الفصل السادس (1)
الله - سـبـحـانه
وتعالى - جـعل القرآن معجزةً باقيةً إلى يوْم القـيـامـة .. ولذلك وضع فـيـه
الـدلـيـل تـِلـو الـدلـيـل عـلـى مـا يـتـحـدى به غير المؤمنين ليرد على
ادعاءاتهم .. ولقـد قيل: إن عـصـر المعـجـزات انتـهى .. ولكن مـعـجـزات القرآن لا
تنتهي حـتـى تقـوم الساعة .. ومعاني الآيـات لا تتّضح في عـصــرٍ واحـدٍ بل كل
عصرٍ تصل إلى معنىً لم نكن قد وصلنا إليه .. والقرآن معجزةٌ ومنهج، المنهج وهو
مـارسـمه الله لنا كطريقٍ للعبادة والحياة تم تفسيره وبيانه كـامـلاً في حـيـاة
رسول الله صلى الله عليه وسلم .. فـالعـبـادات والمعاملات وغيرهما فيما يتصل بإفعل
ولا تفعل بيّنها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فالصلوات المفروضة فيه مثلاً خمسٌ لا تزيد
ولا تنقص إلى يوم القيامة، وكذلك الأحكام وكل ما يتعلّق بمنهج السماء .. كلها
أشياءٌ حُسِمَت وبُيّنَت تماماً .. ولكن المعجزة في القرآن الكريم هي التي بقيت
لتعطي كل جيلٍ معنىً إعجازيّاً لم يصل إليه الجيل الذي قبله.
ولو أن معجزة القرآن توقّفت عند النزول لجَمِدَ
القرآن فلم يعد يعطي شيئا جديداً .. ولكن لأن هذا الكتاب معجزةٌ باقيةٌ متجدّدة فهو
يعطي لكل جيلٍ عطاءً جديداً .. وهكذا نجد في كل عـصـرٍ عطاء القرآن لم يكن موجوداً
في العصر الذي قبله.
فإذا قرأنا مثلا الآية الكريمة: "غُلِبَتِ
الرومُ في أَدْنى الأَرْض" (الآية الثانية ومن الآية 3 من سورة "الروم")
وجدنا أن عطاء "أدنى" حين نزل القرآن كانت - كما قلنا - بمعنى المكان
القريب لأرض العرب .. ولمّا تقدّم العِلم واستطاع الإنسان أن يصوِّر سطح الأرض
بالأقمار الصناعيّة وجد أن مكان المعركة بين الروم والفُرس هو أكثر الأماكن
انخفاضاً على سطح الأرض .. وإذا قرأنا الآية الكريمة: "إِذْ أَنتُم
بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ
مِنكُمْ" (من الآية 42 من سورة "الأنفال") نجد أن الله - سبحانه
وتعالى - قد حدَّد ثلاثة مواقع: موْقع المؤمنين وهم قريبون إلى "المدينة
المنوَّرة" .. وموقع الكُفّار وهم بعيدون عن "مكّة المكرَّمة" ..
أي أن المؤمنين أقرب إلى مدينتهم وأهلهم .. والكُفّار بعيدون عن مدينتهم وأهلهم ..
ثم قال تعالى: "والرَكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُم" .. والركب هو قافلة "أبو
سُفيان" التي أفلتت من المؤمنين .. والمعروف أن "أبا سُفيان" لكي
يفلت بقافلته من المؤمنين غَيّرَ مساره واتخذ طريق الساحل .. وهنا يجب أن نلتفت
إلى قوْله تعالى: "أَسْفَلَ مِنْكُم" .. أي في موقعٍ منخفضٍ عنكم.
والمعروف أن ساحل البحر هو أكثر الأماكن
انخفاضاً في الأرض .. ولذلك تقاس كل الارتفاعات بسطح البحر .. فيقال: هذا المكان
يعلو ألف مترٍ مثلاً عن سطح البحر أو مائة مترٍ أو غير ذلك.
إذن فسطح البحر هو المقياس الذي اتخذه العالم
كله ليساوي صفراً في الارتفاع .. وتقاس عليه كل الارتفاعات في الدنيا .. ولذلك قوْله
تعالى: "أَسْفَلَ مِنْكُم" يلفتنا إلى هذه الحقيقة .. ولكن القرآن
الكريم لم يكتفِ بأن يبيِّن هذا .. بل بَيَّنَ لنا أن هناك بقعةً على سطح الأرض هي
أكثر البُقَع انخفاضاً على سطحها .. وهي التي دارت فيها المعركة بين الروم والفرس.
