن السجائر ولا يلتمس الراحة من عمله إلا ساعة واحدة في اليوم يمارس فيها
الرياضة، فضلاً عن أنه نذر نفسه للعزوبة معتقدًا أن الزواج ورعاية الأسرة لا
يناسبان شخصًا مثله ، لقد وهب نفسه للواجب أربعًا وعشرين ساعة في اليوم. ولم يكن
له حديثًا إلا الحديث حول مبادئ الاشتراكية الانجليزية، ولا هدفه له في الحياة إلا
إلحاق الهزيمة بالعدو الأوراسي وتعقسب الجواسيس والمخربين ومجرمي الفكر والخونة
بشكل عام.
فكر ونستون في نفسه ما إذا كان سيمنح أوغيلفي
وسام الاستحقاق، ولكنه عدل في النهاية عن تلك الفكرة لأنها ستجر وراءها مراجعة
سجلات هو في غنى عنها. ومرة ثانية رفع ناظريه صوب منافسه في لاحجرة المقابلة، وكان
ثمة شيء في نفسه يقول له إن تيلوتسون منهمك في العمل ذاته الذي يؤديه هو. لكن لم
يكن ثمة طريقة لمعرفة أيّ عمل سيتم تبنّيه في النهاية، غير أنه كانت لديه قناعة
راسخة بأن عمله هو الذي سيتم اعتماده. فالرفيق أوغيلفي، الذي كان منذ ساعة لا يردّ
حتى على خيال، أصبح حقيقة راسخة الآن. وفكر ونستون كيف أنه يمكنك أن تبعث الحياة
في الموتى بدون أن يمكنك ذلك مع الأحياء. فالرفيق أوغيلفي، اللذي لم يسبق أن كان
له وجود في الحاضر، أصبح الآن موجودًا في الماضي، وحينما ينسى الناس عملية التزوير
ويطويها النسيان، فلسوف يصبح وجوده يضاهي وجود كلٍّ من شارلمان أو يوليوس قيصر في
صحته و ثبوته.
في قاعة الطعام ذات السقف المنخفض، تحت سطح
الأرض، كان يتحرك ببطء. فالقاعة كانت تغص بمن فيها والضجيج يصم الآذان . ومن فوق
قضبان طاولة توزيع طعام الغداء كانت أبخرة الطعام المسلوق تتصاعد بقوة ، مصحوبة
برائحة حمضية لاذعة ، مع ذلك لم تتغلب على رائحة خمر النصر. وفي الجانب الأقصى من
القاعة كان هنالك ثقب صغير قي الحائط حيث يستطيع المرء شراء قدح مترع بالخمر مقابل
عشرة سنتارت.
«ها هو للرجل الذي كنت أبحث عنه» صاح صوت
يأتي من خلف ونستون.
استدار ونستون وإذا به يجد صديقه القديم سايم
الذي يعمل في دائرة البحوث . (ربما كانت كلمة «صديق» ليست بالكلمة الدقيقة تمامًا،
ففي هاتيك الأيام لم يكن للمرء أصدقاء، بل رفاق. غير أنه كان من بين الرفاق مَن
رفقته ألطف من رفقة غيره). كان سايم لغويًا اختصاصيًا في اللغة الجديدة . إنه
بالفعل أحد أعضاء فريق ضخم من خبراء يعكفون الآن على جمع وتصنيف الطبعة الحادية
عشرة من قاموس اللغة الجديدة. كان سايم مخلوقًا وضئيل الجسم ، أصغر حجمًا من
ونستون ذا شعر أسود وعينين واسعتين جاحظتين عليهما مسحة من الحزن المفعم بالسخرية،
تبدوان كأنهما تتفحصان وجهك اثناء حديثه إليك.
ابتدره سايم قائلاً: «كنت أود أن أسألك ما
إذا كان لديك شفرات حلاقة».
«ولا واحدة» قال ونستون بشيء من العجالة
والشعور بالذنب، «لقد بحثت في كل مكإن، لكنها لم تعد موجودة الآن».
كان الجميع لا يكفون عن السؤال عن شفرات
الحلاقة، وكان ونستون في حقيقة الأمر لديه شفرتان لم يستعملهما بعد، غير أنه
يدخرهما لوقت تمس فيه الحاجة. كان ثمة نقص حاد في الشفرلت منذ أشهر مضت. فدائمًا
كان هنالك سلعة من السلع الضروية التي لم تعد متاجر الحزب تزوّد المواطنين بها.
تارة تكون الأزرار، وتارة خيطان الصوف الخاص برتق الملايس، وأخرى رباطات الأحذية،
أما الآن فهي شفرات الحلاقة التي لا يمكنك للعثور عليها إلا باستجدائها بصورة شبه
سرية من السوق السوداء.
وأضاف ونستون كاذبًا: «إنني استعمل الشفرة
نفسها منذ ستة أسابيع».
تحرك الصف مرة أخرى للأمام. وعندما توقف
التفت ونستون إلى سايم ثانية. تناول كل متهما صينية معدنية سطحها لزج من أثر
الشحوم، من كومة صينيات على حافة الطاولة.
بادر سايم بالسؤال: «هل ذهبت ورأيت السجناء
وهم يشنقون البارحة؟»
قال ونستون بشيء من اللامبالاة: «كنت في
العمل، الأرجح أني سأشاهدهم على الشاشة.»
فردّ سايم: «إن ذلك لا يغني أبدّا».
