سفاح كرموز" | الفصل الخامس (1)"
في ذات يوْمٍ من
أوائل شهر سبتمبر عام 1948 لملم النهار باقي أشعته الذهبيّة وبدأ الليْل يسدل
أستاره القاتمة على السماء فظهرت النجوم متلألأةً حول القمر الذي كان يحاول
باستحياءٍ أن ينشر أشعته الفضيّة الهادئة على ربوع "الأسكندريّة"
الخلّابة حيث كانت "فاطمة" تراقب ذلك المنظر البديع وهي تنتظر عشيقها
الوسيم "سعد" في شرفتها العالية التي تكشف شارع "باب الملوك"
الكائن بحي "كرموز"، وما هي إلّا دقائق حتى سمعت طرقاً خفيفاً على باب
الشقّة فأسرعت وهي متلهّفة وفتحت الباب فوجدت "سعد" واقفاً يبتسم لها
فأدخلته أولاً ثمّ أغلقت وراءه الباب ثم غمرته بأحضانها الدافئة فبادلها العناق
وسط كلمات الاشتياق واللوْعة ثم دفعها عنه برفق وجلس على الأرض قائلاً :
- هاتي الطبليّة
وحُطي لي لقمة قوام احسن انا واقع م الجوع.
ورغم امتعاضها فقد
أحضرت "فاطمة" الخوان ووضعت فوقه بعض الخبز والأطباق الملآنة بأنواعٍ
شتّى من الطعام ثمّ جلست بجانبه وردّت عليه في سخطٍ قائلةً :
- إنت كده همّك على
بطنك على طول!
فأجابها وهو يزدرد
الطعام بنهمٍ دون أن ينظر إليها :
- أعمل إيه .. ما
انتي نَفَسِك ف الأكل جنان .. إنتي ناسية أوّل مرّة شفتِك كانت فين يا
"بطّة"؟
- فاكرة يا اخويا ..
ف فرح "عنايات" و"سليم" ابن عمّي .. لمّا سِبت أصناف الأكل
اللي ف الفرح كلّه ومسكت ف الملوخيّة بالأنارب ونزلت عليها حتتك بتتك.
- ولمّا سألت
"سليم" صاحبي عن اللي عملت الملوخيّة ناداكي واتعرّفنا على بعض.
- أيّوووه .. الكلام
ده ييجي من شهرين .. لسّه فاكر؟
- أيوه يا اختي فاكر
.. وانا انسى رَقْصِك ف الفرح ليلتها.
- ههههههه .. وانت
عمال تبص لي من تحت لتحت .. كنت ح تاكلني بعينيك يا نمس.
- الله! .. يعني
انتي كنتي واخدة بالِك مني؟
- طبعاً .. الست
مننا ما تفوتهاش الحاجات دي.
- طب قولي لي بأمانة
.. كنتي قاصدة تيجي لي تاني يوم ف الشونة .. ولّا زي ما قلتي لي إنها صُدفة؟
- بصراحة بصراحة؟
- أيوااااه .. أنا
عايز الصراحة يا حلو انت .. يا بطوط يا مقلوظ.
- أنا سألت
"سليم" عنّك وعرفت أصلك وفصلك وقلت نعملوا نفسي بنشتروا قماش ونعلّقوك
بالمرّة .. هي هي هي.
- واللهِ انا كان
قلبي حاسِس .. علشان كده رُحت دايس على طول وفرّجتك ع المرتبة .. ههههههه.
- شكلك كده حاطط
المرتبة ف الشونة علشان تلعب بديلك .. عارف انا لو شمّيت خبر بحاجة زي كده .. ح
نقطعوا لك ديلك ده على طول.
فوقف الأكل في حلقه
وانتابته نوْبةٌ من الفَوَاق الشديد (الزغطّة) أنقذته منها "فاطمة"
بعدّة خبطاتٍ على ظهره ثمّ ناولته شربة ماءٍ تجرّعها مرّةً واحدة وقال مبتسماً وقد
احمرّ وجهه :
- وانا اقدر استغنى
عنَّك يا جميل .. ده انتَ البريمو والباقي سكوندو .. وتِرسو كمان.
- يعني صحيح شايفني
ف عينك بريمو؟ .. ولّا سكند هاند؟
- سكند هاند ازّاي
.. بقى ده كلام!
- إكمنّى متجوّزة
يعني من كام سنة.
