خبر
أخبار ملهلبة

مزرعة الحيوانات | الفصل الثامن | جورج أورويل



الفصل الثامن

 

 

بعد أيامٍ قلائل من المذبحة وحينما خفّت حِدّة الرُعب مـن نفـوس الحيوانات تذكّر بعضها أو خُيّل إليها أنها تتذكّر أن الوصيّة السادسة من الوصايا السبع القديمة جاءت بنصٍ ينهى الحيوان ألّا يقتل حـيـواناً آخر، غيْر أن أحداً منها لم يكن ليجرؤ على ترديد هذا الحديث على مسمع الخنازير أو الكلاب برغم اعتقادها أن المذبحة قد خالفت النصوص الموْضوعة والتي تعاهدت الحيوانات على احترامها.

وطلبت "كلوفر" من "بنيامين" أن يقرأ لها نص الوصية السادسة، فاعتذر لها كعهده دائماً بأنه لا يحب أن يورّط نفسه فيما لا يعنيه، وبحثت عن "موريل" التي استجابت وقرأت عليها بصعوبة الوصيّة المطلوبة وكانت كالآتي: "على الحيوان ألّا يقتل حيواناً آخر .. بدون سببٍ مقبول"، ورغم إن الثلاث كلمات الأخيرة كانت غائبة عن ذاكرة الحيوانات إلّا أنها أيْقنت الآن أن نصوص الوصيّة لا تتعارض مع الأحداث التي جرت فقـد كـان من الواضح أن تنفـيـذ أحكام الإعدام في الحـيـوانـات التي تآمرت مع "سنوبول" كان له ما يبرره.

وفي ذلك العام عملت الحيوانات بدرجةٍ أكبر مما عملت في العام السابق، فقد كان يتعيّن عليها الانتهاء من تشييد الطاحونة في موعدها المحدّد بحوائطها التي يزيد غِلَظ حيطانها عن سابقتها التي تهدّمت، ودون أن يخل ذلك بأعمال المزرعة الأخرى على ما في ذلك من جهدٍ شدید.

ففي بعض الأحيان كان يخيّل للحيوانات أن عدد ساعات عملها قد صارت أطول ممّا كانت في عهد "جونز"، وأن وجباتها التي تُقَدَّم لها لا تزيد عمّا كانت تأكله قديماً.

وفي صباح أيّام "الآحاد" كان "سكويلر" يقرأ عليها بياناتٍ إحصائيّةٍ مدوّنةٍ على أشرطةٍ ورقيّةٍ يمسكها بين أظلافه يُستفاد منها أن الإنتاج قد زاد بـواقـع 200% أو 300% فـي هـذا الـقـطـاع أو ذاك أو 500% على حسب الأحوال، ولم يكن لدى الحيوانات أسباب تحملها على الشك في بياناته بعد أن طال بها العهد في ظل الثوْرة حتى أصبحت غير قادرةٍ على تذكّر شيءٍ قبلها وإن خُيّل إليها أنها قد مرّت بأيّامٍ كانت يتوافر لها فيها غذاءٌ أفضل لولا ما يُتلى عليها من إحصائيّات، وكانت جميع الأوامر تصدر إليها عن طريق "سكويلر" أو خنزيرٍ آخر، أمّا "نابليون" فلم يكن ليظهر بيْنهما إلّا كُل أسبوعيْن، فإذا ما خرج إليْها تبعته ثلّةٌ من الكلاب، وقد زاد على هذا الموْكب ديكٌ أسود اللون في المقدمة وهو يؤذّن بلحنٍ يشبه حامل النفير!، فإذا ما أزمع "نابليون" الخطابة أذّن الديك إشارةً لبدء الحديث!

وقد أُشيع أيضاً أن "نابليون" قد اتخذ له مسكناً مستقلّاً داخل منزل المزرعة، وأنه أصبح لا يجالس أحداً في أثناء غـذائه وأن كلبيْن يـقـفـان على خدمته في أثناء الأكل كما أنه يستخدم أطقم مسز "جونز" الفخمة في المناسبات وقد أخرجها من الصوان الذي بحجرة الجلوس!

وقـد أُعـلـن بعـد ذلك وجوب الاحـتـفـال بـذكـرى مـوْلده بإطلاق رصاصةٍ من البندقيّة، تماماً كما تحتفل المزرعة بالعيديْن الآخريْن: ذكرى الثوْرة وذكرى معركة "زريبة البقر".

