مزارع الشوك (2)
وانطلق الاثنان بالسيّارة على الطريق الساحلي
الدولي متّجهان شرقاً وطفقا يتجاذبان أطراف الحديث ليقطعا الوقت سريعاً وسط المطر
الغزير الذي يحدِث صوت هزيمٍ عالٍ وتتلألأ قطراته تحت نور مصابيح السيّارة
الأماميّة الذي يشق ظلمة هذا الليْل الحالك :
- إسم الكريم إيه؟
- أنا اسمي "سعد الله بو سنينة".
- منين يا حاج "سعد"؟
- من بيت "واعر" من قبيلة
"الشوالحة".
- إنتم بقى من قبائل أولاد "علي
الاحمر" ولّا "الابيض"؟
- لا هذا ولا ذاك.. نحنَ من قبيلة
"السِنَنَة" بس لنا نسب مع أولاد "علي".. يبدو عليك مش من
هون؟
- لأ.. محسوبك "حماده الاسكندراني"..
من "اسكندريّة".
- ويْ.. يا رجّال.. تترك
"اسكندريّة" وتيجي هون !
- يا عم "اسكندريّة" ما بقتش
تنطاق.. زحمة وقرف والشغل فيها بالتيلة.. هنا ف "سيدي برّاني" الدنيا
رايقة والناس طيّبة والشغل مش ولابد.. أصلي كمان حبّيت "مطروح" كلّها من
أيّام ما كنت عسكري.. كنت شغّال سوّاق مع قائد "المنطقة الغربيّة
العسكريّة".. وكنت باروح معاه ف كل حتّة أمّا كان بيفتّش ع الوحدات
العسكريّة.. الله يمسّيه بالخير بقى.. إنما انت برضه مش من هنا.. انا أوّل مرّة
اشوفك ف "برّاني".
- لا والله.. دي ثالث مرّة آجي.. أصلي لسّاي
تاجر جِمال جديد.. باشتري الجِمال من قرية "برقاش" ف
"القاهرة" وبابيعهم هون.
- يا عم هوّ فيه أكتر م الجِمال هنا.. إنت
جاي تبيع الميّه ف حارة السقّايّين!
- الجِمال اللي باشتريها وابيعها جِمال
سوداني وحبشي.. جيّدة وأسعارها قليلة.. الواحد ما يزيد عن عشرة آلاف جنيه.
- وانت بقى بِعت كام جمل النهار ده؟
- أنا مشيت من سوق الجِمال ومعي خمسين جمل..
نفق منهم أربعة وبقي معي ستّة واربعين بعتهم للحاج "فايد".
- قلت لي.. ده انت مليونير بقى.
- ها ها ها.. لا والله يا شيخ.. تقدر تقول خُمْس
مليونير.. بعد بكره الخميس.. ها ها ها.
- يا عم عمّال تخمّس ف وشّي ليه.. هوّ انا ح
احسدك.. ده انا ازوّدهم لك.. وبعدين الحمد لله أنا عيني مليانة.
- والله بامزح معك يا خوي.. لا تزعل.
ولم يردّ "حماده" على الحاج
"سعد" الذي ظنّ أنّه استاء من مزاحه فآثر الصمت وانهمك في التواتر على
طيْ حبّات مسبحته المصنوعة من العاج والتي كان يقبض عليْها بيده اليمنى، ولكن
"حماده" لم يغضب بل كان يفكّر في شئٍ آخر شرع في تنفيذه فور أن اختمرت
الفكرة في رأسه ووجد أن الظروف مواتية، فبعد عدّة كيلومترات وعندما نظر أمامه
وورائه ووجد أنّه وحده على الطريق تعمّد "حماده" أن يوجّه سيّارته نحو
أحد الحفر المنتشرة بالطريق فوقعت فيها فترجرجت السيّارة بشدّة فتظاهر
"حماده" بأنّه فقد التحكّم في مِقْوَد السيّارة وأنّها خرجت عن سيْطرته
فانحرف بها بحدّة خارجاً عن الطريق الأسفلت متوغّلاً في رمال الصحراء مسافةً كبيرة
حتّى اطمأن أن سيّارته أمست بعيدةً عن الطريق - التي ندر مرور السيّارات بها في
هذا الجوْ العاصف المطير الممطِر - وعن مجال الرؤية أيْضاً ؛ فتوقّف أخيراً وتصنّع
الخوف وقال موجِهاً كلامه إلى الحاج "سعد" :
- شوفت يا حاج.. مش قلت لك السفر ده الوقت
خطر.. عاجبك كده؟
- الحمد لله يا خيّي.. ربْنا سترها ويّانا..
الحمد لله.
- دي العربيّة كانت ح تتقلب.. أكيد المطب ده
كسر حاجة ف العفشة.. بينا ننزل نشوف اللي حصل.
وترجّل الحاج "سعد" عن السيّارة
بسلامة نيّة وفتح "حماده" حقيبة السيّارة وأخرج كشّافاً وأعطاه
"لسعد" وطلب منه أن يوجّه نوره لأسفل السيّارة على أن ينظر هو من الجهة
المقابلة ليتأكّد من سلامة السيّارة، وبمجرّد أن انحنى "سعد" معطياً
ظهره "لحماده" حتّى تناول الأخير عصاةً معدنيّة من حقيبة السيّارة
وانهال بها ضرباً على رأس الأوّل عدة مرّات فهشمها تماماً حتّى خرج مخّه وتناثرت
أجزاؤه من جمجمته وجحظت عيناه خارج محجريهما وسلّم الروح وقد ضاعت تأوّهاته وأنينه
وسط أصوات الرعد القصيفة في منظرٍ بشعٍ لا تطاق رؤيته تحت البريق المتقطّع للبرق،
وسالت دماء "سعد" على رمال الصحراء فاختلطت بمياه المطر المنهمرة
مكوّنيْن خليطاً من الطمي الأحمر الذي خاض فيه "حماده" دون مبالاة فأمسك
"سعد" من كاحليّ قدميْه وجذبه منهما ليجرّه بعيداً عن السيّارة وانكفأ
عليه يفتّش في جيوبه ليسلبه محفظته ويجرّده من ساعته وخاتمه الفضّي ومسبحته
العاجيّة التي اجتهد "حماده" في تخليصها من يد "سعد" التي
أطبقت عليْها بقوّة، وبعد أن انتهى من جريمته الشنعاء انتصب "حماده"
واقفاً يتلفّت في ريبة فلم يلمح شيْئاً على مدى نظره غير صخرةٍ كبيرةٍ مكعّبة
الشكل ولافتة بجوارها مكتوبٌ عليْها "مزارع الشوك" وبعضاً من الذئاب
التي تجمّعت رافعةً عقيرتها بالعواء فأضفت على المشهد مزيداً من الرعب والرهبة
فانصرف في سيّارته بعد أن اطمأن على وجود النقود بالحقيبة تاركاً جثّة
"سعد" تنهشها الذئاب المتكالبة وتتصارع على التهامها وتتقاذف أشلاءها.
وظلّ "حماده" محتفظاً بحقيبة النقود
وبداخلها باقي مقتنيات الحاج "سعد" في مكانٍ سرّي بمنزله دون أن ينفق
منها شيْئاً وتابع حياته المعتادة حتّى لا يلفت إليْه الأنظار بثرائه المفاجئ وعزم
على أن يبدأ في استغلال النقود في مشروعٍ كبير أو تجارةٍ رابحة بعد فترة لا تقل عن
عام حتّى تهدأ الأمور وتنطفئ جذوة جريمته للأبد.