"شيء من
الخبث" | الفصل الخامس (2)
وسرعان ما قفز "طهطاوي" على صهوة
جواده ومضى مسرعاً لتهدئة الأجواء ومن خلفه رهطٌ من ضبّاط الهجّانة إلى أن وصلوا
للساحة الأماميّة، وما إن رآهم أهل البلد إلا وازدادت هتافاتهم ليعبّروا عن
إصرارهم وعزمهم الأكيد على مطلبهم العادل، وعند النافورة - التي تتوسط الساحة والتي
لم يعد ينبثق منها الماء منذ غادر "عتريس" المنزل - ترجّل "طهطاوي"
عن فرسه ذو الغُرّة البيضاء واعتلي السور القصير للنافورة وصاح في الناس :
- السلام عليكم.. باقول السلام عليكم.. إسمع
يا ابني انت وهوَّ.. يا رجّاله.. المظاهرة اللي انتم عاملينها دي ما لهاش أي تلاتين
لازمة.. إحنا ادّينا لكم كلمة إننا ح نعمل قعدة رجّالة أو قعدة عرب والغلطان ح
ندفّعه تمن غلطته.. صح ولّا لأ؟
الشيخ "إبراهيم":
- حصل.. بس آدي وش الضيف.. بقى لكم قد إيه
بتقولوا كده؟.. ولا عملتوا قعدة ولا وقفة.
"طهطاوي" :
- يا راجل احنا كنا مستنيين
"عتريس" يشد حيله شويّة ويطلع م الاسبيتاليا.. علشان ما فيش حد يقول
إننا اتلمّينا على راجل عيّان.
"حمداوي" :
- كل المدّة دي وما طابش؟.. ده لو ميّت كان
زمانه صحى !
"طهطاوي" :
- ما هو لو صبر القاتل ع المقتول كان مات
لوحده.. إحنا امبارح بس بعتنا جبنا الدكتور اللي بيعالجه.. قال لنا إن حالته عويصة
وجات له غيبوبة كذا مرّة وعياه ح يطوّل قد كام سنة كده.
"حمداوي" :
- يا سلام.. هو احنا داقّين عصافير علشان
نصدّق الكلام ده؟
"طهطاوي":
- هو انت كمان ح تفهم قد الدكتور ف صنعته؟.. وبعدين
انت برضه مش عايز تصطبر.. إحنا قلنا بقى معقول ح نقعد سنين من غير ما نحاسبه على دم
ولادنا الشُهدا والمنصابين؟.. بقى معقول مش ح نحاسبه ع اللي نهبه من البلد هوَّ ورجالته؟..
وعلى طول ما كدّبناش خبر واتفقنا على إن القعدة دي ح تتم بربطة المعلم يوم الاربع
الجاي.
"وديع" :
- أومّال ما قلتوا لناش ليه؟ إنتم مستنّيين
لمّا البلد تولع.
"طهطاوي" :
- إنت مالك انت؟.. إنت ليك حد مات؟.. على رأي
المثل: أهل الميّت صبروا.. والمعزيين كفروا.. وبعدين يا ابني الكلام ده لسّه امبارح
بالليل.. ما لحقش يبرد.. وكنا ناويين نقوله لكم ف اجتماع بكره السبت مع أهل البلد.
"حمداوي" :
- بصراحة بقى الاجتماعات دي باخت قوي وبقت
ماسخة ع الآخر.. وما بيحصلش من وراها لا فايدة ولا عايدة.. دول رجّالتك واخدينها
مقاولة لحسابهم وهاتك يا رغي ودَش.
"طهطاوي" :
- خلاص يا عم حقّك على راسي من فوق.. بلاها اجتماعات..
إحنا ولاد كلب.
"شحاته" :
- بلاها ازّاي.. دي هيَّ دي الطريقة الوحيدة
اللي بتعرفوا بيها مطالبنا.