وأصبح من المفروض على الحيوانات ألّا توجّه الحديث إلى "نابليون" إلا بعـد ذِكْـر ألقـابـه كاملةً مثل الزعيم الرفيق، كما أن الخنازير كـانت تضيف إلى ذلك ألقاباً أخرى: "أبي الحيوانات" .. "هازم الإنسانية" .. "حامي الغنم" .. "صـديـق البط" وما إلى ذلك من ألقاب، وكـان "سكويلر" حينمـا يخطب تنهمر دموعه إذا ما ذُكِـر اسم "نابليون" أو حِكَمه الغالية وقلبه الرءوف وصدره الذي يتسع لجميع حيوانات الأرض وخـصـوصـاً الحـيـوانات التعسة الطالع التي تعيش في ظل عبوديّة الآدميين!، واعتادت الحيوانات إرجاع كل أسباب النجاح والحظ السعيد إلى "نابليون": فكانت الدجاجة إذا مـا وجّـهـت حـديثـهـا إلى دجـاجـةٍ أخـرى ابتـدرتـهـا قـائلة: "في ظل إرشادات زعيمنا الرفيق نابليون فقد بِضْتُ خمس بيضاتٍ في ستّة أيّام"!، وربّما قالت البقرة لأختها وهي تشرب من مياه البركة: "حمداً لزعيمنا الرفيق نابليون فما ألذ وأصفى هذا الماء"!، وقد استلهم الشاعر الخنزير "مينيمس" وحيه من واقع هذه الحال في هذه القصيدة:

يا أبا الأيــــْــتـامِ يـا نـَبـْع الـســـــــــرورِ

مُطْعِـم الجـوْعـــــــان أقـداحَ الـشـعـيـرِ

هادئٌ كالصخـرِ .. عاتٍ (جبّار) كالـسعـيرِ (كالنار)

إيـه "نـابـلـيـــــونَ" يـا بـدر الـــــــبـدور

يـا مـلاذَ الـوَحْـشِ مـن ظُـلْـمِ الـزمانِ

تـَهِـبُ الـقَـشَّ طَـــــريـّاً لـلـوَسَـــــــن (للنوْم)

كُـل خــــنـزيـرٍ لـديـْك مـطــــمـئـنُ

عِـشْـتَ "نـابـلـيــونُ" ذُخْـــراً للوطنِ

كلّما طـار فـَــراشٌ .. كلّما غـَنّـت طـيـــورُ

عنـدمـا يولد عِند الـفـجـرِ خـــنـزيـرٌ غـريـرُ (لا تجربة له)

صیْحـة المولودِ كانت وهو في المَهْدِ صغـيرُ

أنـتَ "نـابـلـيـونُ" مجـدٌ وذكـــاءٌ وحــبـورُ

وقد أعلن "نابليون" رضاءه عن هذه الأبيات وأمر بتعليقها على حائط الحظيرة الكبرى في مواجهة الوصايا السبع، وقد زيّن "سكويلر" الجدار بصورةٍ مكبَّرةٍ للزعيم قام بتنفيذها باللوْن الأبيض.

وفي هذه الأثناء كان "نابليون" منشغلاً بمباحثاتٍ حسّاسة يجريها مع جاريْه "فردريك" و"بلكنجـتـون" بمعاونة مستر "ويمبـر" بـخـصـوص صفقة الأخشاب التي لم تكن قد بيعت بعد، وكان الجاران اللدودان يتنافسان في شرائها وإن كانت الأنباء ما زالت تتوالى عن أن "فردريك" ما زال على غيّه القديم يحوك (ينسج وينظِّم) هو ورجاله المؤمرات لمحاولة إعادة تحطيم الطاحونة التي كانت تثير في قلوب البشر أشد الغيرة، كما كان يشاع أن "سنوبول" ما زال قابعاً في مزرعة "بنشفيلد".

بل إن ثلاث دجـاجـاتٍ من المزرعـة قـد اعـتـرفت ذات يوم أنـهـا قـد تورّطت في مـؤامـرةٍ حـاكـهـا "سنوبول" لقتل "نابليـون"، وقد أُعـدِمت في الحال، واتُخِذَت تدابير أمنٍ مشدّدة لحماية الزعيم.

وكانت تتولّى حراسة سريره أربعة كلابٍ كلٍ منها في ركن، وعُيّن خنزیرٌ شاب اسمه "بنكارى" ليتذوّق كل أطعمة "نابليون" قبل تقديمها إليه خوْفاً من محاولة دس السُم.

وفي ذلك اليوم أُشيع أن "نابليون" كان على وشك بيْع الأخشاب إلى مستر "بلكنجتون" والدخول معه في اتفاقيةٍ لتبادل السلع بين "مزرعة الحيوانات" ومزرعـة "فـوكس وود" بمعاونة مستر "ويمبـر"، كما أصبحت العلاقات بين طرفيْ العقد تتّسم في الواقع بالود والمجاملة.