وكانت عيناه الساخرتان تحدقان بوجه ونستون
وكأنهما تقولان له: «أنا أعرفك، وأرى ما في داخلك، وأعرف جيدًا لماذا لم تذهب
لمشاهدة السجناء ينشنقون.» على المستوى الفكري، كان سايم شديد الولاء لأيديولوجية
الحزب، إذ تراه يتكلم بشماتة وبابتهاج كريهين عن غارات شنّتها الطوافات على قرى
العدو وعن المحاكمات والاعترافات التي أدلى بها مجرمو الفكر، وعن الإعدامات التي
تنفذ داخل زنزانات وزارة المحبة. أما إذا أردت أن تتكلم إليه، فإن ذلك يتوقف على
مدى قدرتك على الانتقال بالحوار لموضرع آخر لإبعاده عن مثل هذه المواضيع
واستدراجه، إذا أمكن ذلك، للحديث عن جماليات اللغة الجديدة التي كان مولعًا بها
وبارعًا فيها. أشاح ونستون بوجهه جانبًا ليتحاشى النظرة الفاحصة لعيني سايم
الواسعتين السوداوين.
قال سايم معقبًا: «كانت عملية شنق جيدة ، غير
أنهم على ما أعتقد أفسدوها بربط القدمين معًا، كنت أحب أن أراهم وهم يرفسون بها.
لكن اللحظة الأكثر إثارة كانت تأتي في النهاية، وذلك حينما يتدلى اللسان إلى
الخارج وقد أصبح داكن الزرقة. إن تلك اللحظة هي التي تحوز إعجابي.»
«التالي من فضلكم» صاح العامل ذو المريلة
البيضاء وبيده مغرفة.
دفع كل من ونستون وسايم بصينيته تحت القضبان
فوضع لكل منهما بسرعة الوجبة المقررة: قصعة معدنية من طعام مسلوق ذي لون قرمزي
رمادي، وكسرة من الخبز، ومكعب من الجبن، وفنجان من قهوة النصر الخالية من الحليب،
وقطعة سكر واحدة.
قال سايم: «هنالك طاولة شاغرة تحت شاشة
الرصد، لنأخذ في طريقنا إليها قدحين من الخمر».
كانت الخمر تقدم لهم في أقداح من الصيني بلا
مقايض. وشقا طريقهما عبر القاعة الغاصة بالناس ، ثم وضع كل منهما صينيته على
الطاولة ذات الغطاء المعدني، والتى كانت تغطي إحدى زواياها مستنقعات صغيرة من حساء
خلّفه بعضهم، بد وكأنه طعام تقيأه شخص ما. أخذ ونستون قدحه من الخمر، وبعد أن توقف
لحظة ليستجمع قواه تجرع تلك المادة ذات الطعم الزيتي جرعة واحدة . وعندما نفرت
الدموع من عينيه، أحس فجأة أنه كان جائعًا. فأخذ يزدرد الحساء الذي كانمت تخالطه
مواد لزجة على هيئة مكعبات هلامية ذات لون وردي ربما كانت بعض مستحضرات اللحم.
وإلى أن أتى كل منهما على قصعته دون أن ينطق بكلمة. ومن الطاولة الواقعة إلى اليسار
من ونستون، وراء ظهره بقليل، كان شخص ما يتكلم على نحو سريع ومستمر، وبجعجعة تشبه
صوت بطة، تخترق صخب القاعة كلها.
سأل ونستون بصوت عال ليتغلب على جلبة المكان:
«أين وصلت بالمعجم؟»
قال سايم: «إنني أتقدم ببطء. إنني لي باب
النعورت. إنه عمل جذّاب.»
وتألق وجهه مباشرة لدى ذكر اللغة الجديدة،
فأزاح القصعة جانبًا وتناول كسرة خبز بيد وباليد الأخرى قطعة جبن، وانحنى برأسه
على الطاولة حتى يتسنى له الحديث بصورت منخفض.
وقال: «الطبعة الحادية عشرة هي طبعة نهائية،
إننا نصوغ اللغة في شكلها النهائي، ذلك الشكل الذي لن يجري حديث بغيره. عندما نفرغ
منه، فإنه سيتحتم على الآخرين من أمثالك أن يتعلموا من جديد مرة ثانية. لعلك تظن
أن مهمتنا الرئيسية هي ابتكار كلمات جديدة، لكن لا، ليس البتة، ننا نقوم بتدمير
الكبمات - عشرات بل مئات الكلمات كل يوم يجري تدميرها. إننا - نسلخ - اللغة حتى العظام
. فالطبعة الحادية عشرة لن تحتوي على كلمة واحدة يمكن أن يبطُل استخدامها قبل عام
2050.»
ثم أخذ يقضم قطعة الخبز ويبتلعها بنهم ،
وواصل الحديث بشيء من الحذلقة، وقد بدأ وجهه الأسمر الرقيق مفعمًا بالحيوية، وقد
زالت النظرة الساخرة من عينيه، وحتالّ مكانها هدوء حالم.
