"شيء من الخبث" | الفصل الثالث (1)
لم يستطع أهل "الدهاشنة" أن يخلدوا
للنوم هذه الليلة إذ سرت في القرية همهماتٌ لشائعاتٍ - لم يعرف مصدرها أحد - تفضي بأن
مجموعاتٍ من المطارَدين والبلاطجة المجرمين سوف يجتاحون القرية ويعيثون فيها سلباً
ونهباً مستغلّين عدم وجود الخفر خاصّةً بعد احتراق النقطة وسرقة ما بها من أسلحة، فبدأ
أهل القرية يعدّون العدّة للدفاع عن أنفسهم بما أتيح لهم من إمكانياتٍ قليلة، فها
هو فلاحٌ يحمل عصا غليظةً (شومة) والآخر يتسلّح بسكّين وثالث يمسك مذراة والرابع
جاروفاً وهكذا، وتجمّع ساكني كل حارةٍ أو عطفةٍ على رأسها ليتشجّع كل منهم
بالآخرين، ولم تنم النسوة والصبية أيْضاً؛ فالنسوة ظللن يوافين رجالهن بالشاي والمشروبات
الساخنة ليتغلّبوا على البرد القارس في تلك الأيام؛ والصبية - الذين قعدوا عن
الذهاب لمدارسهم - وجدوا هذه الظروف فرصةً سانحة ليستمروا في اللعب دون انقطاع
فشكّلوا مجموعتيْن: واحدة للعسكر (الذين غابوا بفعل فاعل) وأخرى للحراميّة (الذين
أطلق سراحهم عن عمد) وظلّوا يمرحون في كرٍ وفر وهم مطمئنون دون اكتراثٍ بمن حولهم
فأضفوا جواً من الألفة والمؤانسة في كل مكان.
ورغم أن أهل البلد استقبلوا ليلتهم بحالةٍ من
القلق والترقب انتظاراً لظهور البلطجيّون في أيّة لحظة إلّا أنه بمرور الوقت
تخلّوا عن خوْفهم وبدأوا يتحدّثون ويبدون آراءهم في الأحداث التي تمر بها البلد، وما
لبث أن انقلب حديثهم إلى مسامرةٍ لطيفة لقطع الوقت في حميميّة قلّما تسود فهم
مشغولون دائماّ عن التواصل فيما بينهم بالعمل والكد حتّى يتكسّبوا قوت يومهم، فأخذوا
يتندّرون ويتفكّهون ويسخرون من كل شيء حتّى أنفسهم؛ فهذه هي عادتهم دوماً للتغلّب على
الصعاب فقد اعتادوا مواجهة الظلم والجبروت بالنكات والسخرية في سريّة تامّة بينهم
في محاولةٍ منهم للتنفيس عن غضبهم في شيءٍ لا يعود عليهم بأي أذى؛ فمواجهة الظالم والمتجبّر
لرفع الظلم عن كاهلهم أمرٌ غير مأمون العواقب وقد يُنزِل بهم الظالم وقتها عقاباً
لا يطيقونه؛ لذا فإن النكات كانت البديل المضمون الآمن خاصةً أنها كانت تصل لمسامع
العمدة ورجاله دون أن يحرّكوا ساكناً؛ فمن ناحية العمدة ورجاله فقد كانوا يسمحون
بهذه النكات لتخفيف ضغط غضب أهل البلد حتّى لا ينفجر القِدر جرّاء تراكم البخار
المكتوم:
- والله يا عم دي سهراية لذيذة بقى لنا ياما ما سهرنهاش.
- طبعاً يا اخويا ما انت لازماً تقول كده
علشان متخانق مع جماعتك امبارح.. الدور والباقي علينا احنا اللي اتنكّدنا.. منه
لله اللى كان السبب.
- يا له يخرب مطنّك.. هو ده اللي همّك.. ما
تشوف حال البلد اللي مال.
- ولا مال ولا حاجة يا جدعان ده ح يتعدل إن
شاء الله.. بس الصبر بس.
- يا راجل ما احنا كنا قاعدين في حالنا.. واكلين
شاربين نايمين.. وبنربّي عيالنا.. واهي ماشية.. حبكت ده الوقت تقلبوا كيان البلد وتأندلوها
كدهو.
- قصدك بتعرج.. يا راجل ده احنا كنا ماشيين
جوّه الحيط مش جنبه.. وبرضه كنا بنتلط من رجّالة "عتريس" اللي كانوا
ممشينّا زي الجزم.
- وياريت كنا لاقيين لقمة عدلة ولا هدمة
نضيفة.. ده احنا يا دوب كنّا بنجيب القرش بالضالّين.
- مين يقول إن الخير اللي بيطلع من تحت
إيدينا ده كله.. إحنا بالكاد بينوبنا منه العيش والمِش.
- ما تنساش إن المِش كلّه بروتين.
- يا سلام !.. إزّاي بقى؟
- ما هو المش مليان دود.. ده كلّه بروتين يا
راجل.