وبرغم أن الحيوانات كانت لا تثق بأحدٍ من البشر فإنها كانت تفضّل مع ذلك مستر "بلكنجـتـون" على مستر "فردريك" الذي كانت تخشاه وتمقته في الوقت نفسه.

وحينما أذِن الصيف بالانتهاء وكـاد بناء الطاحونة يكتمل سرت أنباءٌ عن هجـومٍ وشيكٍ يزمع "فردريك" القيام به، وقد أُشيع أنه قـد جـيّش في سبيل ذلك عشرين رجلاً مدجّجين بالبنادق، وأنه قد رشا بوليس المنطقة حتى لا يتحرّك إذا ما سقطت "مزرعة الحيوانات" في يده، كما تسرّبت أنباءٌ عن مدى قسوة "فردريك" في معاملة حيواناته في مزرعته الخاصّة "بنشفيلد": فـقـد جلد حـصـانه الهَرِم حتى الموْت، كـمـا أنه ترك بقـرةً تموت جوعاً، وأحرق كلبه في الفرن، وكانت تسليته المفضلة في المساء معاركٌ يديرها بين ديوكه، وقد رُكِّبَت في أظفارها قطعٌ من أمواس الحلاقة!

وكان الدم يغلي في عروق الحيوانات حينما تتوالى عليها أنباء هذه القسوة التي يتعرّض لها رفاقها، حتى إنها فكّرت في الاستئذان في الهجوم على مزرعة "بنشفيلد"، وتخليص ما بها من حيواناتٍ مسكينة من براثن مستر "فردريك"، إلّا أن "سكويلر" نصحها بالتريّث وتَرْك مثل هذه الأمور لحِكمة الرفيق "نابليون" ودهائه.

وارتفعت مـوجـة الكُـره ضـد "فـردريك"، وفي صـبـاح يـوم "أحـد" قـَدِم "نابليون" إلى حظيرة الاجتماعات، وأعلن على الحيوانات أنه لم يفكّر في يومٍ من الأيّام في بيع صـفـقـة الخشب إلى "فردريك"، وأنه شخصيّاً يعتبر أن التعامل مع أمثال مستر "فردريك" لا يتّفق مع كرامته.

وفي يومٍ من الأيّام صدر الأمر للحمام بعدم التحليق فوق مزرعة "فوكس وود" وعـدم الـتـعـرّض لـهـا والاقتصار على الدعوة إلى الثوْرة في مزرعة "بنشفيلد"، كما صدرت إليه التعليمات بتعديل الشعار القديم: "الموت للإنسانية" إلى: "الموت لفردريك".

وفي أخريات الصيْف اكتُشِفت مؤامرةٌ جديدةٌ دبّرها "سنوبول" الذي تبيّن أنه داهم المزرعة بليْل وخلط تقاوى القمح ببذور الحشيش، وقد اعترف بهذا ذكرٌ من الإوَز كان قد شاركه في المؤامرة، ثم انتحر في الحال ببلع حباتٍ من نباتٍ سام، وقد تبيّن الآن للحيوانات كافةً أن "سنوبول" لـم يـحـصـل إطلاقاً على وسام "بطل الـبـهـائـم" من الدرجـة الأولى عن دوْره في معركة "زريبة البقر" كـمـا كـان يشاع في الماضي، وقد اتضح لها أن "سنوبول" نفسه هو مصدر هذه الإشاعات المغرضة، وأن حقيقة الأمر هو أن "سنوبول" كان قد عُزِل بعد هذه المعركة لما أبداه فيها من جُبن.

ومرّةً أخرى فقد ساور بعض الحيوانات الشك فيما أذيع عليها أخيراً من معلومات، إلّا أن "سكويلر" استطاع أن يضع الأمور في نصابها وأن يبيّن لها مدى ضعف ذاكرتها.

وفي الخريف كانت الحيوانات قد بذلت مجهوداً ضخماً في حصاد المحصول في موْعده تقريباً، وكذلك فقد تمكّنت في الوقت نفسه من الانتهاء من بناء الطاحونة في الوقت المحدّد، وأصبح لِزاماً عليـهـا أن تحصل على الأدوات اللازمة لتشغيلها عن طريق مستر "ويمبر".

نعم .. لقد انتهت من بناء الطاحونة في موعدها المحدّد باليـوْم برغم جميع المصاعب وعدم خبرتهـا بالبناء ونقص المعدّات اللازمة وسوء الطالع وخيانة "سنوبول" وأنهـا إذ تشـعـر بالـتـعـب فـإنـهـا مع ذلك كـانت فخورةً تطوف حول تحفتها الفنيّة التي بدت لها أجمل ممّا كانت عليه في المرة الأولى، وقد أصبحت حوائطها أكثر غِلَظاً من سابقتها بحيْث لا يمكن هدمها إلا باستعمال المفرقعات.