وأضاف بعد تفكير: «إن تدمير الكلمات شيء
جميل. بالطبع فإن نسبة الفقد الأكبر تكون في الأفعال والنعورت، إلا أن هناك الكثير
من الأسماء التي يمكن التخلص منها أيضًا، إضافة إلى المفردات والأضداد . ترى ما هو
مبرر وجود كلمة هي مجرد نقيض لأخرى؟ فكل كلمة تحمل نقيضها في نفسها. خذ مثلا كلمة
«جيدا إذا كان لديلي كلمة مثل «جيد»، ما هي الحاجة إذن إلى كلمة مثل «رديء»؟ إن
كلمة «غير جيد» تؤدي المعنى تمامًا بل إنها أفضل لأنها تحمل المعنى المضاد تمامًا،
بينما لا تؤديه الأخرى بالتمام نفسه. ثم أيضًا إذا أردات تعبيرًا أقوى لكلمة
«جيد»، ما فائدة أن يكون لديك كل هذه السلسلة من الكلمات الغامضة غير المجدية مثل
«ممتاز» و«رائع» وما شاكلها؟ ألا تغطي كلمة «جيد جدًا» المعنى، أو كلمة «جيد جدًا
جدًا» إنا كنت ترغب في معنى أقوى. من المؤكد أننا نستعمل هذه الصيغ ولكن في الطبعة
النهائية من قاموس اللغة الجديدة سوف لن تكون موجودة . وفي النهاية سيكون مفهومنا
للجودة والرداءة محكومًا كلية بست كلمات فحسب - أو في الواقع بكلمة واحدة. ألا ترى
ذلك أمرًا رائعًا يا ونستون؟ لقد كانت الفكرة في الأصل من بنات أفكار الأخ
الكبير».
لاح شيء من الحماس المفتعل على وجه ونستون
لدى سماعه ذكر الأخ الكبير، إلا أن سايم استطاع رغم ذلك أن يتبين على الفور فتورًا
في هذا الحماس.
وأردف قائلاً وعلى وجهه علائم الأسف:«يبدو
أنك لا تقدر اللغة الجديدة حق قدرها يا ونستون. حتى عندما تكتبها فإن تفكيرك يظل
محكومًا باللغة القديمة . إنني أقرأ تلك الفقرات التي تكتبها من حين لآخر
«التايمز». إنها جيدة نوعًا ما غير أنها تظل أشبه بالترجمة. إنك في داخلك تميل إلى
استخدام اللغة القديمة رغم كل ما تحمله من غموض وظلال المعاني غير المجدية. أنت لا
تدرك روعة تدمير الكلمات. هل تعرف أن اللغة الجديدة هي اللغة الوحيدة في العالم
التي تتناقص مفرداتها عامًا بعد عام؟»
كان ونستون يعرف ذلك بالتأكيد. فابتسم ولم
يعلّق، آملا الحصول على بعض التعاطف، وخوف أن يخونه لسانه. قضم سايم كسرة أخرى من
الخبز الأسمر ثم ابتلعها سريعًا وتابع قائلاً:
«ألا ترى أن الغاية النهائية للغة الجديدة هي
التضييق من آفاق التفكير؟ بحيث تصبح جريمة الفكر في نهاية المطاف جرمًا مستحيل
الوقوع من الناحية النظرية، وذلك لأنه لن توجد كلمات يمكن للمرء من خلالها أن
يرتكب هذه الجريمة . فكل مفهوم يحتاج إليه الناس سيتم التعبير عنه بكلمة واحدة
محددة المعنى وغير قابلة للتأويل، أما معانيها الفرعية فيتم طمسها حتى تصبح طي
النسيان . إننا في الطبعة الحادية عشرة لن نكون بعيدين عن هذا الهدف. ولكن تلك
العملية ستستمر على هذا المنوال إلى أمد حتى بعد رحيلنا أنا وأنت عن هذا العالم.
فالكلمات تتناقص عامًا بعد عام، كما يتضاءل مدى الوعي والإدراك شيئًا فشيئًا . بل
وحتى في الوقت الراهن ليس هنالك سببًا أو عذر يبرر اقتراف جريمة الفكر. لقد باتت
المسألة مجرد انضباط ذاتي وضبط يفرضه المرء على واقعه، وفي النهاية لن تكون هنالك
حاجة حتى لذلك. ستبلغ الثورة أوجها حينما تكتمل اللغة ويتم إتقانها. إن الانجسوك
هي اللغة الجديدة واللغة الجديدة هي الانجسوك. قال هذه العبارة وهو في غاية
النشوة، ثم أردف: «هل خطر لك أبدًا يا ونستون انه مع حلول عام 2050 على أقصى حد ،
لن يتبقى على وجه الأرض إنسان يمكنه فهم حديث كهذا الذي نتبادله معًا الآن؟»
وعلق ونستون قائلاً: «ولكن دعنا نستثني ... »
قالها مرتابًا ولم يكملها.
لقد كان على وشك القول: «نستثني عامة الناس»
لكنه تدارك نفسه حينما استشعر أن هذه الملحوظة قد تُؤول بطريقة ما باعتبارها نقصًا
في الولاء لديه. ولكن سايم مع ذلك قد استشف ما كان يهمّ بقوله.
وقال غير عابئ: «إن أبناء عامة الناس ليسوا
بشرًا. لكن مع حلول عام 2050 أو ربما قبل ذلك، سوف نكون المعرفة الحقيقية باللغة
القديمة قد تلاشت، وسيكون كل التراث الأدبي القديم قد اندثر. ولما أعمال تشوسر
وشكسبير وملتون وبايرون فلن يكون لها وجود إلا عبر تراجم اللغة الجديدة، ولن يقف التغيير
الذي سيلحق بها عند مجرد جعلها تختلف عما كانت عليه، بل سيتحول إلى نقيض ما اعتاده
الناس. وحتى أدبيات الحزب ستتغير، وشعاراته ستتبدل. إذ كيف يمكن أن تتبنى شعارًا
مثل: «الحرية هي العبودية» فيما يكون مفهوم الحرية نفسه قد جرى نسفه؟ إن المناخ
الفكري سيكون كله قد تغير. وفي الحقيقة لن يكون هنالك «تفكير» على النحو للذي
نفهمه الآن، فالولاء يعني انعدام التفكير بل انعدام الحاجة للتفكير. الولاء هو عدم
الوعي.»