"طهطاوي" :
- ما ترسوا لكم على بر.. نفتح الشباك ولا
نقفله؟.. ما انتم كل اجتماع بتقعدوا تتخانقوا فيه .. إشي فلان عايز إيه والتاني
عايز أبصَر إيه والتالت عايز ما ادرِك إيه.. ومش قادرين تتفقوا على حاجة واحدة.. أقول
لكم.. أنا عندي فكرة مش بطّالة.. إيه رأيكم لو احنا - الهجّانة يعني - نختار من
وسطيكم كام راجل كده ينوب عنكم علشان تبقى الاجتماعات دي محبوكة قصدي محكومة.. والكام
راجل دول نسمّيهم مجلس الاستشارة اللي ظباط الهجّانة ح يستشيروهم ف أي استشارة تخص
البلد ويكون رأيهم استشاري.. تحصيل حاصل يعني.
وفي اللحظات التي استهلكها الناس في محاولة
فهم العبارة الأخيرة "لطهطاوي" بما فيها من كميّة السين والشين والصاد ومعنى
"تحصيل حاصل" عاجلهم "طهطاوي" وكأنّه يريد توريطهم في الأمر وقال
:
- خلاص.. على خيرة الله.
ووقع الناس في شرك ما يسمّى بمجلس الاستشارة
دون أن يدركوا الغرض الخبيث وراء تشكيله، وأراد أحد الشباب السذّج أن يتذاكي قليلاً
ولكن في أمرٍ مختلفٍ غير ذي أهميّة فقال :
- ماتكروتناش يا سي "طهطاوي" وتاخدنا
ف طوكر.. إحنا إيش عرّفنا إن القعدة دي ح تحكم بالحق مش يمكن تطرمخوا على "عتريس"؟
"طهطاوي" :
- الله يسامحك.. عموماً انت ف سن ولاد ولادي..
ومش ح احاسبك على كلمة تطرمخوا دي.. ح اعتبرها فورة شباب.. بس عايزكم تعرفوا إننا
لوعايزين نطرمخ كنا طرمخنا من زمان.. وعلشان ما حدّش يظن فينا ظن وحش ح نسمح
لشويّة من أهالي الشُهدا يحضروا القعدة.. بس باحترامهم.. لإن لو فيه حد قل أدبه أو
خرج عن نظام القعدة ح نطرده برّه ومش ح نسمح لحد بالحضور تاني أبداً.
ونزل "طهطاوي" عن سور النافورة
القصير وتوجّه إلى دوّار العموديّة وأمامه "عدنان" يدفع الناس من حوله
ليفسحوا له الطريق، وما إن استقرّا بالداخل حتّى قال "عدنان" :
- الله ينوّر يا سي "طهطاوي".. أكلتهم
ف كلمتين.. بس ما كانش لازم تسمح لهم بحضور القعدة دي خالص.. كده ممكن يعرفوا إن
الموضوع تمثيل ف تمثيل.
- لسّه بدري عليك ياد يا "عدنان"..
فاضل لك كتير علشان تستوي.. أنا يا اهبل ح اخلّيهم يحضروا كام جلسة كده علشان
يطمّنوا لنا.. وبعدين نزق عليهم ناس من بتوعنا يعملوا نفسهم ف صف
"عتريس" ويجرّوا شَكَلهم ويمسكوا ف بعض ويعملوا هيصة وهُلّيلة برّه
القعدة أو جوّاها.. وساعتها ح انفّذ تهديدي وامنعهم م الحضور.. ونخلّي القعدة
بيننا وبين بعض علشان نمنع الفوضى.. فهمت يا غشيم؟
"عدنان" :
- يا ابن المدَقْرَمَة يا فندم.. لامؤاخذة.. قصدي..
يا حلاوة أفكارك يا فندم.
ضحك "طهطاوي" مقهقهاً وقال :
- طب يا اخويا شوف لي حاجة أبّل بيها ريقي أحسن
نشف وبقى عامل زي الحطبة من كُتر الكلام.. علشان نلحق نروح للعمدة نطمّنه.. على الله
يتمر فيه ويعرف مين اللي نافعه بحق وحقيق.
"عدنان" وهويهرول مسرعاً :
- من عيني يا سي "طهطاوي".. ربّنا
يخلّيك لنا وللعمدة.
أما في الخارج فقد مكث الناس لبضع دقائق
يتحاورون فيما حدث ثم ما لبثوا أن تفرّقوا لحال سبيلهم على أن يلتقوا يوم الأربعاء
التالي.