لقـد كـان يطوف بذهنهـا مـا لاقـتـه في سبيل بنائهـا من جـهـدٍ بالغٍ ومـصـاعب جمة، وقد تغلّبت عليـهـا بإيمانها، وآن لها الآن أن تهنأ بمستقبلٍ سعيدٍ باسمٍ بعد أن تم لها ما أرادت، وما هي إلّا فترةٌ قصيرةٌ حتى يتم تركيب المراوح لتشغيل المولد الكهربي، كانت هذه الأماني العـذبة تدور بخلدها، فتنسى مـا مَـر بهـا من تعبٍ وتهرول حـول الطاحونة وهي تصيح بصيْحات النصر.

وأقبل "نابليون" بشخصه تتبعه كلابه، ويتقدمه ديكه الأسود لتفقّد الطاحونة وقـد هَنّأ بنفسه الحيوانات على إنجازها الضخم، وأعلن أنه منذ الآن فإن الطاحونة ستحمل اسمه لتصبح "طاحونة نابليون".

بعد يوميْن من الانتهاء من تشييد الطاحونة دُعيت جميع الحيوانات للقاءٍ خاصٍ في الحظيرة، ووسط ذهولها الشديد أعلن "نابليون" عليها نبأ صفقة الخشب لـ"فردريك"، وأن عربات "فردريك" ستحضر في صباح اليوم التالي لتحويل الأخشاب، كما أعلن أنه طوال فترة صـداقته بمستر "بلكنجتون" كان على وفاقٍ سريٍ كاملٍ مع مستر "فردريك"، وأنه منذ الآن قد قطع علاقاته بمزرعة "فوكس وود" وأن حملاته الإعلاميّة قد تم توجيههـا ضـد "بلكنجـتـون"، وأن شعار الحمام المعدّل: "الموت لفردريك" قد عُدِّل من جديد ليصبح: "الموت لبلكنجتون"، كما أصـدر "نابليون" تعليماته بتجنّب الإساءة إلى مزرعة "بنشفيلد" وكذلك أنبأها "نابليون" أن أخبار المعارك المزعومة التي يديرها "فردريك" لا أساس لها من الصحّة، وأن أخبار قسوته على حيواناته مبالغٌ فيها للغاية، وأن مثل هذه الشائعات قد أطلقها "سنوبول" وعملاؤه، وأنه لا صحّة لما تردّد من وجود "سنوبول" بمزرعة "بنشـفيلد"، بل إنه يتقلّب في أسبـاب الأبّهة والترف بمزرعة "فوكس وود".

وكانت الحيوانات في حالة انتشاءٍ وهي تسمع "سكويلر" يُلقي عليها أخبار دهاء "نابليون" وخديعته لـ"بلكنجتون"، فقد استطاع بإظهار الصداقة له أن يُجبِر مستر "فردريك" على رفع سعر الخشب اثنى عشر جنيهاً، واستطرد "سكويلر" أن مـدى حـكـمـة الـزعـيـم تـتـّضـح مـن خـلال حـذره الشديد من الآخرين بما في ذلك "فردريك" نفسه، فإن "فردريك" أراد أن يسدّد ثمن الخشب بما يسمّى "الشيك" وهو عبارة عن قطعة من الورق دوّن عليـهـا أمـراً بالسداد، ولكـن "نابليون" بَزَّه (غلبه وقهره) في لعبة الدهاء حينما اشترط أن يكون الدفع بورقٍ حـقـيـقيٍ من البنكنوت مـن فـئـة الخـمسـة جنيهات تُدفَع قبل تسلُّم الخشب، وقد أذعن "فردريك" للشروط وقام بالدفع، وقرّر "سكويلر" أن ما تجمّع لديهم من عملاتٍ أصبح كافياً لشراء جميع المعدّات اللازمة للطاحونة.

وفي هذه الأثناء تم تسليم الخشب الذي نُقِل على عجل، ثم عـقـد "نابليون" اجتماعاً خاصّاً بقاعة الحظيرة لكى يُطلِع الحيوانات على ورق البنكنوت، وبدا "نـابـليـون" وهو يـعـتـلـى سـريراً من القش، ويرتـدي وساميْه، ويفتر (يفتح فتحةً صغيره) ثغره عن ابتسامةٍ عريضة، كما بدت بجانبه كومةٌ من النقود الورقيّة في طبقٍ صيني!