وفجأة وبقناعة راسخة فكر ونستون أن سايم لا
بد وستتم تصفيته يومًا ما. إنه متوقد الذكاء. إنه يرى ببصيرة نافذة ويتحدث بصراحة
شديدة. والحزب لا يرغب في وجود مثل هؤلاء. يومًا ما سيختفي من الوجود، ذلك ما أراه
مكتوبًا على جبينه.
بعدما أنهى ونستون ما كان بين يديه من خبز
وجبن، استدار جانبًا وهو على كرسيه ليحتسي قهوته . وعلى الطاولة للواقعة عن يساره
ما زال الرجل ذو الصوت الصاخب يتكلم دون رادع أو وازع . وكانت تجلس إلى جواره فتاة
شابة، ربما تكون سكرتيرته، وظهرها إلى ونستون . كانت تصغي إليه ويبدو عليها أنها
توافقه بحماس على كل ما يقوله. وبين الفينة والأخرى كان ونستون يلتقط بعض ما تتلفظ
به الفتاة من عبارات مثل «أعتقد أنك محق تمامًا، إنني أتفق معك كلية» كانت تقولها
بصوت أنثوي سخيفة وحيّ. لكن الصوت الآخر لم يتوقف عن الكلام ولو لحظة واحدة، حتى
عندما كانت تتكلم الفتاة. كان ونستون يعرف هذا الرجل، لكنه لا يعرف عنه أكثر من
أنه يشغل منصبًا هامًا في دائرة الإثارة.
كان يناهز الثلاثين من العمر، ذا رقبة قوية
العضلات وفم واسع كثير الحركة. كان من عادته أن يلقي برأسه إلى الوراء قليلاً وهو
يتحدث. وبسبب الزاوية التي يأخذها أثناء جلسته كانت النظارتان تلتقطان الضوء
وتعكسانه شعاعًا باتجاه ونستون مما جعله يرى عينيه كأنهما مجرد عدستين. ولكن
المزعج في الأمر أنه كان من المستحيل تقريبًا أن تميز كلمة واحدة من بين ذلك السيل
من الكلمات المتدفقة من فمه. ومرة واحدة فقط تمكن ونستون من التقاط جملة - «إبادة
تامة ونهائية لغولدشتاين» - قيلت على نحو سريع جدًا. وأما بقية كلامه فقد كان مجرد
ضجيج وجعجعة. وبالرغم من أنك لم تكن تستطيع فعليًا أن تميز ما يقوله الرجل، فإنك
لن تكون في ريب من طبيعته العامة. ربما كان يهاجم لغولدشتاين ويطالب باتخاذ
إجراءات أكثر صرامة ضد مجرمي الفكر والمخربين، وربما كان يندد بالفظائع التي
ارتكبها الجيثر الأوراسي ، وربما كان يثني على الأخ الكبير أو المقاتلين الأبطال
على جبهة مالابار، إذ ليس هنالك من فرق. وأيًا كان حديثه ، فإن ما يمكن أن تكون
على يقين منه هو أن كل كلمة من حديثه كانت تنبع من ولاء خالص لمبادى الانجسوك
الصحيحة. وفيما كان ونستون يراقب ذلك الوجه الخالي من العينين، والفكين المتحركين
إلى أسفل وأعلى، أحس ونستون شعورًا غريبًا وهو أن هذا الذي يراه ليس إنسانًا
حقيقيًا وإنما نوع من الدمية؛ إن لم يكن عقله هو الذي يتكلم، بل حنجرته، ولم يكن
ما ينطق به حديثا بالمعنى الحقيقي، بل ألفاظًا معزولة وصخبًا يصدر عن حالة من
اللاوعى وأشبه بصورت بطة.
خيم الصمت على سايم لحظة من الزمن، وبملعقته
كان يتتبع البقايا الموجودة في طبق الحساء، فيما واصل الصوت القادم من الطاولة
الأخرى الجعجعة بسرعة وكان يسمعه ونستون بسهولة رغم كل الضجيج الذي تعج به القاعة.
وهنا تدخل ونستون قائلاً: «هناك كلمة في
اللغة الجديدة لا أدري ما إذا كنت تعرفها، إنها «يوقوق» أي يجعجع مثل البطة. إنها
واحدة من هاتيك الكلمات المثيرة التي تحمل معنيين متناقضين، فإن نعتّ بها خصمًا
فهي سباب ، وإن نعتّ بها شخمًا تتوافق معه فهي ثناء.»
وجال في خاطر ونستون مرة ثانية أن سايم ستتم
تصفيته. خامرته هذه الفكرة وشعر بالحزن مع أنه كان يعرف أن سايم يزدريه ويكرهه
نوعًا ما، ولديه القدرة على الوشاية به بتهمة «جريمة فكر» إذا رأى دافعًا لذلك.
كان لدى سايم بعض المثالب. لقد كان يفتقر لخصال الحذر والتحفظ ويفتقر أيضًا إلى
بعض الغباء الذي يحفظ حياة صاحبه. ولا يمكنك القول بأن سايم لم يكن صادق الولاء.