أصل العِلم من الله
وإذا قرأنا القرآن الكريم نجد أن الحق - سبحانه
وتعالى - قد لفتنا إلى مصدر العلم للبشريّة كلها .. فقال سبحانه وتعالى: "وَعَلَّمَ
آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ
أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِين" (من الآية 31 من
سورة "البقرة") .. وهكذا حدَّد القرآن الكريم في إعجازٍ مذهلٍ مدخل
العلم إلى البشر .. فأنت - حين تريد أن تُعَلِّم طفلك تمييز الأشياء - تبدأ بالأسماء
أوّلاً .. فتقول له: هذا كوبٌ وهذا قلمٌ وهذا كرسيٌ وهذا طعامٌ إلى آخر ذلك.
ونحن إذا لم نعلِّم الطفل هذه الأسماء فإنه لن
يستطيع أن يفهم شيئاً .. ولكنه إذا تعلّم الأسماء أصبح بعد ذلك قادراً على استيعاب
العِلم .. ولذلك ففي الدنيا كلها وبالنسبة للبشريّة كلها لا بُد أن نبدأ بأن نعلِّم
أطفالنا أسماء الأشياء .. ثم بعد ذلك تختلف نُظُم التعليم من دولةٍ إلى أخرى ومن
طريقةٍ إلى أخرى .. ولكنها كلها لا بُد أن تبدأ بتعليم الأسماء .. وهكذا نعرف أن
بداية العلم من الله سبحانه وتعالى.
فقد بدأ الحق - جل جلاله - بتعليم الإنسان
الأسماء .. ومـا زالت هذه البداية موجودةً حتى الآن في كل نُظُم التعليم ..
الأسماء أولاً .. فإذا تعلَّم الطفل الأسماء بدأ يستوْعب أي شيءٍ آخر .. ونحن لا
نعلِّم الطفل الأسماء في المدرسة فقط .. ولكن هذا هو عِلم الفطرة .. تبدؤه الأم مع
طفلهـا قـبل أن يذهب إلى المدرسة .. والأم المتعلِّمة وتلك التي لم تنَل حَظّاً من
التعليم كلتاهما تبدأ بتعليم ابنها الأسماء .. لأن علم الفِطرة تكون منه البداية
دائماً .. ثم بعد ذلك يتطوَّر ويتبدَّل .. ولا يمكن أن يتم التـفـاهـم بين الأم
وطفلهـا ولا بيْن طفلٍ وطفلٍ آخر إلّا إذا تعلَّمـا الأسماء أولاً .. والعِلم في
الدول المتقـدِّمـة والدول المتخلِّفة لابد أن يبدأ بالأسماء باعتبارها أساس
التفاهم في الحياة .. ولكن هناك إعجازاً آخر بالعلم البشري .. لابد أن نلتفت إليه
.. وهو يحمل لنا الدليل اللغوي على وجود الله.
اللغة تدل على الوجود
فاللغة هي أساس التفاهُم بيْن البشر ..
واللغة ليست بيئةً ولا حضارةً ولا جنساً ولا لوْناً .. ولكنها تعتمد أساساً على
السَمْع .. فإذا سمع الإنسـان تكلّم، وإذا لم يسمع لا يتكلّم .. ولذلك تجد دائماً
أن الأصم الذي لا يسمع أبكمٌ لا ينطق .. فيقال دائماً: الصُم والبُكم .. لأن أساس الكلام
هو السماع.
ولكي نفهم هذه الحقيقة جيّداً وهي أن اللغة
لا علاقة لها إلّا بالسمع نقول: إننا إذا أتيْنا بطفلٍ عربيٍ وأخذناه بعد ولادته
إلى "بريطانيا" مثلاً بحيث لا يسمع إلّا اللغة الإنجليزيّة نجد أن هذا
الطفل يتكلّم الإنجليزيّة فإذا حاولت أن تتحدَّث معه باللغة العربيّة فإنه لا يفهمك
.. مع أنه عربي الأصل .. من أبٍ وأمٍّ عربيّيْن .. ولكنه لا يستطيع أن ينطق حرفاً
واحداً من اللغة العربيّة لأنه لم يسمعها .. فإذا جئنا بطفلٍ إنجليزي وأخذناه إلى بلاد
العرب فإنه سينشأ وهو يتكلّم اللغة العربيّة ولا يعرف حرفاً من الإنجليزيّة .. مع
أنه من أصلٍ إنجليزي .. وإذا أتيْنا بطفلٍ إفريقي وكرَّرنا معه نفس التجربة فسنحصل
على نفس النتيجة .. إذن فاللغة لا علاقة لها بالأصل ولا باللون ولا بأي شئ آخر غير
السماع.