وزحفت الحـيـوانـات في بطءٍ وهي تحملق بكـل نظراتـهـا، بل إن "بوكسر" زاد على ذلك بأن وضع أنفه في الصحن وهو يشم النقود عميقاً حتى تناثرت من أنفه بعض الرغاوي البيضاء!

وبعد ثلاثة أيامٍ من هذا المشهد حضر مستر "ويمبر" على درّاجته وهو ممتقع الوجه، واقتحم بسرعة منزل المزرعة، وقد أحدث وجوده بهذه الصـورة هرجاً ومرجـاً شـديـديـْن في أنحاء المزرعة، وسُمِع بعـد ذلك صوْت "نابليون" مدويّاً، وانتشر خبر الزيارة مثل النار في الهشيم، فقد تبيّن أن أوراق البنكـنوت التي قدّمها مستر "فردريك" مزوّرة!، وأنه بذلك يكون قد اشترى الخشب بدون مقابل!

وفي الحال استدعى "نابليون" جميع الحيوانات وفي صوْتٍ رهيبٍ أصدر حكما بالإعدام على "فردريك"، فإذا ما تم القبض عليه فإن الحكم يتم بسلقه في الماء المغلي حيّاً!

كـمـا أنذرها أنـه يتـوقّع المبادرة بالـعـدوان في أيّة لحظة من جـانب "فردريك" بـعـد أن انكشف غِـشّـه، وأن "فـردريك" ورجـالـه قـد يـقـومـون بهـجـومـهـم المنتظَر في أي وقت، ولذلك فإن "نابليـون" قـد أمـر بإقـامـة حـراسـةٍ كـاملةٍ على جـمـيـع مـداخل المزرعة، كما أنه قد بعث بأربع حماماتٍ إلى "فوكس وود" وهي تحمل منه رسائل وديّة لإعادة ما انقطع من علاقاتٍ بينه وبين "بلكنجتون"!

وفي صبيحة اليوم التالي لاحت بوادر المعركة حينما هُرِعت طلائع الحـيـوانات المكـلّـفـة بـالحـراسـة إلـى مـبـاني المزرعة على حين كـانت الحـيـوانات تتناول الفطور، وقـد أنذرت هذه الطلائع بأن "فـردريك" ورجـالـه قـد اقـتـحـمـوا بالفعل بوّابة المزرعـة ذات العوارض الخمس، وتحرّكت الحيوانات بشجاعةٍ لمقابلة الزحف، ولكنها في هذه المرّة لم تحظَ بالنصر السريع الذي سبق لها أن أحرزته في معركتها السابقة "زريبة البقر".

فـقـد كـان المهـاجـمـون خـمـسـة عشر رجلاً، منهم ستّةٌ مسلّحون بالبنادق وقـد بادروا الحـيـوانـات بسيلٍ من الرصاص وهم على بعـد خمسين ياردةً منها، ولم تستطِع الحيوانات مقابلة الرصاص المنهمر، برغم ما بذله "نابليون" و"بوكسر" من جهدٍ في تجميع صفوفها، وانسحبت إلى الخلف وقد أصيب عددٌ منها بجروح، ثم تحصّنت بمباني المزرعة ، وأطلّت بحذرٍ من خلال النوافذ الضيّقة وثقوب الأبواب وقد وقعت مراعي المزرعة والطاحونة في أيدى أعدائها!

وخُيّل للجميع بما في ذلك "نابليون" أن المعركة قد انتهت بالفعل وقد تمّت هزيمتها، وكان "نابليـون" يـغـدو ويروح بصـبـرٍ نـافـذٍ وذيْله المتقلّص يتحرّك في عصبيّة، ومن حينٍ لآخر فإنه كان يتطلّع إلى الناحية التي بها مزرعة "فوكس وود" وعيْناه تنظران في ضراعة، فلوْ أن مدداً جاءه منها فربّما يستطيع أن يقلِب الوضع لمصلحـتـه، وفي هذه الأثناء عـادت الحـمـامـات الأربعـة وهي تحمل لـ"نابلـيـون" رسالةً رَدّاً على خطابه إلى "بلكنجتون" وقد ضَمَّنها (أدرج داخلها) العبارة الآتية: "لقد نلت جزاءك".

وتابع "نابليون" تحرّكات الأعداء فإذا بهم يتوقّفون حول الطاحونة ، ونظرت الحـيـوانات واجـفـةً إلى رجليْن من بيْنهـم يـحـاولان تـدمـيـر الطاحونة وقد حملا في أيْديهما عتلةً ومطرقة.

وطمأن "نابليون" الحيوانات بألّا تخشى شيْئاً لأن بناء الطاحونة أقوى من أن يحطّمه رجلان قبل أسبوعٍ كامل، وطلب إليها أن تحتفظ برباطة جأشها.