فقد كان يؤمن بمبادئ الانجسوك، ويبجّل الأخ الكبير ويهلل للانتصارات، ويكره
المنشقين عن الحزب، ليس يإخلاص عادي فحسب بل بحماس شديد، وكان يحرص على الاطلاع
على أحدرت المعلومات التي لم يكن عضو الحزب العادي يلتفت إليها. بيد أن سمعته كانت
تحوم حولها الشكوك؛ فقد كان يقول أشياء يَحسُن به ألا يقولها، وقرأ كتبًا كثيرة
للغاية، وكان يرتاد مقهى شجرة الكستناء، منتدى الرسامين والموسيقيين. لم يكن ثمة
قانون مكتوب أو حتى غير مكتوب يحظر التردد على هذا المقهى، ومع ذلك كان مكانًا لا
يستساغ الذهاب إليه. لقد كان يلتقي فيه قادة الحزب القدامى الذين تم تشويه سيرتهم
قبل أن تتم تصفيتهم أخيرًا. ويقال إن غولدشتاين نفسه كان نرى هناك منذ سنين أو
عقود. لم يكن التنبؤ بالمصير الذي سيؤول إليه سايم أمرًا صعبًا. ومع ذلك كان من
الثابت أن سايم لو لمح شيئًا عن طبيعة ما يضمره ونستون من آراء ، فإنه لم يكن
ليتردد لحظة عن الوشاية به إلى شرطة الفكر. وكذلك سيفعل أي شخص آخر قي موقفه، لكن
سايم كان أكثر حماسًا للحزب، والحماس وحده لا يكفي، والولاء المطلق يعني انعدام الوعي.
تطلع سايم وقال: «ها هو ذا بارصون قادمًا».
وكان يبدو من لهجته وكأنه يود أن يضيف «الأحمق بارصون». كان بارصون، جار ونستون في
بنايات النصر يشق طريقه عبر القاعة. إنه رجل بدين، قصير، متوسط الحجم ذو شعر أشقر
ووجه كوجه الضفدعة. كان جسمه يحمل المزيد من الشحوم في رقبته وخاصرته، إلا أنه ظلّ
نشيطًا كصبيّ كثير الحركة. مظهره كله عبارة عن مظهر فتى صغير نما بسرعة وكبر بحيث
إنه رغم ارتدائه زي العمل المعتاد ما كان بوسعك أن تفكر فيه إلا وكأنه يرتدي
السروال الأزرق والقميص الرمادي ورباط العنق الأحمر كأحد أعضاء اتحاد الجواسيس.
ولدى رؤيته يرى المرء دائمًا صورة ركبتين مجوفتين وكُمّين يتدليان من ساعدين
قصيرين ممتلئين. كان بارصون يعود لارتداء السروال القصير داومًا كلما خرج في نزهة
جماعية أو أي أنشطة بدنية أخرى تبرر له ذلك. تقدم نحوهما وحياهها مبتهجًا ثم جلس
إلى الطاولة تضرح منه رائعة عرق كثيفة، وتغطي وجهه القرمزي حبات من الرطوبة . . في
«المركز الاجتماعي» كان بوسعك أن تخمن أن. بارصرن يلعب كرة تنس الطاولة بمجرد
إمساكك بيد المضروب التي رطّبها عرقه. أخرج سايم من جيبه ورقة تحوي قائمة طويلة من
الكلمات التي يدققها وقلمه الجاف بين اصبعيه.
وقد علق بارصون على ذلك غامزًا ونستون: «انظر
إليه، إنه يدرس حتى في استراحة الغداء، أي حرص هذا؟ ماذا هناك أيها الصبي العجوز؟
شيء ما يصعب عليّ فهمه ، على ما أعتقد». ثم قال لونستون: «أيها الصبي العجوز، هل
تدرك لماذا ألاحقك؟ إنه التبرع الذي نسيت أن تعطيني إياه.»
وردّ عليه ونستون متسائلاً: «لأي شيء هذا
التبرّع؟» قالها وهو يتحسس ما لديه من مال في جيبه. إذ إن ربع الراتب يجب اقتطاعه
لسداد التبرّعات التي يعجز المرء عن إحصائها.
فأجابه بارصون: «تبرّع «للأسبوع الكراهية».
لعلك سمعها بصندوق البيوت، إنني أمين صندوق بنايتنا. إننا نبذل جهودًا جبارة لجمع
المال من أجل إقامة عرض هائل. أودّ أن تعلم أنه لن يكون خطئي إنا لم تظهر بنايات
النصر بالمظهر اللائق ولم يُعلَّق عليها أكبر عدد من الأعلام في الشارع كله، من
فضلك دولارين.»
مدّ ونستون يده إلى جيبه وأخرج دولارين
مجعدين ومتسخين، قام بارصون بتسجيلهما في دفتر صغير كتب عليه بذلك الخط المنمق
الذي يكتبه نصف الأمي.
وأردف قائلاً: «بالمناسبة أيها الصبي العجوز،
لقد علمت أن ولدي المشاغب قد قذفك أمس بمقلاعه الصغير؛ لقد عنّفته وعاقبته على تلك
الفعلة، وأكدرت له انني سأصادر المقلاع منه إذا عاد لمثل ذلك.»
قال ونستون: «أظن أنه كان مستاءً لعدم ذهابه
لمشاهدة حفلة الشنق.»
فردّ بارصون: «ذلك صحيح، ولكنهما في ذلك
يظهران ما لديهما من روح عالية، أليس كذلك؟ يا لهم مسن صغار ملاعين، لكنها قوة
الاندفاع، فكل ما يشغلهما هو الجواسيس والحروب. هل تعرف ماذا فعلت ابنتي الصغيرة
السبيت الماضي حينما خرجت في رحلة مع مجموعتها على طريق بيركهامستد؟ لقد اصطحبت
معها فتاتين صغيرتين وانسللن عن مجموعتهن وأمضين كل فترة الظهيرة في تعقب رجل
غريب. لقد ظللن يقتفين آثاره لساعتين عبر الغابة، وعندما وصلن إلى قرية «أميرشم»
سلّمنه لإحدى الدوريات.»