و"آدم" - حين خلقه الله وخلق "حوّاء"
- لابد أنه كان بينهما طريقةٌ للتفاهُم وإلّا كيف تفاهما؟ .. لا بد أنه كان بينهما
لغةٌ ما تفاهما بها .. ثم جاء أوْلاد "آدم" فكان بين "آدم" و"حوّاء"
وأولادهما لغة التفاهم سجّلها الله - سبحانه وتعالى - في القرآن الكريم في قوْله
سبحانه: "وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا
قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ
لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ" (الآية
27 من سورة "المائدة").
إذن الثابت يقيناً من القرآن الكريم أنه كانت
هناك وسيلةٌ للكلام بين "آدم" وأوْلاده .. وإذا كنا قد أثبتنا بالدليل
المادي أن الإنسان لا يمكن أن يتكلّم إلّا إذا كان قد سمع .. وأن اللغة أساسها
السماع .. فلابد أن آدم قد سمع حتى يستطيع أن يتكلّم .. فإذا قال لنا الله سبحانه
وتعالى: "وعلَّمَ آدَمَ اللأسماءَ كُلَّها" فلابد أن يكون "آدم"
قد سمع الأسماء من الله سبحانه وتعالى، وبما أن السمع هو وسيلة النطق بالكلام ..
فكأن سماع "آدم" للأسماء من الله هو الذي علّمه الكلام .. بدليل أن الله
سبحانه وتعالى قال: "وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ
عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ
صَادِقِين، قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ۖ
إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ، قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُمْ
بِأَسْمَائِهِمْ ۖ فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل
لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ
وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُون" (الآيات من 31 – 33 من سورة "البقرة") ..
أي أن "آدم" تكلّم وأنبأ الملائكة بالأسماء التي علّمها الله له .. وإذا
كان آدم نطق وتكلّم فلابد أنه سمع من الله سبحانه .. و"حـوّاء" سمعت من "آدم"
فتكلّمت .. وأوْلاد "آدم" و"حوّاء" سمعوا منهما فتكلّموا.
الكلام من السماع
هناك بعض الناس يقول: إن الإنسان الأوّل لم
يكن يتكلّم، وإنما كان يتفاهم بالإشارة ثم بعد ذلك تكلّم .. ونقول: إن هذا غير
صحيح .. لأن أي إنسانٍ لكي يتكلّم لابد أن يسمع أولاً .. فمِمَّن سمع أوّل إنسانٍ
تكلّم سواء كان "آدم" أو مَن بعده؟ .. إن الكلام لا يأتي إلّا بالسماع
.. والذين يتفاهمون بالإشارة يظلّون طوال حياتهم يتفاهمون بنفس الأسلوب .. إلّا
إذا سمعوا من غيرهم .. حينئذ تبدأ عندهم مَلَكة الكلام .. والصُم والبُكم الذين
يعالَجون من هذا الداء إذا لم يسمعوا فلن يتكلّموا.
فإذا قال أحدهم: إن البشر يتحدّثون بلغاتٍ
مختلفة ولهجاتٍ مختلفة .. نقول: إن هذا دليلٌ لنا وليس علينا أن اللغة مصدرها
البيئة .. وليس الجنس أو اللوْن أو أي شيءٍ آخر .. وإن الكلام ليس صفةً وراثيّةً
تولَد مع الإنسان ولكنها صفةٌ سمعيّةٌ فلابد من السمع أولاً.
وهكذا تعطينا القرائن كلهـا أن الله - سـبـحـانه
وتعالى - هو الذي علَّم البشريّة الكلام بأن علّم آدم الأسماء .. ولا يمكن أن تكون
هناك بدايةٌ - عِلماً ولا عقلاً – إلّا هذه البداية التي ذكرها الله سبحانه وتعالى
في القرآن الكريم.