وكان "بنيامين" يتابع تحرّكات الرجليْن باهتمامٍ بالغٍ وهما يحـفـران حفرةً تحت الطاحونة يستعملان فيها المطرقة والعتلة، وبتؤدّةٍ هز "بنيامين" رأسـه وكـأنـّه قـد أدرك مـا يـحـاولان أن يفـعـلاه وقد بدت على وجهه علامات الرضا عن النفس وقال:

-       إنني كنت أتوقّع منهما ذلك .. إنهما يحفران حفرةً تحت الطاحونة وسيملأنها بموادٍ ناسفة.

ولم تكن الحيوانات لتجرؤ على الخروج من مكامنها بالمباني وقد قبعت تراقب مجريات الأحداث وهي واجفة، وبعد دقائقٍ معدودات شاهدت الرجـال تجرى بعيداً عن الطاحونة في كُل اتجاه، ثم سمعت صوْت انفجارٍ مدوٍ طار عند سماعه الحمام مذعوراً، وألقت الحيوانات بنفسها على بطونها وقد أخفت في الأرض وجوهها ما عدا "نابليون".

وحينما عادت الحيوانات لمراقبة مجريات الأمور شاهدت دخاناً أسود يتصاعد إلى السماء، ولمّا انقشعت تلك السحابة السوْداء كانت الطاحونة قد اختفت عن الأنظار وقد تناثر على الأرض حطامها!

وعند هذا المنظر الرهيب نسيت الحيوانات يأسها وخوْفها، ودبّت في صدورها نار الغضب والثوْرة، وانطلقت صـيـْحـةٌ مـدويـّةٌ تدعـو للانتقام، انطلقت في إثرها الحيوانات صفاً واحداً متماسكاً دون انتظارٍ للأوامر، وأطبقت على أعدائها غير عابئةٍ برصاصهم المنهمر.

ثم تلاحمت في معركةٍ رهيبة، وانطلق الرجال يضربونها بعصيهم وأحذيتهم الثقيلة، وقد قُتِلَت في المعمعة بقرةٌ وثلاث نعاج وإوَزّتان كما أصيب كل المتحاربين بجروحٍ وإصاباتٍ مختلفة: فـ"نابليون" الذي كان يقـود العمليّات الحـربـيـّة عن كثب أصيب طرف ذیْله برش الرصاص فبتره، وكذلك أصيب الرجال جميعاً، فقد أصاب "بوكسر" بضربات حافره الحديدي جماجم ثلاثةٍ منهم كما أحدثت بقرةٌ بقرونها جرحاً غائراً ببطن أحدهم ومزقت "جیسي" و"بلوبيل" سراويلهم.

وكان "نابليون" قد سبق أن أصدر أمراً إلى كلابه التسعة بمراقبة سور المزرعة، وقد عادت الكلاب فجأةً وهي لا تكاد تُرى من السـور وقد علا نباحها إلى جانب الرجال المهاجمين.

وقـد كـان لـظـهـورهم المباغت أثره على الرجـال الـذيـن خـافـوا أن تطوّقهم الحيوانات، وأمرهم "فردريك" في الحال بالانسحاب في الوقت المناسب، وهُرِع الرجال الجبناء إلى خارج المزرعـة ينشدون السلامة!، وانطلقت الحيوانات في إثرهم تركلهم حتى اضطر الرجال إلى الهروب عبر أسوار المزرعة الشوْكيّة إبقاءً على حياتهم!

لقد تم للحيوانات النصر، ولكنها كانت مرهَقةً تنزف، وفي بطءٍ عادت ثانيةً إلى مباني المزرعة وهي تعرج وقد حرّكت مشاعرها مناظر رفـيـقـاتـهـا وهي صـرعي فـوْق الحشيش، وانطلقت بعـضـهـا تبكي، ثم توقّفت قليلاً أمام أطلال الطاحونة والأسى يغمر نفوسها؛ فقد كانت رمزاً حيّاً لإرادتها وها هي ذي قد تهدّمت من أساسها؛ بل إن أحجارها كانت قد تناثرت بعيداً بفعل الانفجار، وحتّى أصبح من العسير إعادة استخدامها في البناء من جديد، لقد أصبحت الطاحونة أثراً بعد عيْن.

وحينما اقتربت الحيوانات من مباني المزرعة خرج عليها "سكويلر" وهو يهز ذيْله ووجهه يطفح بالبِشْر، لقد كـان قـابعاً في مكانه حينما كانت تحارب، وها هو ذا يُعِدُّ لها استقبالاً يليق بالمنتصرين، وسُمِعَت رصاصةٌ تدوّي وتساءل معها "بوكسر" عن سبب إطلاق الرصاصة، فصاح "سكويلر":

-       احتفالاً بالنصر.