سأل ونستون مشدوها: «ولكن ما الذي دعاهن
لذلك؟» فتابع بارصون حديثه معتزًا وقد أخذته النشوة: «ولقد تحققت ابنتي من أنه
عميل للأعداء ربما أنزلته طوافة. والنقطة اللافتة للانتباه أيها الصبي العجوز، هي
ما الذي جعلها تشكيك فيه من البداية؟ لقد لاحظت أنه يلبس نوعًا غريبًا من الأحذية
، لم تر أحدا يلبس مثلها من قبل. ومن هنا جاء ظنها بأنه أجنبي. إنها ملاحظة ذكية
من صغيرة مثلها في السابعة من عمرها، أليس كذلك؟»
قال ونستون: «وماذا حدث للرجل؟»
«هذا ما لا أعرفه على وجه التأكيد، ولكنني لن
استغراب إطلاقًا إذا . . . » وهنا أكمل بارصون بالإشارة جاعلاً أصابعه على شكل
مسدّس، ثم طقطق بلسانه مقلدًا صوت الرصاص.
«حسنًا» علق ونستون دون أن يرفع نظره من على
الورقة التي بين يديه.
ثم أكمل ونستون بنوع من الشعور بالواجب: «من
المؤكد أننا لا يمكننا الدخول في مخاطرات»
قال بارصون: «إننا في حالة حرب».
وكما لو أنه تأكيد لحالة الحرب، انبعث نفير
بوق من شاشة الرصد التي فوق رؤوسهم مباشرة، غير أنه لم يكن إعلانا عن انتصار عسكري
هذه المرة، بل مجرد بيان من وزارة الوفرة.
وصاح صوت شبابي متحسس: «أيها الرقاق،
انتبهوا، وردتنا أنباء رائعة لكم. لقد انتصرنا في معركة الإنتاج. فتقارير الإنتاج
التي استُكملت الآن لكافة السلع الاستهلاكية تُظهر أن مستوى المعيشة قد ارتفع بما
لا يقل عن 20% عما كان عليه في العام الماضي. وقد عمّت أرجاء البلاد مسيرات عارمة
وعفوية هذا الصباح في كل أوقيانيا، حيث انطلق العمال من مصانعهم ودوائر عملهم
وساروا في الشوارع حاملين الرايات وهاتفين بحياة الأخ الكبير امتناناً له على
الحياة الجديدة السعيدة التي وهبهم إياها بفضل قيادته الحكيمة. وفيما يلي بعض هده
الأرقام: المواد الغذائيية...»
كانت عبارة «الحياة الجديدة السعيدة» من
العبارات التي تتردد كثيراً، حيث باتت مؤخراً من العبارات المحبذة لدى وزارة
الوفرة. جلس بارصون، وقد شد انتباهه صوت البوق، مصغياً وقد ارتسمت على وجهه علائم
الجدية المشدوهة والسأم المتعالي. لم يستطع متابعة الأرقام، لكنه كان يدرك أنها
تبعث على الرضا، وأخرج من جيبه غليونا كبيراً وسخا كان محشواً حتى نصفه بالتبغ
المفحّم؛ فمع تخفيض حصة الفرد من التبغ إلى مائة غرام في الأسبوع، بات من الصعب ان
تملأ غليونك حتى حافته. أما ونستون فكان يدخن سيجارة النصر التي يمسكها بحذر في
وضع أفقي لئلا يتناثر تبغها. والحصة الجديدة من السجائر لن يُشرع في توزيعها إلا
صباح غد، وهو لم يعد لديه سوى أربع سجائر. في هذه اللحظة سدّ أذنيه عن الضجيج
الآتي من بُعد وأرهف السمع إلى ما تذيعه شاشة الرصد عن مسيرأت شكر للأخ الكبير على
رفعه حصة الشوكولاتة إلى عشرين غراماً في الأسبوع. فحدث نفسه: كيف ذلك؟ لم يكن قد
مر سوى يوم واحد على نبأ تخفيضها إلى عشرين غراماً أسبوعياً! فهل يمكن أن يكون
الناس قد تناسوا ذلك وابتلعوه في أربع وعشرين ساعة فقط؟ أجل، لقد تناسوا. لقد
تناسى بارصون ذلك الكذب بسهولة وابتلعه بغباء الحيوان. أما ذلك المخلوق الذي لا
عينين له والجالس إلى الطاولة الأخرى فقد ابتلعه بحماس وتعصب ورغبة متقدة في تعقب
كل من تسول له نفسه أن يشير إلى أن الحصة كانت ثلاثين غراماً في الأسبوع الماضي
لأجل الوشاية به وتصفيته. بل إن سايم نفسه، ولكن بطريقة أكثر تعقيداً تنطوي على
شيء من التفكير المزدوج، ابتلعه هو أيضاً. فهل أنا الوحيد الذي ما زلت أحتفط
بذاكرني؟
واصلت الإحصائيات الوهمية تدفقها من شاشة
الرصد. فمقارنة بإحصائيات العام المنصرم، هنالك ازدياد في الغذاء والملابس والبيوت
والأثاث وأواني الطهي والوقود والسفن والطائرات والكتب والمواليد، ازدياد قي كل
شيء ما عدا المرض والجريمة والجنون. وسنة بعد سنة ودقيقة بعد دقيقة، كان كل شيء
وكل إنسان آخذ في الصعود بسرعة مطردة.