- وإيه يعني .. ده
انتي كده متدوّرة وملفوفة .. أحسن من بنات اليوم المفعّصين المفقّعين دول .. ألّا
صحيح .. جوزِك ح يطلع م السجن إمتى؟
- إلهي ما يطلع
أبداً .. بعد سنة ونص .. يا رب يطلع السر الإلهي قبل ما يطلع هوَّ.
- طب ح نبقى نعمل
إيه لمّا يخرج؟
- ح نعمل إيه يعني
.. يا إمّا ح نبقى نيجوا لك الشونة يا إمّا ح تبقى تستنّاه لغاية ما يتنيّل يسافر
.. أصله شغّال سوّاق وبيسافر على طول.
- لا يا اختي .. استنّى
إيه .. ده انا الليلة دي فضلت ملطوع على أوّل الشارع لحد ما نشفت .. كنت مستنّي
الدنيا تضلّم علشان اجي لِك من غير ما حد ياخد باله مني.
- لأ اطمّن .. روح
وتعالى زي ما انت عايز .. ما يهمّكش.
- ولمّا حد يظبطني
عندِك .. ح يبقى إيه العمل؟
- قول لهم طالع عند
اختي "بطة" .. أصل انت لمّا نزلت من عندي ف الفجريّة المرّة اللي قبل
اللي فاتت شافتك المقروصة "قطقوطة" وانت بتفتح باب السِكّة.
-
"قطقوطة" مين؟
- جارتنا اللي ف
الأرضي.
- (في قلق) يا خبر
ابيض .. طب وبعدين؟
- ولا قبلين ..
افتكرتك حرامي بس خافِت تصوّت احسن تعمل فيها حاجة.
- ها؟
- استنّتك لحد ما
بعدت انت شويّة وراحت طالعة جري م البيت علشان تخبط ع الصول اللي ساكن ف البيت
اللي ف وِشنا .. علشان يمسكك ويودّيك الكراكون.
- وبعدين؟
- لستر ربّنا كنت
انا واقفة ف البلكونة بابُص عليك وانت ماشي فشفتها ولحقتها قبل ما تعمل حاجة.
- لحقتيها ازّاي؟
- ناديت عليها وقُلت
لها إنك تبعي .. قلت لها إنك اخويا وكنت بايت عندي .. وإنك ح تبقى تيجي تقعد عندي
من وقت للتاني .. وفعلاً شافتك المرّة اللي فاتت وانت جاي لي .. حتى قالت لي اخوكي
قمر يا بت يا "بطّة" .. قلت لها اتبطّي يا اختي ده متجوّز ومش فاضي.
- طب افرضي اخوكي
الحقيقي جا لِك .. ح تقولي لها إيه؟
- ييجي فين؟ ..
أخويا قاعد ف "المنصورة" .. ثم هوَّ مقاطعني من ساعة ما اتجوّزت علشان
ما كانش موافق ع الجوازة دي أصلاً .. يا ريتني سمعت كلامه.
- طب افرضي
"طقطوقة" دي ولّا "قطقوطة" قالت لجوزِك لمّا يطلع إن اخوكي
كان بييجي لِك وهوَّ ف السجن .. ح تقولي له إيه وهوَّ عارف إن اخوكي مقاطعِك؟
- وهيَّ ح تقول له
بمناسبة إيه؟ .. أصل جوزي ده جزمة قديمة ما حدّش بيطيقه ولا بيطيق يتكلّم معاه
أصلاً .. ولو فرضاً عرف ح اقول له إن اخويا لمّا عرف إنك ف السجن كان بيشقّر عليّ
من وقت للتاني علشان انا برضه لحـمُه .. واقول له إن اخويا ما بقاش ييجي بعد ما
انت طلعت م السجن علشان مش عايز يشوف خِلقتك العِكرة.
- لعلمِك بقى انا مش
قلقان من "قطقوطة" قد ما انا مرعوب م الوليّة الكركوبة مُرضعة
"قلاوون" اللي ف الكاط اللي تحت منِّك.
- الحاجة "بَمبَة".
- آه .. الحاجّة
"زِفتة" دي .. الوليّه دي مزروعة طول الليل والنهار ف البلكونة ..
متهيّأ لي بتبات ف الفراندة بنت الذينَ .. قاعدة طول الوقت تُنقر ف اللي طالع
واللي نازل.
- يا شيخ دي غلبانة
.. دي تلاقيها ما بتشوفكش أصلاً ولا عارفة تقاطيع وِشّك .. دي عندها تسعين سنة.
- بس باينها قرشانة.