وتساءل "بوكسر" ثانيةً:

-       أي نصر؟!

وكانت ركبه تنزف دماً وقد فقد حدوةً حديديّة كما أصيب أحد حوافره بكسر، واستقر رش البنادق في فخذيْه الخلفيّتيْن وعندئذ صاح "سكويلر" بـ"بـوكـسـر":

-       تتساءل عن النصـر! .. ألم نطرد نحن أعـداءنا من أرضنا .. أرض الحيوانات المقدّسة؟

فقال "بوكسر" بحزن:

-       ولكنهم حطّموا الطاحونة التي اجتهدنا في بنائها عاميْن.

وصاح "سكويلر":

-       سنبنى إذا ما شئنا سِت طواحين .. ألا تتصوّرون أيّها الرفاق مدى الإنجاز الضخم الذي حقّقناه؟ .. ألم يكن أعداؤنا قد احتلّوا أرضنا التي نقف عليها الآن ثم استعدناها نحن قطعةً قطعة بفضل زعامة الرفيق "نابليون" الرشيدة؟ ....

وهنا قاطعة "بوكسر" متسائلاً من جديد:

-       أي نصر؟! .. كل ما في الأمر أننا قد استعدنا ثانيةً ما كان لنا من قبل.

فأجابه "سكويلر":

-       إن ذلك هو النصر المبين.

وواصلت الحيوانات المسيرة و"بوكسر" يعرج وقد أحدثت به كرات الرش التي اسـتـقـرّت تحت جلده ألـمـاً شـديـداً، وكان في ذلك الوقت يفكّر في العبء الجسيم الذي ألقت به المعـركـة على أكـتـافـهـم؛ فإن الطاحونة التي قد نُسِفَت لا بد أن يعاد بناؤها من جديد.

ولقد عقد "بوكسر" العزم على تهيئة نفسه لهذا الغرض العظيم وللمرّة الأولى من حياته التي امتدت أحد عشر عاماً شعر "بوكسر" بوطأة السنين وثقلها، كما أحس بالوَهَن يدب في عضلاته القوية.

وعندمـا شـاهدت الحـيـوانات العلم الأخـضـر وهـو يـرفـرف على ساريته، وسمعت دوي الرصاص للمرّة السابعة و"نابليون" يقـوم فـيـهـا خطيباً يهنئها على بسالتها خُيّل إليْها في نهاية المطاف أنها قد أحرزت بالفعل نصراً عظيماً، وقامت بدفن ضحايا المعركة في موكبٍ مهيب، وكان "بوكسر" و"كلوفر" يجرّان العربة التي وُسِّدَت فيها (فُرِشَت فوْقها) الجُثث، ويتقدّمها "نابليون" شخصيّاً.

وظلّت لعدّة أيامٍ بعد ذلك تحتفل بانتصارها بإلقاء الخُطَب وترديد الأناشـيـد وإطلاق الرصاص، ووزِّعَت الهدايا عـلـيـهـا وأُهدي لكل حيوانٍ تفّاحة، وكل طائرٍ أوقيّتان من القمح، وكل كلبٍ ثلاث قطعٍ من البسكويت، وأطلق "نابليون" على الحرب الأخـيـرة اسم "معركة الطاحونة"، وقد أمر "نابليون" بتخصيص وسامٍ تخليداً لذكرى المعركة من مرتبة وشاح العلم الأخضر الذي أنعم به على نفسه.

وفي غـمـرة الابتـهـاج بالنصـر نسـيـت الـحـيـوانـات قـصّـة البنكنوت المزيف، وبعد أيّامٍ قلائل من هذه الاحتفالات أخرجت الخنازير من مخزن المنزل صندوقاً من الويسكي كانت قد تركته بعد استيلائها على المزرعة، وفي هذا المساء سمعت الحيوانات صخباً شديداً ينبعث من منزل المزرعة، كما سمعت الخنازير تغنّي بصوْتٍ عال، وتخلط الأنغام بعضها ببعض، وقد أدهشها أن تسمع بين هذا النشاز بعض فقراتٍ من النشيد الممنوع "يا وحوش إنجلترا" وفي الساعة التاسعة والنصف مساءً لمحت الحيوانات لدهشتها الشديدة "نابليون" وهو يرتدي قبّعة مستر "جونز" وقد خرج من الباب الخلفي للمنزل مهرولاً، ودار حول ساحة الفناء ثم عاد ثانياً من حيث جاء دون ما سببٍ واضح.