على غرار ما فعل سايم قبل قليل، أمسك ونستون
بملعقته وغمسها في المرق الأصفر ثم رفعها إلى فمه راسماً خطاً طويلاً من المرق على
الطاولة. وتمعّن باستياء في الحياة التي يحياها. وتساءل أهكذا كانت الحياة دائماً؟
هل كان مذاق الطعام رديئاً كما هو الآن؟ وألقى نظرة حوله في المطعم فوجد قاعة
مزدحمة، سقفها منخفض، وقد اكتست جدرانها بالسخام من أثر أيادٍ وأجسام لا تحصى،
وامتلأت بكراس وطاولات
معدنية مهشمة وُضعت بشكل متلاصق بحيث تتصادم
أكواع الجالسين أثناء الطعام. كما رأى ملاعق مثنية وصواني منبعجة وأباريق خشنة
بيضاء. كانت كل السطوح ذات ملمس لزج من أثر الشحوم، فالوسخ يتخلل ما بها من
تشققات، كما كانت تفوح من القاعة رائحة حمضية تنبعث من الخمرة والقهوة الرديئتين
ومن الملابس المتسخة. كان المرء يحس دائماً بأصوات احتجاج تنبعث من معدته ومن تحت
جلده، ويشعر بأنه قد سُلب شيئاً كان من حقه الحصول عليه. صحيح أنه لا يذكر أن
الأحوال كانت تختلف عن ذلك كثيراً، فكل ما يمكنه تذكره بصورة واضحة هو أن النقعص
في الطعام كان دائماً. لم يكن يوجد جوارب أو ملابس داخلية ليست مليئة بالرتوق.
والأثاث كان دائماً مهشماً عتيقاً، والغرف بلا تدفئة، وقطارات الأنفاق مزدحمة،
والبيوت متداعية آيلة للسقوط. لقد بات الخبز أسود اللون، والشاي نادر الوجود،
والقهوة متعفنة الطعم، والسجائر غير كافية. ولم يكن من شيء وفير ورخيص سوى الخمرة
المصنعة كيماوياً. ولئن كانت الأوضاع تسير من سيّئ إلى أسوأ مع تقدمه في السن، فهل
كانت هنالك دلائل تشير إلى أن ذلك لم يكن الوضع الطبيعي للأمور؟ فإذا كان قلب
المرء يتألم لوجود كل هذه المنغّصات: شتاءات طويلة وقذارة جوارب، ومصاعد معطلة
دائماً، وماء بارد، وصابون خشن، وسجائر تتفتت، وطعام رديء ذي مذاق غريب.. هل كان
المرء يضيق ذرعاً بتلك الأوضاع التي لا تطاق لو لم تكن لديه ذاكرة ما توحي إليه
بأن الأمور كانت تختلف عما هي عليه الآن؟
ألقى نظرة أخرى حوله في المطعم، فبدا له أن
كل الأشخاص كانوا قبيحي الشكل، وأن هذا القبح لن يزول حتى لو ارتدوا ملابس أخرى
وخلعوا الزي الأزرق المعهود. في الجانب الأبعد من القاعة كان رجل ضئيل الجسم مثير
للاستغراب يشبه الخنفساء يجلس إلى طاولة بمفرده ويحتسي فنجاناً من القهوة وعيناه
الصغيرتان ترسلان نظرات مرتابة من جهة لأخرى. وجال بخاطر ونستون لو أن النموذج
الجسدي الذي حدده الحزب هو النموذج المثالي، حيث يكون الفتيان يافعين ومفتولي
العضلات، وتكون الفتيات العذارى مكتنزات الصدور وشقراوات الشعر ومفعمات بالحيوية
وقد أكسبتهن الشمس سمرة وأصبحن متحررات من القلق. أما في الواقع وبقدر ما يستطيع
أن يحكم، فإن غالبية الناس في القطاع الهوائي رقم واحد كانوا ضئيلي الأجسام وذوي
بشرة سمراء وقبيحي الشكل. وكان مما يبعث على الاستغراب، الكيفية التي تمكن من
خلالها ذلك النمط الخنفسائي الشكل من النفاذ إلى الوزارت: حيث ترى فيها رجالاً
قصاراً، سماناً يسمنون في وقت مبكر جدًا، ذوي سيقان قصيرة وحركات سريعة زاحفة
ووجوه ممتلئة وعيون صغيرة للغاية. إنه النمط الذي يزدهر بصورة أفضل في ظل هيمنة
الحزب.
اختُتم بيان وزارة الوفرة ببوق آخر وحلّت
محله موسيقى خفيفة. وأخرج بارصون، وقد أثاره هول أرقام الإنجازات وحرك فيه حماسه
الفاتر، أخرج غليونه من فمه. وقال وهو يهز رأسه هزة العارف: «من المؤكد أن وزارة
الوفرة قد أبلت بلاء حسناً هذه السنة. بالمناسبة أيها الصبي العجوز، هل لديك شفرات
حلاقة يمكنك أن تعطيني واحدة منها؟»
أجاب ونستون: «لا، ولا واحدة، إنني أستعمل
الشفرة نفسها منذ ستة أسابيع، آسف».
وعاد من جديد ذلك الصوت المجعجع الآتي من
الطاولة المجاورة بعدما كان توقف مؤقتا أثناء إذاعة بيان الوزارة. ولسبب ما وجد
ونستون نفسه يفكر في مسز بارصون، بشعرها الملفوف وبالغبار الذي يتخلل تغضّنات
وجهها. أظن أنه في غضون عامين سيشي بها أطفالها إلى شرطة الفكر. وبعدئذ سيتم
تصفيتها، كما ستتم تصفية سايم وونستون وأوبراين. أما بارصون فلن يحدث له شيء من
ذلك أبدًا. كما أن ذلك المخلوق الذي بلا عينين صاحب الصوت المجعجع لن تتم تصفيته،
وكذلك لن تتم تصفية هؤلاء الرجال القصار شبيهي الخنافس الذين يتحركون داخل الردهات
الملتوية في الوزارات. وأيضاً تلك الفتاة ذات الشعر الأسود التي تعمل في دائرة
الإثارة، لن تتم تصفيتها. بدا له أنه يعرف بالفطرة من سيبقى ومن سيفنى بالرغم من
أنه لم يكن من السهل التكهن بمن سيُقدّر له البقاء.