- ولّا السوس اللي ف الفول.. والله يا عم دي البهايم
كانت نِفْسها بتعافي الفول.
- إحمد ربّنا إنك ما بتاكلش برسيم ولّا تبن.
- واللهِ الواحد كان بيقيم صلبه طول اليوم على
كوز درة.. أهو بينفِش ف البطن وما نحسّش بالجوع.
- الحمد لله ع الستر.. قالوا لك ف الأمثال: آكل
فول وادخل واخرج قفايا عرض وطول.. ولا آكل كباب والديّانة واقفين لي ع الباب.
- وقالوا علينا: إن عاشوا كلوا الدبّان.. وإن
ماتوا ما يلاقوا الأكفان.
- أومّال بتقول ليه إنك متضرّر م الثورة.. يعني
هوَّ فيه أنيل من كده عيشة؟
- أنا بس خايف إن الجاي يبقى أنيل وانيل.. آديك
شايف الهَم اللي احنا فيه .
- ولا هَم ولا حاجة.. بكره تروق وتحلى على رأي
العمدة "عتريس".. مش كان بيقول لنا كده برضه؟
- هأو.. دي طلعت عليه كذا نكتة ف الحكاية دي.
- طب قول لنا واحدة حلوة كده.
- بيقول لك إن "عتريس" قال لأهل
البلد إنه عمل خطة ما تخرّش الميّه ح تخلّي عيشتهم تبقى على مرحلتين.. الأوّلانيّة
ح تبقى عيشتهم فيها كلّها فقر وجوع وح تقعد خمس سنين بس ولازم يستحملوها.. إنما
المرحلة التانية بقى ح تقعد إن شاء الله خمسين سنة.. ولما قالوا له يعني ح يحصل
لنا إيه في المرحلة التانية دي؟.. قال لهم أبداً ح تاخدوا ع العيشة دي.
- ها ها ها ها.. طب سمعتوا النكتة دي؟
- قول يا فقري.. ما انتم ليلتكم طويلة مش
طالع لها سمس.
- طب قرّبوا عليَّ شويّة.. حاكم دي نكتة
قبيحة شوية ومش عايز العيال يسمعوها.. بيقول لك "عتريس" سمع إن مأمور
المركز ح يدّي عمدة "تفاهنا البلد" جايزة أحسن عمدة ديمقراطي في المديريّة..
قام "عتريس" شد تلفون للمأمور وقال له: أنا زعلان منك بقى تعِز عني
جايزة زي دي برضه؟.. قام قال له: خلاص خلّي أهل بلدك يعملوا مظاهرة صغنونة كده وصوّرها
بالكامرا اللي شيّعتها لك السنة اللي عدّت وابقى ابعت لي الصور أورّيها للناس علشان
يعرفوا إنك بتسمح بحريّة المظاهرات وساعتها ألافيك الجايزة طوّالي.. قام
"عتريس" قال "لإسماعيل": خلّي أهل البلد يدفعوا إتاوة كل ما
واحد يطلع ع الجسر الوسطاني لأجل ما الناس تعارض وتعمل مظاهرة.. وبعد ساعة اتصل
بيه "إسماعيل" وقال له: الناس بتدفع من غير ما تفتح بقّها.. قال له
"عتريس": خلاص خلّي الإتاوة الدوبل اللي طالع الجسر يدفع واللي نازل منه
يدفع برضه.. وبعد ساعتين إتصل بيه "إسماعيل" تاني وقال له: ما فيش فايدة
الناس ما بقاش عندها نخوة برضه بيدفعوا من غير ما يعارضوا.. راح....
- ياعم هيَّ نكتة ولّا حدوتة؟
- اسمع بس.. قام "عتريس" قايل له:
ما بدّهاش أنا جاي لك ع الجسر.. ولمّا راح جمع الغفر وقال لهم اللي يطلع على الجسر
تدفّعوه الإتاوة ولمّا يبقى فوق الجسر تغتصبوه وتعملوا فيه حاجات بطّالة قدّام
الناس كلها وامّا ينزل من ع الجسر تدفّعوه الإتاوة تاني.. وجاب كرسي وقعد ماسك
الكامرا مستني أي حد م الناس يمكن الدم يغلي ف عروقه ويعارض.. وبعد شويّة سمع واحد
من أهل البلد بيزعّق ويشخط وصوته عالي.. قال لرجّالته: هاتوا الراجل ده علشان اصوّره..
جابوا له الراجل وهو حاطط ديل الجلابيّة ف بُقّه وماسك كلسونه ف إيده.. قام
"عتريس" قال له: أخيراً لقيت حد بيعترض ف أم البلد دي.. رد الراجل وقال
له: أبداً يا سي "عتريس".. أنا استجري.. أنا بس باقول يا ريت تزوّدوا
عدد الغفر اللي بيغتصبونا علشان نلحق نروح الغيط نرويه ونروّح بدري.
- ها ها ها ها.. يخرب بيتك.. ده انت عيّل سو.