وفي صباح اليوْم التالي كان الصمت مخيّماً على المنزل حتّى الساعة التاسعـة صـبـاحـاً ثم خرج "سكويلر" وهو يمشي الـهـوينى (مشية بطيئة بتؤدّة) وتبدو عليـه علامات المرض والاكتئاب وقد انتفخت عيْناه وهو يجر ذيْله جرّاً وقد تهدّل خلفه وجمع حوْله الحيوانات ليتلو عليهـا الخبر المقتضب الآتى: إن زعيمنا "نابليون" في النزع الأخير.

وعندئذٍ أخـذت الحيوانات في الولولة، ثم قامت بفـرش القش في الفناء لكيْلا تُحْـِدث صـوْتاً يقلق راحـة المـحـتـضـر، وكانت تمشى على أطراف أصابعها، وإذا ما تحدّثت فبالهمس، وكانت تسائِل بعضها بعضاً والدموع في مآقيها عن مصيرها إذا ما مات الزعيم.

وقد سرت إشاعةٌ أن "سنوبول" هو الذي دس السم في طعام "نابليون" ، وفي الساعة الحادية عشرة خرج عليها "سكويلر" ثانيةً بالخبر التالي:

-       أيها الرفاق: إن زعيمنا قبل أن يوافيه الأجل المحتوم قد أصدر مرسوماً باتاً بعقوبة الموْت بالإعدام على كل من تسوّل له نفسه شرب الخمر.

وعند المساء سرت أنباءٌ سعيدةٌ بتحسّن صحّة الزعيم، وفي اليوم التالي أعلن "سكويلر" أن صحّة الزعيم في تقدّمٍ مطّرد، وفي مساء اليوْم التالي عاد "نابليون" إلى مهام منصبه، وفي اليوْم التالي أصدر "نابليون" أوامره إلى مستر "ويمبر" بشراء المراجع الخاصّة بطرق التخمير والتقطير.

وبعـد أسـبـوعٍ أصدر "نابليون" أوامـره بـحـرث المرعى الصغير الذي خلف حديقة الفاكهة، وهو الذي كان قد اتُفِق على تخصيصه لكبار السن من الحيوانات التي تحال إلى التقاعد، وقد علّل إجراءه هذا بأن الحـشـيـش الـضـار قـد داهـم هذا المرعى، فلزم الأمـر بـحـرث الأرض وتجهيزها تمهيداً لإعادة زراعتها من جديد، ثم تبيّن للحيوانات فيما بعد أن "نابليون" قد أمر بزراعة هذا المرعى شعيرا.

وفي الليْلة ذاتها وقع بالمزرعة حادثٌ مريب وإن لم تكن الحيوانات لتعرف ما وراءه!؛ فعند منتصف الليْل سمعت جميعاً صوتاً مكتـوماً ينبعث من الفناء وكأنه جسمٌ يرتطم هو والأرض من علٍ (ارتفاع)!، وقد هُرِعت الحيوانات من حظائرها لتستطلع الخبر في ضوء القمر، وعند الحائط الخلفى لمبنى الحظيرة الكبرى حيث قد دُوِّنت الوصايا السبع وجدت الحيوانات سلماً مهشّماً على الأرض و"سكويلر" مُلقى بجانبه وهو في حالة ذهولٍ مؤقّتٍ وقد سقط بجانبه مصباحٌ وفرشاة وعلى الأرض بقايا طلاءٍ أبيض يسيل من علبةٍ مقلوبة!

وكانت الكلاب تحيط بـ"سكويلر" وكأنّها تحرسه، ثم ما لبث أن أفاق من غشيته، وحينما استطاع النهوض انسحب قافلاً للمنزل بين دهشة الحيوانات التي استبد بها الفضول إلّا "بنيامين" فقد ظَلَّ صامتاً يهز رأسه وتبدو عليه سمات العارفين!

وبعد ذلك الحادث بأيّام بينمـا كـانـت "مـوريـل" تعـيـد لـنـفـسـهـا قـراءة الوصايا السبع لاحظت أن وصيّةً من بيْنها قد سبق للحيوانات حفظها على غير وجهها الصحيح؛ فإن نص الوصيّة الخامسة التي درجت الحيوانات على حفظها عن ظهر قلب كانت كما يأتى: "غير مسموحٍ للحيوانات بشرب الخمور" إلا أن "موريل" في قراءتها الأخيرة اكتشفت أنهـا كـانت قد نسيت كلمتيْن عثرت عليهما من بعد لتصبح الوصيّة مكتملةً كالآتي: "غيـر مـسـمـوحٍ للـحـيـوانات بشرب الخمر .. لحد الإفراط".

 

 

(يتبع)

google-playkhamsatmostaqltradent