في هذه اللحظة أفاق من تأملاته بهزة عنيفة.
فالفتاة الجالسة إلى الطاولة المجاورة التفتت نصف التفاتة وهي تتطلع إليه، وكانت
هي نفسها الفتاة ذات الشعر الأسود. كانت تنظر إليه بطرف عينيها ولكن بتركيز
مستغرب. وكلما التقت عيناها بعينيه كانت تحيد بطرفها عنه.
أحسّ ونستون إذ ذاك بالعرق يتصبب من عموده
الفقري. وسرت في أوصاله نوبة فزع شديدة. ومع أن هذه النوبة قد تلاشت سريعاً، لكنها
خلّفت لديه شعورا بعدم الارتياح. وتساءل، تُرى ما الذي يجعلها تراقبه؟ ولماذا
تتبعه إلى كل مكان؟ ولسوء حظه لم يستطع أن يتذكر ما إذا كانت جالسة على هذا المقعد
قبل مجيئه، أم أنها قد جاءت لاحقاً. ولكنها كانت، بالأمس، تجلس وراءه مباشرة أثناء
(دقيقتي الكراهية) بينما لم يكن ثمة حاجة واضحة تدعوها لذلك. من المرجح تماماً أن
هدفها الحقيقي هو الإصغاء إليه والتأكد من أنه يهتف بصوت عال.
وعاودته فكرته السابقة، فقد لا تكون عضواً في
شرطة الفكر، وفي هذه الحالة من المؤكد أنها من الجواسيس وهم الأشد خطراً على
الإطلاق. لم يكن يعلم منذ متى وهي تتطلع إليه، لكن ربما كان ذلك لما يربو على
الخمس دقائق. ومن الممكن أن تكون قد فضحته ملامح وجهه. إنه لخطر جسيم أن تدع
أفكارك تجري على عواهنها حينما تكون في مكان عام أو ضمن مدى شاشة الرصد. فأهون
الأشياء يمكن أن تودي بك حتى لو كانت حركة عصبية صغيرة أو نظرة قلق لا إرادية أو
همهمة اعتادها المرء، أو أي شيء يوحي بنقص في الولاء. وفي كل الأحوال فإن ظهور
تعبير انفعالي غير لائق على وجهك (كأن تبدو عليك علامات الارتياب حينما يتم
الإعلان عن أحد الانتصارات) هو مخالفة تستوجب عقاباً، بل لقد اشتق لذلك اسم في
اللغة الجديدة: جريمة الوجه.
عادت الفتاة وأدارت له ظهرها. ففكر ربما أنها
لم تكن تلاحقه، وربما كان جلوسها خلفه أو قريبا منه خلال هذين اليومين محض مصادفة.
انطفأت سيجارته فوضعها بعناية على طرف الطاولة، لعله يعاود تدخينها بعد انتهاء
العمل إذا ليم يتناثر تبغها. قد يكون الشخص الجالس إلى الطاولة المجاورة جاسوسًا
لشرطة الفكر، وربما سيجد نفسه في غضون ثلاثة أيام نزيل إحدى زنزانات وزارة المحبة،
لكن عقب السيجارة يجب ألا يذهب هدراً. طوى سايم شريط الورق ووضعه في جيبه بينما
بدأ بارصون يتكلم ثانية.
«هل سبق لي أن أخبرتك أيها الصبي العجوز»،
قالها بارصون مبتسماً وهو يمسك بغليونه، «عمّا فعله الصغيران الشقيان، حينما قاما
بإشعال النار في تنورة بائعة عجوز في السوق عندما رأياها تلفّ بعض النقانق بصورة
الأخ الكبيرب؟ لقد تسللوا خلفها وأشعلوا في تنورتها النار مستخدمين علبة ثقاب.
أعتقد أن التنورة قد تضررت كثيراً من ذلك. آه من هذين الشقيين، إنهما ممتلآن
حماسة. لا شك أن التدريب الأولي الذي يتلقونه في منظمة الجواسيس هذه الأيام، وهو
أفصل من ذاك الذي كنا نتلقاه نحن في أيامنا. هل تعرف ما الذي تم تزولدهم به
مؤخراً؟ سماعات بوقية للأذن يتنصتون بها من ثقوب مفاتيح الأبواب. لقد أحضرت ابنتي
الصغيرة واحدة منها أمس وجربتها على باب غرفة الجلوس، ورأت أنها تستطيع بواسطتها أن
تسترق السمع ضعفي ما تسترقه بوضع أذنها على ثقب المفتاح. من المؤكد أن ذلك مجرد
لعبة. لكن ألا تظن أن ذلك سيوحي لهم بأفكار مناسبة؟
في هذه اللحظة أطلقت شاشة الرصد صفرة عالية
إيذاناً بالعودة للعمل. فهبّ الرجال الثلاثة من فورهم وانطلقوا يشقّون طريقهم وسط
الزحام الزاحف بحثاً عن مصعد غير معطل، في حين كان ما تبقى من تبغ في سيجارة
ونستون يتناثر على الأرض.