- بس اسكت يا جدع إنت وهو.. اسمعوا كده ضرب
النار ده جاي منين؟
- باينّه جاي من عند غيط الحاج
"سمير".
- لا يا عم ده من الناحية التانية اللي عند
أرض "أبو كامل".
- أستر يارب وعدّي الأيام دي على خير.
- فوّقوا كده يا رجّالة.. واستعدّوا.
- وهي العصيان اللي معانا دي ح تصد قدّام البنادق
والفرافر والطبنجات؟
- أهي الكترة تغلب يا سيدي.. ركّك بس ما حدش
يجري جوّه داره ساعة الساعة.
- يا جماعة ما تنسوش إن النبي - عليه الصلاة والسلام
- قال ف حديثه الشريف: {من قُتِل دون ماله فهو شهيد، ومن قُتِل دون أهله فهو شهيد،
ومن قُتِل دون دينه فهو شهيد، ومن قُتِل دون دمه فهو شهيد}.. صدق رسول الله.
- صدق رسول الله عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام.
- وبيقول لكم إن فيه راجل راح للرسول - عليه
الصلاة والسلام - قال له: يا رسول الله أرأيت إن جاء رجلٌ يريد أخذ مالي؟، قال له
الرسول: فلا تعطِه مالك، قال الرجل: أرأيت إن قاتلني؟، قال الرسول: فقاتله، قال
الرجل: أرأيت أن قتلني؟ قال الرسول: فأنت شهيد، قال الرجل: أرأيت إن قتلته؟، قال
الرسول: فهو في النار.
- الله أكبر.. اللّهمَّ ارزقنا الشهادة يا رب
العالمين.
- يا عم والعيال اللي متعلّقين ف رقبتنا دول
يتشرّدوا ولا يشحتوا؟
- ربّك ما بينساش حد.. وبعدين هيَّ دي عيشة
اللي عايشينها دي.. ده الموت أكرم لنا.
- واللهِ عندك حق.. دي حتّى الكلمة كانت تخاف
تطلع من حلق الواحد.
- إحنا بقى عندنا الإنجيل المقدس بيقول: {لا
تخف بل تكلّم ولا تسكت، لأني أنا معك ولا يقع بك أحد ليؤذيك لأن لي شعباً كثيراً
في هذه المدينة}.
- إسمعوا اسمعوا.. ضرب النار اشتغل تاني.. يا
تري المجرمين ولاد الكلب دول بيهجموا على مين ده الوقت؟
وفي هذه الأثناء وبجوار النقطة كان بعضاً من
الخفر يمسكون بنادقهم الميري ويطلقون أعيرةً في الهواء وهم يضحكون:
- ياللا يا له منك له.. إدّيها كمان.. ده احنا
بقى لنا زمن ما ضربناش نار.
- صحيح.. من ساعة فرح العمدة على "فؤادة"..
وبعدها لمّا كنا بنصطاد أهل البلد أيّام المظاهرات.
- طب وح نفضل كده لغاية إمتي؟.. عايزين نروّح
نتخمد بقى.. حتّى في اليومين اللي ح نريّح فيهم ح يستلمونا.
- "إسماعيل" إدّي لنا أوامر إننا
بين كل وقت والتاني نضرب كام عيار كده علشان نروش أهل البلد ونرعبهم علشان يعرفوا
قيمتنا ويتأكدوا إنهم من غيرنا ما يسووش بصلة.
- أيوه يعني لغاية إمتي؟
- لغاية قبل الفجر بشويّة علشان ما حدّش
يشوفنا لمّا نور ربّنا يطلع.
- وبعدين هو انت لوحدك اللي صاحي؟.. ما هو بقية
الغفر بيضربوا نار ف الناحية الغربيّة من البلد.
- وإذا كان على كده تبقى سهلة.. ما احنا
شهريّاتنا ماشية والآشية معدن.. وما بنطلعش من دارنا إلّا الشويّة دول.. حلّل
لقمتك بقى يا خسيس.
- ألّا بصحيح يا جماعة ما تعرفوش
"إسماعيل" شال بقية السلاح اللي كان ف سلاحليك النقطة وودّاه على فين؟
- آه يا سيدي ده دسّه في الفيللا اللي ح
يقعدوا فيها في "دره" ومفهّم أهل البلد إن البلطجيّة سرقوه م النقطة
لمّا اتحرقت علشان يبقى ويلهم ويلين.
- طب ما هو فعلاً البلطجيّة معاهم سلاح ميري.
- ما همَّ جايبينه من "إسماعيل"
برضه.. بس ده مش كل السلاح يا ناصح.
- والله الواحد بقت دماغه بتلف مش عارف
الحقيقة فين.
- الحقيقة هيَّ اللي يقول عليها سي "عتريس"
وبس.. فاهم يا حلّوف.
- يا عم أنا ح أوجع دماغي ليه.. أهو اللي بيقولوا
لنا عليه بنعمله وخلاص.. هوَّ أكل وبحلقة؟